العدد 2854 - الثلثاء 29 يونيو 2010م الموافق 16 رجب 1431هـ

البشرية الحائرة بين أمن الحكومات وأمان الشعوب

«الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»

البشرية كانت طوال تاريخها تبحث عن طعام، وبعد الشبع يأتي الأمن والبحث عن استقرار، وبعد الاستقرار تبحث عن قانون عادل ينظم الحياة، وبعده تبحث عن حرية تنظّم حياتها بعد أن تكتشف أن القانون لم يضمن لها حياة حرة كريمة، ولم يجنبها شر الغلبة والتسلط والاستئثار والاستبداد.

في هذه الرحلة الشاقة الطويلة التي سالت فيها أنهار من الدماء، وتناثرت على جوانبها ملايين الأشلاء، لم تنته إلى تجربة تستقر عليها. وكان على هذا الكائن البشري الذي وُهب عقلاً، أن يتعلم عن طريق التجربة والخطأ، حتى انتهى به المطاف إلى الديمقراطية، التي مازال يعتبرها الكثيرون «شراً لا بد منه»، وليس طريقاً مضموناً ولا حلاً نهائياًًً للخلاص.

الحاجة إلى الطعام أدت إلى هجرات الشعوب والقبائل وراء العشب والكلأ، حتى استقرت على ضفاف الأنهار لتنشأ حولها الحضارات. والحاجة إلى الأمن والاستقرار هو الذي دفعها لتشييد الدول والسلطنات، ومع تعارض الرغبات والمصالح نشبت الحروب قديماً وحديثاً، جنباً إلى جنب حركات الثورة والاحتجاج.

وإذا كان القرن العشرين من أكثر القرون حروباً واضطراباً، إلا ان القرن الجديد لا يبشّر بأن يكون خيراًً من سابقه، مادامت النوازع البشرية متجذّرة في الأعماق، ومادامت سياسات الدول الكبرى مرتبطة بالاستغلال والعدوان، وفي الداخل تتحكم نوازع التحكم والاستبداد والتفرد بالقرار. والضحية الأولى في كل هذا الاضطراب هو الانسان، الذي لا تزيد قيمته عن رقمٍ مجرّدٍ في سجل الإحصاءات.

فيما عدا شريحة صغيرة ذات قاعدة ضيقة تستأثر بالجاه والنفوذ والمال، فإن الأكثرية تعيش حالة الاستلاب، وهكذا تنشأ الخلافات الطبقية والصراعات. الطبقة الوسطى التي تعمل كرافعة طبيعية في مقدمة الحراك الاجتماعي وتقود إلى التطور، تأخذ بالتآكل، وتتساقط منها شرائح واسعةٌ إلى أسفل السلّم، لتضاف إلى الطبقات الدنيا، التي تستقر في قاعدة الهرم الاجتماعي، وهكذا تتسع قاعدة التهميش والبؤس والحرمان.

الفئات الضعيفة التي تستوطن القاع، يتكرّس لديها الفقر والجهل، وتنسدّ أمام أبنائها فرص العمل، والتعليم الرسمي بسبب ضعف مخرجاته، يدفع بمزيدٍٍ منهم إلى البطالة، وهكذا تستحكم دائرة الفقر. حتى المؤسسات الخيرية بحكم تركيزها على تقديم المعونات الآنية، تعجز عن تقديم البديل التنموي السليم، فيعاد إنتاج دائرة الفقر من جديد في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. كما يسهم التسرّب الدراسي وانسداد أفق المستقبل، في خلق جيل خارج العصر، غير قادر على الاندماج في سوق العمل، أو الارتقاء لمتطلباته، في ظلّ منافسة شرسة مع سهولة استيراد الكوادر الأجنبية المدرّبة والمطيعة.

هذا الوضع، يوفّر بيئة خصبة لانتشار المخدرات والسرقة والجرائم الأخلاقية، ويضعف النسيج الاجتماعي لدى المجتمعات المحافظة. والبيئة المحبطة سياسياً، تخلق مزيداً من مشاعر القهر والحرمان، وتدفع نحو مزيدٍ من حركات العنف والاحتجاج... مع فارق أن الأجيال السابقة كانت تتربى في حواضن تنظيمية تتولى توجيه حركتها، أما الأجيال الجديدة فهي من إنتاج جيل العولمة، بعدما تم إضعاف تلك الحواضن الطبيعية، واستهداف ما تبقى منها من رموز.

الفقر الذي حرّك ثورات وقاد إلى انتفاضات عبر التاريخ، يخلق في مجتمعات أخرى حركات احتجاج، وأحياناً يقود إلى اضطرابات. وفي الأزمنة المضطربة سياسياً، تكون التنمية الحقيقية أول الضحايا وآخر الأولويات. وفيها تلجأ الحكومات إلى إعطاء انطباعات خادعة عن استقرار الأوضاع، ويتولى الإعلام الرسمي التستر على مظاهر الفساد.

وعلى عكس الدول المستقرة التي يحكمها القانون، وفق معادلة الحقوق مقابل الواجبات، فإن الدول التي تسقط فيها هذه المعادلة، فتحل محلها قواعد «الواسطة» أو «الرشوة» أو «المحسوبيات» و»الولاءات»، وهي قواعد تعجز عن إشاعة الرضا والأمن النفسي على أوسع نطاق. وبالتالي يحدث الاستقطاب الحاد، بين قلة مسيطرة تلتف حولها شللٌ تجمعها المنافع، وبين كتلة بشرية ضخمة تخضع للابتزاز السياسي، والحرمان الاقتصادي، والتهميش ومعاناة يومية من تصاعد الغلاء ومحدودية الدخل وشيوع مظاهر البذخ والاستئثار بالمال.

هذا الاستقطاب الحاد وإن كان يوفّر حالةً من الطمأنينة الكاذبة لبعض الوقت، إلا انه لا يضمن دوام الأمن على حساب الحقوق المتآكلة لأوسع القطاعات. اللجوء إلى تدعيم الأجهزة الأمنية وإحكام القبضة الحديدية لا تجلب ذلك الاستقرار. ومع تقدم التجارب، يتم تسليط العناصر الأمنية في مفاصل الدول المدنية، وخلق مؤسسات كارتونية بديلة للتشويش على عمل مؤسسات المجتمع المدني لتقويض دورها، ولتعويض النقص الحاد في الشعور بالأمن.

التنمية في هذه الأزمنة القلقة، تكون هشّة، فيكفي هبوب رياح بسيطة من الداخل أو الخارج حتى تذهب بهامش النمو المعلن. انخفاض سعر برميل النفط يهز الاستقرار في هذه الدول. أزمةٌ ماليةٌ في دول المركز تحرق مليارات الدولارات من الودائع في مصارف الغرب «القابضة»! مظاهر الازدهار العمراني التي يُروّج لها طوال عقد كامل باعتبارها قمة الإنجاز، تنهار خلال أسابيع، ليس لحروب إقليمية وإنما لتناقضات داخلية بين رؤوس الأموال. فالتنمية لا تقوم على الانسان وإنّما على المضاربات؛ ولا تقوم على العنصر المحلي، وإنّما على العمالة الأجنبية الرخيصة، التي تعيش في أوضاع أقرب لأعمال السخرة التي تقرأ عنها في العالم القديم.

إنها رحلة البحث الدائري الدائمة عن الأمن. الحلقة المفقودة بين أمن الحكومات وأمان الشعوب. الطمأنينة الغائبة على لقمة عيش المواطن ومستقبل أولاده. وصدق الله الذي ذكّر عباده بسنته وفضله على قبائل الجزيرة العربية بقوله: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»... فهل من مدّكر؟

العدد 2854 - الثلثاء 29 يونيو 2010م الموافق 16 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً