العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

«هيئة الاتحاد الوطني»... تاريخ يكتب وطناً

سطور من بين دفتي النضال الوطني...

منذ إضراب الطلاب في المحرق في العام 1928، إلى انتفاضة «غاصة» اللؤلؤ في العام 1932، إلى احتجاجات الشيعة المطالبة بتحسين المحاكم بين العاملين 1934 و1935، وصولا إلى الاضرابات المتكررة التي قادها عمال شركة ب»بابكو» في الاعوام 1942، 1948 و 1965، سجلت محطات نجحت أو أخفقت في إحداث تغييرات حقيقية في صناعة تاريخ هذه الرقعة من الأرض. فمنذ إدخال الاصلاحات الادارية في 1926، أصبحت الحركات المطلبية ظاهرة ملازمة للمجتمع البحريني، حتى صار المضي في البحث عن تاريخ النضال الوطني في البحرين، حديثا يتجذر من هوية الوطن. العمل الطلابي والحركة النقابية وهيئة الاتحاد الوطني، كلها تأثيرات تربطها علاقة وثيقة لا تنفك، وخصوصا عند التفصيل في تاريخ النضال الوطني، ذلك النضال الذي جمع الاطياف والمذاهب ووحدهم نحو الهدف، بشكل لم يشهده التاريخ من قبل.

التحركات المطلبية وظلال ثورة الضباط الاحرار مصر، و»إذاعة صوت العرب»، وصحيفة «صوت البحرين»، ومن بعدهم قرار الأمم المتحدة بتصفية الاستعمار من المنطقة، كلها معطيات صاغت مرحلة الخمسينات من القرن الماضي.

عدد من الباحثين وصف تلك الحركات بـ»الفجائية والعفوية الخالية من التنظيم» فيما ذهب آخرون إلى اعتبارها من افضل ما قدمه شعب عريق مثل شعب البحرين.

إضراب السواق

بدأت الخمسينات بفتنة طائفية بين الشيعة والسنة، ودفعت تلك الفتنة عقلاء القوم إلى التحرك باتجاه «اصلاح ذات البين» وتوحيد الصفوف حول قضايا وطنية جوهرية. وتزامن مع الفتنة الطائفية حوادث أخرى، وواحدة من تلك الحوادث كانت النواة الأولى لتأسيس حركة «الهيئة»، التي بدأت باسم «الهيئة التنفيذية العليا» وتغير اسمها لاحقا إلى «هيئة الاتحاد الوطني».

النواة الاولى تمثل في مبادرة من النخبة لحل مشكلة التأمين على السيارات. ففي سبتمبر أضراب سائقي الباصات وسيارات الاجرة إثر قرار فرضت الحكومة بموجبه عقود التأمين على السيارات بأسعار مرتفعة. كان هذا الاضراب من أبرز المظاهر الاجتماعية للحركة المطلبية في أواسط الخمسينات، وبعد ذلك كان لتحركات العمال والطلاب ورجال الدين والتجار، آفاق أوسع ليلامس ذاك التحرك الهم العام والقضايا القومية والمدنية، بغض النظر عن الانتماء، على خلاف التحركات السابقة التي كانت تستقطب فئات معينة من دون الأخرى.

مان اضراب سائقي سيارت الاجرة نواة لتجمع حقيقي بين الاطياف جميعها، وذلك بعد أن تحرك النخبة واقتراحت خلا لتأسيس «صندوق التعويضات التعاوني» الذي استمر في نشاطه حتى العام 5991- وبسبب النجاح في حل المشكلة وجدت النخبة فرصتها للتحرك لحل مشكلات الوطن الاخرى.

انتخب عبدالرحمن الباكر رئيسا للصندوق، وقام باستخدام مقر الصندوق للاجتماع مع النخبة والحديث عن الموضوعات الاخرى، مما أغضب المستشار البريطاني تشارلز بليغريف، والذي أمر بسحب جواز الباكر بحجة انه «قطري الجنسية». احتجت النخبة وتحركت شبكة واسعة من النشطاء في كل مكان، وتوحدت اعقاب ذلك لتؤسس «الهيئة التنفيذية العليا» في السنابس في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 4591، وانتخب ثمانية أعضاء (اربعة من السنة واربعة من الشيعة) مع قاعدة من الشخصيات (بلغ عددها 021 شخصا حسب كتاب عبدالرحمن الباكر، و001 شخص حسب ما يذكره ابناء عبد علي العليوات) من مختلف مناطق البحرين.

النخبة المؤثرة اصبحت منذ ذلك الحين حلقة الوصل ما بين الشعب وأقطاب التحركات السابقة، ولذا حصلوا على بيعة شعبية بعد التأسيس، مرة في مسجد المؤمن بالمنامة في 61 اكتوبر ومرة أخرى في مسجد العيد في المنامة ب، تاريخ 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 4591. كما وتشكلت منهم «هيئة ظل» سرية لتتولى أمر القيادة في حال اعتقال أعضاء الهيئة.

تتابعت التحركات، وأخذت اتساعا، فتقدمت «الهيئة التنفيذية العليا» برئاسة عبدالرحمن الباكر بمطالبها إلى الحكومة، منها تأسيس برلما منتخب من الشعب، يكون الصوت الشرعي الأوحد في البلاد، ووضع قانون مدني وجنائي موحد، ناهيك عن إنشاء محكمة استئناف تضم في عضويتها قضاة متمرسين في القانون، والسماح بقيام نقابات عمالية وحرفية ومهنية. رفض استقبال الوفد من دون توضيح الأسباب، وأعلن وقتها أن الحكومة عاقدة العزم على إدخال بعض الاصلاحات مثل تعيين مستشارين في المحكمة العدلية، وإصدار قانون العمل وصوغ قانون العقوبات.

الأزمة بين الحكم والمعارضة

 

بحسب ما يؤرخ الباحث فؤاد الخوري في كتابه «القبيلبة والدولة في البحرين، تطور نظام السلطة وممارستها»، فإن الأزمة بين الحكم والمعارضة وصلت إلى نقطة اللارجوع، ونشأت عن هذا الوضع ازدواجية متناقضة في السلطة السياسية، سلطة المعارضة المستمدة من تأييد الشعب، وسلطة الحكم القائمة على الشرعية والحقوق التاريخية والاعراف التقليدية المتوارثة».

ويمضي في القول» «وخلال العامين التاليين، من بين العامين 1954 و1956، جاءت الحوادث لتقوي وتغذي هذه الازدواجية في السلطة السياسية، وعندما رفض الحاكم استقبال الوفد، وضع الهيئة في موقف حرج واختلف اعضاء الهيئة في شأن الرد على موقف الحاكم، منهم من دعا إلى إعلان الإضراب العام، ومنهم من طلب العمل بالتروي والهدوء، ورأى الفريق الثاني بقيادة الباكر ان الاضراب واعمال الشغب لم تؤد في السابق إلى نتيجة ملموسة، بل على عكس أدت إلى إجراءات قمعية أشد وأدهى، وكانت النتيجة أن تناسى الناس أمر الاصلاحات والمطالبة بها (...) وفي النهاية توصل أعضاء الهيئة إلى اتفاق يقضي بإعلان إضراب سلمي تتخلله لقاءات شعبية لتعبئة الجماهير، ومفاوضات سرية مع أهل الحل والربط، أي الرسميين الحكوميين والمعتمد البريطاني». جاء اللقاء الشعبي في 16 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه في مسجد المؤمن، لحقه آخر بعد شهر تقريبا، وقدر عدد الحضور في الاجتماعين بما يربو على 10 آلاف، وسجل الوجود النسائي حضورا لافتا في الاجتماع الأخير، ليتم التأكيد في كلا الاجتماعين على حق الشعب في التصويت والانتخاب وحق تقرير المصير والاستقلال والوحدة والعدالة والحرية.

إلى ذلك تؤكد المراجع التاريخية أن عبدالعزيز الشملات وعبدالرحمن الباكر ومحمود المردي لعبوا أدوارا بارزة في تلك الاجتماعات، إذ كانوا يشرفون على حفظ النظام وأداء قسم الولاء وكانت الجمعية العمومية المؤلفة من 120 عضوا تساعد الهيئة في حفظ النظام وترتيب الحضور.

 

أراد الباكر الاستفادة من التأييد الشعبي للهيئة فراح يتصل ببعض المسئولين البريطانيين من دون الرجوع إلى أعضاء الهيئة.

يقول الباكر، انه فعل ذلك لأنه بات مقتنعا بعدم قدرة الهيئة على المحاربة على أكثر من جبهة في آن، وفي كتابه «من البحرين إلى المنفى» يقول: «من الممكن إرباك الحكومة ولكن لا يمكن محاربة البريطانيين في الوقت نفسه، لأن ذلك يعني أن نرمي بأنفسنا في معركة غير متكافئة».

وبينما كانت المعارضة تقوى وتشتد وتوسع اتصالاتها، كانت الحكومة تتخذ إجراءات جديدة لقمع التمرد، وللهدف ذاته تم تشكيل مجلسين، أحدهما للتعليم والآخر للصحة في خريف 1955، وكانت هذه البادرة رغبة من الحكومة في مشاركة الشعب في إدارة قطاع الخدمات، بيد أن «الهيئة» فهمت هذا الاجراء على انه تحد للشرعية التي اكتسبتها من التأييد الشعبي، فرفضت التعاون مع المجلسين داعية شارعها إلى المقاطعة، وفي الآن، قامت بجمع آلاف التوقيعات المؤيدة للمطالبعا الأولى، وأعلن تشكيل الاتحاد العمالي برئاسة محمد الشيراوي. الحكومة وافقت في مطلع العام 1956 على انتخاب المجلسين (خمسة منتخبون وثلاثة معينون) ودخلت الهيئة النتخابات وفازت بجميع المقاعد. غير ان الحكومة قامت بتعيين من خسروا الانتخابات ووضعتهم في صف المنتخبين، مما أزم العلاقة، وبسبب ذلك لم تتحرك امور المجلسين.

الاعتراف بالهيئة

تتابعت الحوادث، لتظهر الحكومة من جديد نيتها تنفيذ بعض الاصلاحات، ولكن من دون الاعتراف بالهيئة كجهة تمثل الشعب بصفوفه المهتلفة، وهذا ما لم ترفضه المعارضة التي تصر على مبدأ الاعتراف بها رسميا، يقول الخوري: «غاب عن بال قيادة المعارضة أن التمثيل الشعبي والسلطة القبلية صنوان لا يلتقيان، لذلك كان اصرار المعارضة على مبدأ التمثيل امرا يقوي الحكم لا يضعفه».

ومع مضي الوقت، بدأت تظهر في صفوف المعارضة انقسامات واتجاهات كان منها انحياز البامر والمقربين منه إلى اتجاه التيار الناصري، والشعارات التي ترفع اسم الوحدة والعدالة الاجتماعية، في حين استمر الشملات في محاولة الوصول إلى اتفاقات مقبولة بين أبتاعه وبين السلطات المحلية، ليتفكك باقي الاعضاء الذين راحوا يبحثون عن تحالفات جديدة على الصعد الداخلية والخارجية.

ومع الوقت، ضعفت قيادة المعارضة بسبب رفضها انواع التسوية مع السلطة، وتشددت الصفوف المتناقضة ايديولوجيا في تركيبها، لذلك لم تعد لها القدرة على اتخاذ الموقف الموحد، وهكذا أخذت الحكومة تعزز قوات الشرطة في يناير/ كانون الثاني من العام 1956 غير مكترثة بالاحتجاجات الشعبية على هذا الاجراء.

كان هم الهيئة الحصول على اعتراف رسمي لتمثيلها للشعب، ما يعني الموافقة على مطالبها، منشية بالخطب الحماسة والحركة التحررية التي كان يقودها جمال عبدالناصر وصيته الذائع في مصر وباقي الدول العربية. ولكن عندما حصلت على الاعتراف الرسمي بعد تغيير الاسم إلى «هيئة التحاد الوطني» في تحركت جماهير الهيئة ضد الشركات البريطانية مما ادى لدخول الجيش البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 وحسم الأمور لغير صالح الهيئة.

تصاعد الأزمة

بدأت الأزمة تشتد عندما هاجمت مجموعة من المعارضين سيارة وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد في المحرق في 2 فبراير/ شباط 1956 وهو في طريقه إلى قصر الضيافة قادما من المطار، على أصوات الجماهير الحاشدة التي خرجت لتهتف ضد الاستعمار ومؤيديه. أعقب ذلك الهجوم إضطراب في العلاقة بين الهيئة والحكومة من جانب وبين الهيئة وبريطانيا، التي كانت حتى ذلك الوقت ليست ضد الاصلاحات التي ترفعها الهيئة.

المعارضة وقعت في حيرة بين أمرين عندما نأت أزمة قناة السويس، الأول اما الاضراب عن العمل وادانة البريطانيين، ولكن ذلك أصبح يشكل عبئا اقتصاديا نتيجة أن غالبية المضربين هم من العمال والحرفيين والباعة، والآخر عدم الاضراب وذلك يعني استلام بعض المتطرفين الشارع وتثويره باتجاه المصادمات مع الحكومة ومع البريطانيين في آن واحد.

الضغط الشعبي

أخذ الضغط الشعبي يتواصل ضد الحكم حينا وضد المعارضة حينا آخر، مطالبا بوضع حد لهذه الأزمة، ما جعل الحاكم يجتمع مع بعض رموز المعلارضة، والاتفاق على الاعتراف بالهيئة شريطة ابعاد الباكر، ليتولى الشملان مهمة السكرتارية، وأن يتغير اسمها من «الهيئة التنفيذية العليا» إلى «هيئة الاتحاد الوطني»، وتوالت الاحداث كما ذكر اعلاه.

استمرت الحكومة في مساعي ايجاد الحل الوسط، وعقدت لقاءات بين ممثلي الحكومة «الهيئة» وفي قصر الرفاع، وبدلا من التوصل إلى نقاط اتفاق، أظهرت اللقاءات الكثير من المتناقضات بين مطالب وأهداف الحكومة من جانب، والفراق داخل المعارضة ذاتها من جانب آخر.

ظلت الحكومة تصر على الاصلاحات المدنية كقانون العمل وقانون العقوبات وإعادة تنظيم المحاكم، التستمر على الطرف المقابل المعارضة في مطالبتها بالحقوق السياسية والمدنية، كالتمثيل النيابي والعمل السياسي والنقابي وزيادة لأجور، حتى وصلت تلك اللقاءات إلى طريق مسدود.

استمرت المفاوضات

وعلى رغم ذلك، استمرت المفاوضات لتحقق أهداف الحكومة التي تسعى إلى إبراز تناقضات المعارضة إلى الشارع الشعبي لتضعف التأييد والتنظيم في آن، في الوقت الذي كانت فيه المعارضة تستمر في المفاوضات لتتجنب الضعف أو شل القدرة على السيطرة ما قد يقود إلى كارثة سياسية ما لم تجد لنفسها تنظيما بديلا في حال تفككت الدولة.

أبدت الحكومة من جانبها لينا أكثر وضوحا، وسمحت للباكر بالعودة إلى البحرين في 17 سبتمبر/ ايلول من العام 1956، الذي استقبل بحفاوة شعبية كبيرة، غير أن اللين سرعان ما تبدل أعقاب العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر 1956 ما أشعل الازمة من جديد، وجعل التظاهرات تعود من جديد ولكن بحلة اكتست بالشغب الاعنف على الاطلاق جراء الاجواء المشحونة وبالتعاطف القومي، ما جعل الحكومة تعتقل غالبية الرموز، وتفتت المعارضة.

نزل الجيش البريطاني قادة الهيئة وتمت محاكمة عبدعلي العليوات، عبدالعزيز الشملان، عبدالرحمن الباكر بالنفي إلى جزيرة سانت هيلانة، وابراهيم فخرو وابراهيم بن موسى بالسجن في جدا، بعد محاكمة صورية مغلقة تمت في مركز شرطة البديع... محاكمة أجهزت على أول حركة سياسية اجتماعية، بحرينية خليجية في النصف الثاني من القرن العشرين خلال اعتقال قادة الهيئة.

ما حل بالمناضلين

فر من فر إلى سورية، مصر، العراق ولبنان، فعادت البحرين خامدة بعد اسابيع قليلة من النفي. وفي العام 1961 اطلقت الحكومة البريطانية سراح الشملان، الباكر والعليوات، فعاد الباكر إلى بيروت ليمارس التجارة ما بين لبنان وقطر، وقصد الشملان دمشق وافتتح متجرا لبيع أسلحة الصيد، فيما لم يجد العليوات سوى النجف مقصدا، ليتوفى هناك بعد تسعة أعوام، كما توفي الباكر في لبنان في العام 1967، ليعود الشملان إلى أرض الوطن وينتخب نائبا لرئيس المجلس التشريعي في العام 1972، وبعد الاستقلال عين سفير البحرين في القاهرة.

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً