العدد 2874 - الإثنين 19 يوليو 2010م الموافق 06 شعبان 1431هـ

الاحترام بوصفه صداقة بلا حميمية

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

كل البشر - ماعدا فئات محدودة جداً- بحاجة إلى الآخرين، وإلى نظرتهم واهتمامهم وتقديرهم واعترافهم، وهذا، بالنسبة إلى روسو، هو مكمن هشاشة الإنسان وضعفه، فيما هو، في نظر أرسطو، برهان قوي على روح الاجتماع عند البشر وعلى طبيعتهم الاجتماعية. ويمكن تركيب ذلك في محصلة تكون فيها طبيعة الإنسان الاجتماعية هي مكمن ضعفه وهشاشته؛ لأن الإنسان حين تدفعه قابليته الاجتماعية إلى الإعلاء من قيمة نظرة الآخرين وتقديرهم واعترافهم، فإنه يرهن، بذلك، وجوده وقيمته برأي إنسان آخر سواه، إنسان، لربما، لن يتردد في سحب اعترافه وتقديره، ومن ثم تحطيمه معنوياً متى وجد الفرصة إلى ذلك، ومتى وجد في ذلك بعض النفع والمتعة له.

إلا أن الحاصل أن الناس ليسوا سواء في ذلك، بل هم يتفاوتون في درجة اجتماعيتهم، وفي القيمة التي يمنحونها لنظرات الآخرين وتقديراتهم واعترافاتهم. وقد بيّن أرسطو أن الناس في «حياتهم المشتركة»، وفي «علاقاتهم المتنوعة» فيما بينهم، عادة ما يكونون على ثلاثة أصناف: الأول هو الإنسان المساير والمتملّق وهو إنسان يسعى إلى أن يكون مقبولاً لدى الجميع، وتأخذه رغبة إرضاء الآخرين إلى أن يقرّ دائماً كل شيء. والثاني على خُلق مضاد للأول، وهو إنسان يأخذ بمعارضة الآخرين في كل شيء، ولا يهمه إرضاء الآخرين ولا حتى ما يسببه لهم من ألم، ويسمي أرسطو هؤلاء بالعَسِرين والمشاغبين والمشاكسين. والثالث إنسان وسط بين هذين الصنفين المتقابلين، فهو لا يقبل كل شيء إرضاء للآخرين، ولا يرفض كل شيء إغضاباً لهم، إلا أن هذا الخلق الحكيم، كما يقول أرسطو، «لم يسم باسم خاص، ولكنه يشبه الصداقة كثيراً»، إلا أنه يختلف عن «الصداقة في أن قلب ذلك الإنسان لا يشعر بعاطفة البتة، وأنه ليس البتة مرتبطاً جدّ الارتباط بأولئك الذين يلتقي بهم، لأنه ليس لحبّ ولا لبغض يصطنع الأشياء كما ينبغي، بل لأنه هكذا خلق» (علم الأخلاق، ج:2، ص40). هذه، إذن، صداقة بلا عاطفة وبلا حميمية وبلا قرب شديد كما في الصداقة الحقيقية وبلا قرب حدّ التماهي كما يحدث في الحب. هذه العلاقة الفريدة التي لم يجد لها أرسطو اسماً، سمتها حنا أرندت «الاحترام»؛ لأن الاحترام يشير إلى «نوع من الصداقة بلا حميمية ولا قرب؛ إنه تقدير للشخص من خلال المسافة التي يضعها العالم بيننا».

ينطوي الاحترام، كما الهوية، على المسافة التي تفصل بيننا وبين الآخرين، إلا أن المسافة، هنا، ليست قريبة إلى حد التماهي كما في الحب، ولا هي بعيدة وشاسعة كما يحدث مع الهوية، بل هي مسافة وسط بين الحب والهوية، وتحملنا هذه المسافة الوسط على التعامل مع الآخرين بروح المراعاة والاعتبار والاهتمام.

قد تكون العودة إلى مفهوم الصداقة عند أرسطو مهمة ومطلوبة؛ لأن الاحترام، لمّا كان «صداقة بلا حميمية»، يتطلب مسافة كما الصداقة. وبالنسبة لأرسطو فإن «المساواة» هي شرط أساسي للصداقة، بمعنى أن الصداقة لا تستقيم إلا بين أناس متساوين كيلا يكون ثمة تراتبية. كما أنها لا تستقيم إلا بين أناس يحفظون فيما بينهم المسافة الوسط أي بين أناس لا تنعدم بينهم المسافة فيكونون قريبين جداً، وإلا تحوّل الاحترام إلى حب، كما لا تكون المسافة بينهم كبيرة جداً، وإلا كنا على استعداد لأن نتعامل معهم بلا مبالاة بحيث ينعدم عندنا حسّ المراعاة تجاههم فلا يعودون، بعد ذلك، أصدقاء أساساً. وبحسب أرسطو فإن الصداقة لا تستقيم حين تكون «المسافة بين الأشخاص بعيدة جداً من جهة الفضيلة أو من جهة الرذيلة أو من جهة الثروة أو من جهة شيء آخر». ويحدث هذا «في الصداقة فيما يختصّ بالآلهة لأن لهم علواً غير متناه في كل نوع من أنواع الخير»، والأمر كذلك بالنسبة لصداقة الملوك؛ «فإن الإنسان هو أنزل منهم في أمر الثروة إلى حدّ أنه لا يستطيع حتى أن يريد أن يكون صديقهم، كما أن الناس الذين ليس لهم مكانة لا يفكّرون في إمكان صيرورتهم أصدقاء للرجال الأعلين والأحكمين». وبالنسبة لأرسطو كذلك، فإن شروطاً كثيرة من الصداقة يمكن أن تحذف ومع ذلك يمكن للصداقة أن تبقى وتستمر، ولكن شرط المساواة أو شرط المسافة الوسط يبقى شرطاً أساسياً بحيث «متى عظم البعد جداً كالبعد بين الآلهة والإنسان فالصداقة لا يمكن أن تبقى».

لا يتطابق الاحترام مع الحب لأنه ليس انفعالاً أساساً، كما أن الاحترام لا ينطوي على الحب بالضرورة، فالحب ليس شرطاً ضرورياً في الاحترام. والاحترام، كذلك، لا يتطابق مع الصداقة لأنه يفتقر إلى العاطفة والحميمية والقرب الشديد. إلا أنه، في المقابل، يقع على الضد من اللامبالاة بالآخرين؛ لأنه يتطلب مراعاة لهؤلاء الآخرين. كما أنه يقع على مسافة من رهن الوجود بنظرات الآخرين في شكل اعتراف أو تقدير أو تبجيل أو إجلال أو تعظيم أو شرف أو سمعة. الاحترام خُلُق نتحلى به داخلياً كأفراد بحيث نكون أناساًً محترمين، إلا أنه لا يكتسب قيمته كخلق إلا من خلال طابعه التبادلي، بمعنى أن الاحترام لابد أن يتجسّد بشكل تبادلي في علاقتنا بالآخرين بحيث نتعامل معهم باحترام كي يعاملونا هم باحترام مماثل. ومن ميزات الاحترام أن فرص التظاهر (ومن ثم النفاق) فيه محدودة جداً، والسبب لا يكمن في أن احترام الآخرين يتطلب أن يكون المرء نفسه محترماً وأن ينظر إلى الآخرين، كذلك، على أنهم محترمون ويستحقون الاحترام، ليس هذا فحسب، بل لأن الاحترام لا معنى له في ظل التراتبية واختلال ميزان القوة في علاقاتنا الاجتماعية. قد يفرض علينا الأقوياء أن نعظّمهم ونبجّلهم أو نهابهم ونخشاهم، وقد يفرضون علينا أن نتظاهر بأننا نعظّمهم أو نبجّلهم أو نهابهم، لكنهم لن يفكّروا في أن يُكرهونا على التظاهر أمامهم بأننا نحترمهم؛ لأن ما ينتظره هؤلاء الأقوياء منا أكبر من الاحترام، وهم لا ينظرون إلى الاحترام الذي يأتيهم من قبل الضعفاء ومن هم أقل شأناً منهم إلا على أنه إساءة أدب معهم وإهانة لهم تستحق العقاب. من يريد أن يُهاب وأن يُعظّم فعليه أن يحرص على التراتبية بينه وبين الآخرين، وعليه أن يزرع الخوف في نفوس الآخرين لا الاحترام؛ لأن الاحترام خلق المتساوين، في حين تتطلب المهابة والتعظيم تراتبية لا تستقيم مع الاحترام.

ليس معنى ذلك أن الاحترام لا يعرف النفاق ولا التظاهر؛ بدليل أن ثمة مواقف تفرض على الكثيرين منا أن يتظاهروا باحترام شخص ما في حين أنهم لا يكنّون له في نفوسهم ذرة احترام. إلا أن الفرق يكمن في أن التظاهر بالاحترام هنا لم تفرضه قوة الشخص؛ لأن الشخص القوي، كما قلنا، لا يطلب الاحترام بل المهابة والتعظيم، وإنما فرضته قوة الاحترام كخلق عام وكقيمة عامة في مجتمع يعمّم الاحترام على الجميع ولا يقبل من أحد من أبنائه أن يعامل الآخرين بوقاحة وبقلة احترام؛ لأن من لا يحترم الآخرين لن يفقد احترام هؤلاء فحسب، بل إنه يفقد، بالتبعية، احترامه لنفسه أيضاً. هذه التبادلية في الاحترام هي التي تجعل المرء لا يشعر باحترام الذات إلا عبر احترامه هو للآخرين واحترام هؤلاء له، بمعنى أن المرء يكون محترماً ويعامله الآخرون باحترام، حين يتعامل هو نفسه مع الآخرين باحترام، وحين يقرّ هو نفسه لهم بالاحترام تماماً كما أقروا هم له بذلك. ويترتب على هذه التبادلية تحرير المرء من تبعية حكم الآخرين ونظرتهم؛ لأن المرء، هنا، لا يفقد احترامه حين يسحب الآخرون احترامهم له، بل حين يفقد هو احترامه لنفسه وللآخرين. وهذا مصير يتحمّل المرء مسئوليته.

لا ينطوي الاحترام، كما قلنا، على الحب، إلا أنه لا يستقيم، كذلك، مع الكراهية وإهانة الآخرين واحتقارهم. وتتبدّى الكراهية، بهذا المعنى، وكأنها محاولة حقيرة لنفي الاحترام عن الآخرين، وتصويرهم في صورة أناس حقيرين وتافهين ومهانين. وهذا هو المدلول المباشر لفعل الكراهية، فنحن حين نعبّر عن كراهيتنا ضد الآخرين ونهينهم ونحقّرهم إنما نستهدف سحب الاحترام عنهم، ونحن لا نقوم بذلك قبل أن ننزع من نفوسنا ما نكنّه لهم من احترام. إلا أن مدلول الكراهية لا يقف عند هذا القدر من نزع الاحترام عن الآخرين، بل إن الكراهية، في مثل هذه المواقف، يمكن أن تشير إلى ما يتمتع به صاحب الكراهية نفسه من حقارة ووضاعة وتفاهة؛ لأن كراهية الآخرين واحتقارهم وإهانتهم، في «مجتمع محترم»، لن تكون بلا ثمن، والثمن لن يكون فقدان احترام الآخرين لنا فحسب، بل فقدان احترامنا لأنفسنا؛ لأن إبداء الوقاحة في العلن لأناس لم نعد نحترمهم عادة ما يكون دليلاً على احتقار المرء لنفسه وعلى وضاعته وتفاهته ودناءته وانحطاط أخلاقه. وبهذا الشكل، تنقلب الكراهية على صاحبها في صورة احترام منقوص أو في صورة احترام انتزع منه بالكامل بسبب احتقاره للآخرين. وهذا ما تفعله القيم حين تكون معمّمة وتبادلية، حيث يجري وصم كل خرق لها بأنه فعل مشين ومعيب ومخجل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2874 - الإثنين 19 يوليو 2010م الموافق 06 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 7:00 ص

      المحترم متربي الغير محترم قليل تربيه

      شكرا هذا أغسل شئ قرأته في حياتي

    • زائر 6 | 4:28 ص

      اخاف من زوجي

      انا من تزوجت زوجي وهو يستعرض عضلاته وسلطاته وكل الاثورتيز اللي عنده عشان يحبطني عشان جذي انا مااحبه لكني اخاف منه وسامحوني اني اعترفت بخوفي وانا لست وقحه وهذا ليس دليل على عدم احترامي لنفسي لكن الموضوع جاب نفسه

    • زائر 5 | 5:44 ص

      تحياتي

      نعيش في فوضى العلاقات وغالبا ما يسيئ الكثير من الناس فهم علاقاتهم ببعضهم، فلو جرت عادة الاحترام فيما بيننا لفهم الناس ان لكل انسان كينونته و شخصه الذي يجب ان نحبه على اساسها و نحترمه و لساد التفاهم بين الجميع، المصيبة ان الجميع يريد ان يتحدث بلغة الأنا على حساب الآخر، بل أن غالب الناس تريد فرض أفكارها لتسقط الآخر، ليتنا نتعلم فن الاحترام ، لحققنا أكبر فوز و هو احترامنا لذاتنا.
      تحياتي

    • زائر 4 | 4:57 ص

      دورت الكراهية

      زين حصلت الكلمة في آخر فقرة
      مشكور

    • زائر 3 | 4:41 ص

      هذا هو سقف طموحي

      الإحترام ليس بمعنى التبجيل أنا الفرد والنوع.

    • زائر 2 | 2:08 ص

      يا ريت الناس تقرا المقال و تتعض

      للاسف الشديد كثير من الناس في مجتمعنا - خصوصا فئه الشباب - لا يقدر قيمه احترام الغير ويظن انه عندما يقلل من احترام شخص معين فإنه يثبت انه اقوى منه ولا يخاف منه ويعتقد ان هذا التصرف يجعله يكبر في عيون الناس, ولكن الواقع هو العكس تماما.

    • زائر 1 | 12:05 ص

      اي هذوله الكتاب العدلين

      كُتاب مو "كتاب شعبيين" ... تحس روحك تقرأ شيء لو ما قريته بينقص منك شيء.

اقرأ ايضاً