العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

بعد خمسين عاما... الوطن يبقى للجميع المنامة تحتضن ولادة أول كيان شعبي في البحرين   

المنامة حيدر محمد لا يمكن لأي باحث تاريخي ينقب عن هيئة الاتحاد الوطني - أو الهيئة التنفيذية العليا كما أسميت في الأساس - التي نحتفل بيوبيلها الذهبي، إلا أن يقف غير مرة على موقعية الحراك الزماني والمكاني لرجالات هذه الهيئة. فالزمان لم يكن طبيعيا مع وجود قوى خارجية مستعمرة لهذا البلد، ونظام سياسي/ تنفيذي لم تكتمل أطره القانونية بعد. العاصمة المنامة، هي الأخرى مقترنة بهذا الكيان السياسي الشعبي الأول من نوعه في تاريخ البحرين الحديث. فمنها اشتعلت الشرارة الطائفية التي أرادت هذه الهيئة» تحصين البلاد من تبعاتها الخطيرة في قصم ظهر الوحدة الوطنية للبلاد.

«المناميون لاتزال ذاكرتهم تحتفظ بالكثير عن تاريخ هيئة الاتحاد الوطني»... «الهيئة برجالاتها وباجتماعاتها. ذلك أن الكثير من زعماء الهيئة والناشطين في صفها القيادي من كلا المذهبين نشأوا في كنف المنامة وترعرعوا بين فرجانها القديمة وفي مساجدها ومآتمها ومجالسها التي كانت منذ عقود منطلقا للتكوين الحركي السياسي، سواء في بعده الشعبي أو الرسمي.

ربما استطاعت خمسون عاما من الزمن أن تمحو جزئيات كثيرة من تاريخ هذه الهيئة، لكن تلك السنين لم تقض على نضال شعبي مشترك من أجل وطن أفضل، وحياة أكثر عدالة لكل مواطن من دون الالتفات إلى مذهبه أو عرقه.

«شرارة عاشوراء، لا تعدو كونها واحدا من الاسباب المباشرة في تكوين الهيئة»، لكن إلى جانب ذلك، تبرز عشرات الأسباب والمسببات، منها ما هو داخلي بحت، ومنها ما هو متعلق بالتوجه القومي الذي بدت ملامحه في البيوتات الصغيرة، ومجالس الرواد وفي المقالات الصحافية أيضا، وشيوع ثقافة شعبية تدعو إلى ضرورة الجهر بالمطالب، والحاجة إلى توحيد النشاط، والوقوف بحزم أمام ما كانت تنظر إليه الجماهير على أنه تجاوز من القوى المستعمرة للخطوط الحمراء.

«الوسط تلتقي أحد أبرز المهتمين بتاريخ البحرين نجيب عبدالمحسن المخرق، إذ يرى أن البحرين عرفت عدة حوادث تاريخية على درجة عالية من الأهمية قبل تأسيس الهيئة» وتركت بصماتها عليها لاحقا.

 

يقول المخرق: شهدت البحرين قبل قيام هيئة الاتحاد الوطني الكثير من الحوادث، منها حركة عمال النفط في العام 1938 وهي بسبب تسريح مجموعة من الموظفين لدى شركة النفط، والوجود القومي في البحرين العام 1946 والجبهة الوطنية العام 1948 والتي كانت تطالب بمجلس تشريعي ونقابة عمال وعزل المستشار».
كل ذلك يدل على أن البلاد عرفت أنواعا متعددة من المطالب الاجتماعية أو السياسية، إلى أن جاء عقد الخمسينات، يضيف المخرق في عقد الخمسينات اشتدت المطالبة الإصلاحية بسبب مجموعة من الحوادث، منها حادث القلعة في 1 يوليو/ تموز 1954 الذي دار حول المسيرة التي خرجت من مسجد مؤمن بالمنامة قاصدة القلعة احتجاجا على محاكمة عائلة من أهالي سترة».
ويسترسل المخرق قائلا: حدثت مواجهة بين الشرطة والمتظاهرين، قتل فيها ثلاثة أشخاص حالا، وأصيب 12 شخصا، وكذلك حركة سواق سيارات الأجرة التي كانت تطالب بتشكيل نقابة خاصة بهم واستصدار قانون جديد للتأمين، وتعليق صدور مجلة صوت البحرين» والقافلة التي كانت تعمل على فكرة الاتحاد بين الطائفتين في البحرين».
غير أن حادث عاشوراء في 20 سبتمبر/ أيلول الموافق 10 محرم 1363هـ، غير الموازين على الساحة، وكان مخططا لها... يجمع الكثير من معاصري الحادث، وممن كتبوا عنه أن الحوادث التي وقعت في ذلك اليوم كانت معدا لها مسبقا، وإن اختلفوا في من كان يقف وراءها، اهو المستشار تشارلز بليغريف أم شخصيات أخرى، وإن كانت المصادمات مقصودة».
وتمثلت هذه الحادثة في المصادمات التي حدثت بين أفراد من الطائفتين السنية والشيعية عند انعطاف مواكب العزاء عند مدرسة المنامة الثانوية استخدم فيها العصي والزجاج وجرح أكثر من 70 شخصا، إلى أن جاءت قوات الشرطة لفك الاشتباكات، وانتشرت أنباء هذه الحادثة خارج المنامة، وحدثت بعض الاشتباكات في عراد، أسفرت عن إصابات بالرصاص الحي ... هذا الحادث جعل المجتمع البحريني يدخل في بداية مواجهات طائفية لولا تدخل العقلاء من الطرفين، ما أسفر عن تهدئة الأمور ورجوعها إلى ما كانت عليه. تأتي أهمية هذا الحادث - وفقا للمخرق - بعد علم المستشار بوجود محاولات للتقريب بين الطائفتين، والتقدم بمطالب إصلاحية موحدة.
واحتضن مسجد مؤمن أحد أشهر مساجد المنامة في العام 1953 تجمعا نخبويا هو الأكبر من نوعه، جمع رموزا وشخصيات من الطائفتين الكريمتين سعيا إلى تحصين الوحدة الوطنية، وكان المواطنون يملأون جنبات المسجد والشوارع المحيطة به، وكانت تلك الجموع الغفيرة تنتظر ما سيفضي إليه هذا الاجتماع المهم والاستثنائي... وفعلا نجح الاجتماع في الحد من حال الغليان الطاغية على التفكير، ودعا إلى تحكيم العقل والروية بدلا من الانجرار وراء حوادث مشبوهة ولا تعرف خيوطها.
 

المنامة تحتضن ولادة الهيئة

وفي غمرة الحديث عن ولادة هذا التنظيم الشعبي يتحدث المخرق قائلا: «قبل إعلان الهيئة رسميا، عقدت مجموعة من الاجتماعات بالمنامة في مسجد الشيخ خميس ومسجد العيد قرب مقبرة الحورة» واجتماعات أخرى في مناطق متفرقة في البحرين، حتى عقد اجتماع الإعلان عن الهيئة رسميا في مأتم بن خميس بالسنابس، باسم الهيئة التنفيذية العليا، وانتخبت من قبل 50 شخصا، وقاموا بانتخاب ثمانية أشخاص لتقديم المطالب الوطنية للحاكم».
والأعضاء الثمانية انتدبوا ممثلين للهيئة وهم: عبدالعزيز سعد الشملان، عبدعلي العليوات، عبدالرحمن الباكر، السيدعلي كمال الدين، إبراهيم بن موسى، عبدالله أبوذيب، محسن التاجر، إبراهيم فخرو. وفي 28 أكتوبر/ تشرين الأول ،1954 أعلنت «الهيئة إرسال العريضة المتضمنة للمطالب إلى الحاكم وأهمها قيام مجلس تشريعي منتخب، إعداد قانون مدني وجنائي، إصلاح المحاكم وحق تكوين النقابات.
كان هناك ايضا اجتماع في المحرق 1954 بداية لقيام ما سمي لاحقا بهيئة الاتحاد الوطني، وبعد هذا الاجتماع التقت الأطراف الممثلة لطوائف الشعب في أول اجتماع «اتحادي في الرابع من شهر رمضان في منزل الحاج حسن العرادي بمنطقة رأس الرمان «بالقرب من منزل بليغريف».
ويقول مستشار حكومة البحرين عن اجتماع 16 أكتوبر 1954 في المنامة إنه اجتماع كبير مثير للقلق، الشيعة والسنة يجتمعان في احد مساجد العاصمة في ذكرى الأربعين، هناك خطب ومطالب من الشبان المناوئين للحكومة، وإنه من المثير للقلق أن تجتمع الطائفتان في مكان واحد. وعقد اجتماع آخر في 9 نوفمبر 1954 في مصلى العيد في المنامة سمي بهذا الاسم نظرا إلى أن ساحة المسجد المقابلة تستغل كمصلى في الأعياد».
في اكتوبر، وبعد اجتماعات التأسيس اجتمعت رموز من الطائفتين بحضور منصور العريض وحاكم البلاد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة بحضور بليغريف، وفي الوقت ذاته، عم الإضراب المنامة، ولم يكن إضرابا بقدر ما كان عصيانا مدنيا. وكان قد عقد في الخميس «27 أكتوبر اجتماعا بين الشيخ سلمان واثنين من أعضاء الهيئة الشملان وكمال الدين».
تسجل بعض المصادر البريطانية هذا الحادث، كما أنها تذكر أيضا أن وجهاء المنامة وبعض الصحافيين العرب والبحرينيين كانوا وراء هذا التنظيم الأهلي. وتقدمت الهيئة المذكورة بمطالبها الاثني عشر والتي سارع حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة إلى التجاوب مع بعضها، في ظل الممكن آنذاك.

 

نشاط الهيئة يثير بليغريف

وعن نشاط الهيئة» يجيب المخرق كانت الهيئة تعبر عن نفسها من خلال المنشورات والمشاركة في المناسبات الدينية، وتستخدم أساليب مختلفة لإيصال رأيها إلى الحكومة المحلية والبريطانية، مثل طلب المقابلات وكتابة العرائض والقيام بالإضرابات المنظمة التي يستجيب لها قطاع واسع من الناس، وكانت المنامة والمحرق المسرحان الأساسيان لتحركات «الهيئة مع تعاون الكثير من المناطق معهم.

في حال حدوث الاضرابات تعطل الأعمال، وتشرف الهيئة على تنظيم الأمور وتوفير المستلزمات الأساسية، كما حدث في المنامة من تنظيم سوق للأهالي قرب مسجد الخواجة. وكان لكشافة الهيئة الذين يلبسون بدلات من الخاكي وغترة ويقدر عددهم بنحو 05 شخصا دور مهم، إذ كان ظهورهم مقتصرا على الاحتفالات الكبيرة التي تنظمها الهيئة»، إلا أن المستشار اعتبرها نواة جيش خاص، لأنهم اخذوا في تنظيم الأمور العامة، ومنها تنظيم المرور وعبور الناس من المنامة إلى المحرق».

الحاج حسين كاظم أحد معاصري الهيئة يشير إلى أنه على رغم أن الحكومة لم تر شرعية التمثيل الشعبي سواء في الهيئة الوطنية العليا أو هيئة الاتحاد أو لجنتها التنفيذية، فإنها عمدت إلى اقتلاع الفتنة من دابرها عبر التفاوض مع رجالات الهيئة، نظرا إلى أوراق الضغط التي تمتلكها في البعد الشعبي، فبأمر من قادة الهيئة، عطلت الأسواق وأغلقت المحال التجارية أبوابها، هذا كله كان كافيا لأن يضع المستشار وكذلك السلطة التنفيذية في المنامة في مواجهة لم تكن متوقعة في حسابات كلا الطرفين!

ويرى المخرق أن عمل الهيئة التنفيذية العليا كان منصبا على محورين: إصلاح الأمور الداخلية التي منها إبعاد بليغريف عن البلاد، إذ كان يستحوذ على معظم الصلاحيات، وقيام مجلس تشريعي، وصرحت بريطانيا أن هذا شأن داخلي يمكن التوصل إلى حلول مرضية بشأنه للطرفين، أما المحور الثاني فمطالبة الهيئة بخروج بريطانيا من البحرين، وهذا الأمر لم يكن قابلا للنقاش بالنسبة إلى بريطانيا.

بليغريف في مرمى النار

يرن الهاتف في منزلي ويصلني صوت يقول: احذر يا بليغريف، سنطلق عليك النار، هكذا يتحدث المستشار بليغريف في كتابه السيرة والمذكرات عن تلك الفترة، وخصوصا في العام ،1954عندما شاعت في المنامة اضرابات ومظاهرات وأعمال عصيان، ففي هذا العام انتقلت المواجهات الطائفية من الشوارع إلى المحاكم ومن المجالس إلى مؤسسات الحكومة، فكلما صدر حكم لصالح طائفة، نقضه أبناء الطائفة الأخرى. وفي يونيو/ حزيران من العام ذاته انطلقت الحمى الطائفية من مركزها في العاصمة إلى مدن وقرى أخرى أهمها حوادث متفرقة في جزيرة سترة وفي المحرق وفي بقاع أخرى أيضا.

الحوادث كانت تجر الحوادث، المستشار والحكومة حاولا اجتناب المواجهة المباشرة مع قادة الهيئة، متبعين سياسة العصا والجزرة، ونجحت هذه السياسة في إغراء بعض الناشطين في الهيئة ومنحوا مراكز دبلوماسية وتنفيذية عالية المستوى، فيما خرج قسم محدود من الهيئة خوفا من العصا التي قد تستعمل. المنشقون عن الهيئة كانت غالبيتهم من الشيعة، لأنه لم يخطر ببالهم أن هذه المؤسسة الشعبية ستتعدى نطاق الدفاع عن الشعائر الحسينية إلى هيئة تنظيمية سياسية مناوئة للحكومة، لكن سياسة الترغيب والترهيب لم تفل عزيمة السواد الأعظم من نشطاء الهيئة الذين قضوا بقية سني عمرهم في السجون والمنافي.

هيئة عليا... لماذا؟

تقول الباحثة البحرينية الشيخة مي آل خليفة: مع تطور الحوادث والمواجهات ولدت الهيئة التنفيذية العليا، وكان سؤال بليغريف: لماذا عليا؟ وأعلى ممن؟ وكان الجواب أنهم يمثلون الشعب ... لم تعترف الحكومة بالهيئة التي يرأسها احد العرب، وكان بليغريف يراها نواة لحزب سياسي، فيما كانت المجموعة المكونة من ثمانية أشخاص تعد أول تجمع من نوعه في الخليج».

يتحدث بليغريف عن تجربة العام 1955م في مذكراته التي ترجمتها إلى العربية الشيخة مي كان الوضع السياسي يزداد سوءا، لا احد يمنع الهيئة أو يقف أمامها، التجار وأصحاب الأعمال يتذمرون من الإضرابات المتتالية، أخذت الهيئة تجهر في مهاجمتي، وفي الخارج أتعرض لهجوم إعلامي من راديو صوت العرب. بعدها وقعت سلسلة حوادث متفرقة مثل حادث البلدية، زيارات وفود أجنبية للبحرين، اجتماعات إضرابات. والاهم من ذلك كله هو بداية اعتراف رسمي بالهيئة».

وفي 18 مارس/ آذار نجحت الهيئة في عقد اجتماع مع الحاكم، وتمت الموافقة المبدئية على تأسيس مجلس استشاري. ولكن الفترة اللاحقة شهدت حال الانفلات ولم تعد الهيئة قادرة على ضبط الأمور.ربما لم يعتقد الكثير ممن عاصروا هذه الموجات المتقلبة أن الأمور ستنحرف بشدة نحو الأسوأ ليسدل الستار على الهيئة في الخامس من الشهر ذاته في عملية أطلق عليها بيبسي كولا. فبأمر من حاكم البحرين اعتقل الباكر والشملان والعليوات وإبراهيم بن موسى، وسبقهم إلى السجن إبراهيم فخرو.

بليغريف المغضوب عليه شعبيا يرى وفقا للوثائق البريطانية قبل مغادرته البلاد بيوم واحد، أنه كان من الأفضل للحكومة لقاء هيئة الاتحاد ومناقشة مطالبهم بدلا من المواجهة العنيفة معهم، لكن غالبية من شهدوا رأي العين ذلك المقطع الزمني، يملكون من الحجج ما يضعف ما قاله المستشار.

عمل وطني مشترك

ويختتم المخرق حديثه معنا مسجلا رؤيته لذلك العمل الشعبي المشترك إن قيام الهيئة كان على أساس المطالبة المشتركة للطائفتين الكريمتين للإصلاحات، وطالما كانت هناك حاجة إلى الإصلاحات فإن التحالف باق وإن اختلفت الأسماء كالعريضة النخبوية، والعريضة الشعبية، فكل ذلك وسائل للإصلاح، وبما أن الطائفتين الكريمتين في البلاد في سفينة واحدة، فإن إقصاء وتحجيم أية طائفة سيغرق السفينة، وإضعاف أية طائفة لن يكون نصرا للأخرى بقدر ما هو إضعاف لها، وهذا التحالف قابل للانتهاء في حال واحدة، وهي أن تحل القدرة بدل النسب، والخبرة بدل المحسوبية، والمساواة بدل التمييز».

بعد نصف قرن من الزمان، ومن موقع تقييم التجربة، يمكن أن تطال أسهم الكتاب عمل «الهيئة كجزء من المخاض الزماني بظروفه المحيطة، وقد يبالغ آخرون في رفع قدرها، لكن القدر المشترك الذي لا يقبل الجدال هو ما دللت الهيئة عليه من النضال الوطني المشترك من أجل رفعة الوطن... لكل من فيه.

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً