العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

جاسم مراد و«نشوار» السنين الخمسين

لم ينظروا إلى مصر كدولة أجنبية... والحماس عندما يطغى أحياناً

الحديث مع رجب مثل جاسم مراد، لا يراد منه إعادة استعراض الماضي الذي جرى استعراضه في هذا المكان غير مرة، ولكن الاساس منه هو تتبع بعض الحوادث التي لا ترد عادة في سياق الحديث عن الخطوط العريضة، وذلك أملا في تكامل الصورة لمن يريد مستقبلا ان يؤرخ للحركة الوطنية في البحرين والوقوف عند محطتها، والتي بلاشك ستكون واحدة من أهم وانضج المحطات، تأسيس الهيئة العليا للاتحاد الوطني.

لم يكن الشاب مراد في ذلك الوقت في البحرين عندما تم التأسيس، إذ كان يعمل في باكستان، ولكنه سرعان ما عاد والتحق بالهيئة وكان كما يصف نفسه من القاعدة التي ترفد الهيئة في عملها.

ويقول إن «الهيئة» لم يتهيأ لها المدى الزمني الملائم ولا الفرص الملائمة لتعطي ما يمكن ان تعطيه، فلقد كانت محاصرة بالكثير من الظروف السريعة التغير، والمناخ الداخلي الذي لم يكن ليساعدها على مراجعة خطواتها وتصحيح الخاطئ منها، فما هي إلا ثلاث سنوات فقط مرت في واقع يمور بالحركات والتقلبات والضغوطات من قبل السلطات الانجليزية.

يقول مراد: «على المستوى السياسي كان أن حققنا الكثير مما يعرفه الناس هنا، وأهم ما تحقق ذوبان كل الانتماءات الصغيرة في الانتماء الكبير للوطن، والوطن العربي في المقابل. ولكن على المستوى الداخلي، أستطيع القول إن «الهيئة» استطاعت وضع قانون العمل والعمال عن طريق التفاوض الذي أجراه كل من محمد قاسم الشيراوي وصلاح الدين مع أحد المسئولين الانجليز، والذي استطاعت «الهيئة» أن تميله إلى صالح العامل إلى الحد الذي أمكنها ذلك، وهو قاعدة قانون العمل الساري المفعول الآن مع بعض التغييرات البسيطة، كما تمكنت من إرسال عدد من الطلبة البحرينيين للدراسة في مصر التي كانت تدعم الطلبة العرب».

مصر و»الهيئة»

وعن مصر ايضا، يقول مراد إن العلاقة بين البحرين ومصر لم تكن وليدة الثورة فقط، بل وحتى قبل ذلك، إذ كانت ترسل المعلمين وتتقاسم دفع رواتبهم مع حكومة البحرين، وتستقبل وفود الطلبة الدارسين في مختلف المراحل التعليمية، فقد كانت مصر غنية وقوية.

لم تكن «الهيئة»، وربما أي فرد أو مؤسسة أو دولة في الوطن العربي، تنظر إلى مصر حينذاك كما ينظر إلى أي «دولة أجنبية»، صحيح أن هنام تحفظات على الاتصال بالقيادات المصرية والحركة الفاعلة، ولكن هذا لم يكن جريكة، ويسرد مراد «من المعروف أن كمال يعقوب وهو من الضباط الاحرار والمنتمي إلى المؤتمر الاسلامي الذي يرأسه لفترة الرئيس المصري الراحل أنور السادات كان حلقة الاتصال بين الحركة في البحرين والقيادة المصرية، وقد قام بتسهيل الكثير من الأمور التي كانت تحتاجها الحركة الوطنية عموماً... وبعد إلقاء القبض على قيادات الحركة، تحملت مصر عبئا عظيما في دفع كلف سفر وإقامة المحامين الذين تولوا الدفاع عن المنفيين في جزيرة سانت هيلانة، وهي مبالغ لا تحضرني حاليا، ولكن مجموعة من المحامين البريطانيين قد تبرعوا بالدفاع عن القادة المنفيين، بينما كانت الحكومة المصرية تتولى مكلف السفر والاقامة، وهي ليست قليلة انطلاقا من الجزر البريطانية وصولا إلى جزئرة سانت هيلانة في جنوب المحيط الهندي والعودة إلى ثلاث مرات على الأقل، بخلاف السكن وغيره».

ويقول مراد إن للهيئة التقوا بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر مرتين، إحدهما عندما نجح المحامون والانجليز في تبرئة القادة المنفيين، وحصولهم على مبالغ من المال كتعويض، وقد ارسلوا هذا المال إلى الحكومة المصرية عرفانا لها بالجميل وتحمل عبء الكلف، غأكبر عبدالناسر فيهم هذا الأمر وطلب مقابلة الهيئة وهو جاسم بوحجي لشكره على نزاهة وصلابة موقف الوطنيين في البحرين. في اثناء ذلك كانت تصل من مصر مبالغ شهرية لدعم مواقف من تضرروا من جراء المناصرة القومية لمصر إبان العدوان الثلاثي، فكان يصل من مصر حوالي 800 جنيه شهريا، عندما كانت قيمة الجنيه المصري وقتها حوالي 13.5 روبية، «كنا نقسم هذه المبالغ على الأسر التي تضررت لنفي أو سجن عائلتها، كان المبلغ إلى ما يجمع من شيء من التبرعات البسيطة تكفي بالكاد لسد رمق هذه الاسر.

عندما زورنا التوقيع

يكشف مراد ايضا عن حادث ربما لم يتم تناوله من قبل، وهو انه تم الحصول على توقيعات تخويل من قبل اهالي القادة المنفيين، فيما عدا واحد منهم، فتم الطلب من ابنه ان يقوم بالتوقيع ليمثل أسرة والده المنفي، فساق الكثير من الاعذار الذاهبة في النهاية إلة عدم رغبته في التوقيع، «أسقط في يدنا، إن عدم وجود التوقيع بعني فقدان الأمل في المضي في القضية، فما كان منا إلا أن زورنا توقيعه ورفعنا الأوراق كامله، ولولا ذلك ما كان لهم أن يخرجوا من سانت هيلانة قبل انقضاء العقوبة».

ويقول: «كان لنا صديق يعمل في المستشارية، فوقعت بين يديه الأوراق الخاصة بالقبض على قيادات «الهيئة» ونفيهم من البحرين،

وهي اتفاق بين حكومة البحرين والحكومة البريطانية لنقل المنفيين على متن إحدى البواخر، فطبعنا نسخة من الأوراق واعادها صاحبنا إلى الملف الخاص بها. هذه الأوراق هي التي لعبت الدور الاساسي في تبرئة المنفيين، إذ تضمنت ان يتم جلب المنفيين ف ساعة معينة إلى الباخرة، ولكن ما حدث انه جيء بهم قبل ساعة من الموعد في الاتفاق، وهذا ما استند اليه المحامون الانجليز بوصفه تواطؤا بين الحكومتين وتبييت النية للنفي، فلولا هذه الأوراق والتوقيع المزور والدعم المصري لما كان للقضية أن تنجح».

هل كان تخلياً؟

يصف عبدالرحمن الباكر في كتابه «من البحرين إلى المنفى: سانت هيلانه» الجموع التي صفقت للهيئة وناصرتها، بأنها وقفت متفرجة على أعضائها عندما كانوا يساقون إلى المحاكم، يقول مراد عن هذا الأمر: لم يكن تخليا من الناس عن الهيئة، أبداً ولكن الناي كانوا مذهولين مما جرى، بسرعة كبيرة، فبعد حادث اعتداء أهل المحرق على وزير الخارجية البريطاني سلوين لوي، وهي كانت حركة عفوية غير مخطط لها على الاطلاق، شعرت بريطانيا بالاهانة، ونزل الجيش البريطاني إلى الشوارع، فكانت بريطانيا لاتزال في هيمنتها وعزتها، فعقدت الدهشة عقول الناس والسنتهم، ولان نوايا الهيئة والناس كذلك كانت سليمة وسلمية، لم يتم التحسب كثيرا لمثل هذا اليوم، ولم يكن في الحسبان ان يتم القبض على جميع القيادات بما يحرم الناس وجود أي رمز يلتفون حوله».

ويضيف مراد أن ما ساعد على ذلك ايضا صدور فتوى من بعض شيوخ الدين وصفت رجالات الهيئة بعد القبض عليهم بالذين «يعيثون في الأأرض فسادا»، وهذا ايضا أسهم في ابتعاد عدد من الناس عنهم.

وبسؤاله إن كانت «الهيئة» مخترقة أم لا، يضحك مراد قائلاً: «لم يكن هناك داع للاختراق، فليست هناك اسرار تخفى، كنا نمشي ونتحدث، بل وربما نتباهى بسرد ما يتم الاتفاق عليه، لحداثة سننا، هذه ربما كانت من المطبات التي وقعنا فيها... لم تكن القيادات وحدها هي التي تعرضت للاعتقال والنفي، بل ومجموعة كبيرة ايضا من المعاونين والقاعدة التي كنا منها، وبالتالي، وجد الشارع نفسه في فراغ سياسي وقيادي».

هذا ربما ما انطبق على تأسيس فرقة الكشافة، التي يروي مراد أن محمد كمال الشهابي كان من المصرين على هذه الفكرة من أجل التنظيم والاحاطة بالمناسبات الحاشدة، ولم يكن القصد منها تأسيس «ذراع عسكري «لـ «الهيئة»، ويقول ضاحكا: «ربما كان الشهابي معجبا بالتجربة الايطالية النازية المتمثلة في فرق القمصان السوداء، ومع ذلك انتبه الشيخ خالد بن محمد بن عبدالله آل خليفة، وأمر بحل الكشافة... لم يكن هناك أساسا افقا لتطويرها، ولكنها كانت لتنظيم ليس إلا».

المنفيون إلى وطنهم

نفي جاسم مراد في العام 1959، ويقول: «لا أدري لماذا أتت الشرطة إلى منزلي وفتشت أوراقي واخذت مني ما اخذت وتم نفيي إلى الكويت، قبل ذلك طلبوا مني أن اتعهد بالا اتكلم ولا أكتب ولا أخطب في الناس، وكان اثنان من الانجليز يديران المباحث، أحدهما (بن) والآخر (رايت) ومعهما شخص عربي، وقد أساءوا إلى الشعب البحريني إساءة عظيمة بما كانا يفعلان، ويقال إن بعض الاجانب عندما غادروا البلاد في انتهاء عملهم، قاموا بحشو ثلاجاتهم بالمضبوطات من الحشيش واخذوها معهم».

يقول مراد إن المنفي يعاني دائما من عقدة عدم قبوله في المجتمع الجديد، كما يتحاشاه هذا المجتمع، «فقد احتضننا القوميون فعلا هناك، ولو كان الأمر بيدي لصنعت تمثالا لصالح شهاب الذي اسدى خدمات جليلة للبحرينيين، وكان متجره مفتوحا لهم على الدوام، وكان يساعدهم بشكل كبير في ايجاد وظائف لهم».

ولما كانت العلاقات الاخوية قوية جدا بين حاكم الكويت آنذاك الشيخ عبدالله السالم الصباح وهو مثقف مطلع على ما كان يجري في البحرين وله نظرة ثاقبة بتوظيف البحرينيين فورا، يعلق مراد هذا الموقف بقوله: «عرف حاكم الكويت أن هؤلاء المنفيين إن هم بقوا من دون إعمال، فهذا يعني سهولة استقطابهم إلى أية جهة متكرفة، وبالتالي سيكونون قنابل موقوتة، قد تنفجر في البحرين في أي وقت».

وارتفع صوت العاطفة

 

كانت الأمور تحت سيطرة «الهيئة» حتى وقع العدوان الثلاثي في أكتوبر/ تشرين الأول 19856، فانطلق الناي من دون ترتيب أو قيادة إلى الشوارع معبرين عن غضبهم وستنكارهم مما يجري في مصر، ولم يكن أحد يستطيع ان يكون عاقلا إزاء ما حدث، فكان من يطالب بالتهدئة في ذلك الموقف «خائنا» أو «عميلا» يقول مراد: «قررت «الهيئة» ذات مرة أن تفك إضرابا، وخرجت المجموعات لتبلغ الناس بالقرار، ذهبت أنا حيث مركز الشركة الغربي في المحرق لأعلن ما اتفقت عليه القايدة، فقام لي انصاف متعلمين، واخرون تسيطر الحماسة عليهم وكادوا أن يفتكوا بي لولا ان خلصني منهم بعض الذين في صحبتي... كانت العواطف متأججة حينها»، ويواصل سرده «كنت ومحمد صنقور في السوق، ويلغنا خبر بان الشرطة جهزت مجموعة أسرة جديدة لكي تستقبل عددا كبيرا من الذين تنوي القبض عليهم، وانها مستعدة لاطلاق الرصاص على المتظاهرين، فذهبنا من فورنا إلى الباكر تبلغه الخبر، ونصحناه بتسليم نفسه للشرطة والتعاون على تهدئة الأوضاع، لكن الباكر رفض لان التعاون مع الشرطة في ذلك الوقت كان سيعتبر «تراجعا عن المبادئ» في أحسن الاحوال، وكان سيحترق بلاشك».

في الوقت نفسه، لم يكن الشملان في البحرين/ فقد كان بصبحة إبراهيم كمال، وإبراهيم بوحجي، ومحمد قاسم الشيراوي في الكويت لجمع تبرعات تقدر بـ 79 روبية لانقاذ نادي البحرين من ديونه، وهو الأمر الذي تولاه أيضا الشيخ عبدالله السالم إذ قال عودوا أنتم إلى دياركم وسيصلكم المبلغ، وهذا ما حدث فعلا... في تلك الفترة المضطربة، نصح حمد العبداللطيف الحمد وهو رجل كويتي معروف، عبدالعزيز الشملان بعدم العودة إلى البحرين في تلك الأجواء، وأن يبقى هو ومن معه في الخارج، ويكونوا قيادة الحركة إذا ما حدث سوء للقيادة الموجودة في البحرين، إلا أن الشملات أصر على العودة ليشارك رفاقه مصيرهم».

 

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً