العدد 936 - الثلثاء 29 مارس 2005م الموافق 18 صفر 1426هـ

البشارة لا تكون بعودة الأغلال والقيود

روافد

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حصل رجل من الموصل في القرن الرابع الهجري على نصف بيت من أبيه، وأخذ يروح ويجيء ويعلن لصديقه انه ينوي شراء النصف الثاني، ولأن الصديق يعرف انه لا يملك مالا، سأله: من أين لك ثمن النصف الثاني؟ فأجاب: "سأبيع النصف الذي أملكه واشتري النصف الثاني، فيصبح البيت كله ملكي"! الحكاية تجدونها في كتب النوادر والطرائف التي يزدحم بها الأدب العربي، لكن أن يجري ذلك على نطاق بلد خارج من محرقة "أمن الدولة"، ليقع في محرقة أخرى، فهو ما يجب على كل الأقلام الشريفة معارضته. فالأجيال التي عذبت وانتهكت حقوقها واستبيحت انسانيتها طوال خمسين عاما، من مختلف الأطياف السياسية، لا ينبغي السماح بتكرار تجاربها المأسوية مع الأجيال الشابة. فقد دفع هذا الوطن من دماء أبنائه الكثير حتى وصلنا إلى بر الإصلاح، اما محاولات إعادة "امن الدولة" بعباءة جديدة حتى لو كان باسم "قانون مكافحة الإرهاب" فلا ينبغي أن يمر بهدوء، لانه تراجع عن أبسط مسلمات الاصلاح، ولأنه أقوى ضربة يمكن أن توجه إلى البحرين المتطلعة إلى غد أفضل.

مساء السبت الماضي حضرت حفلا أقامته "جمعية منتدى المستقبل الثقافي" في جمعية الهلال الأحمر البحريني، للتعريف بأهداف الجمعية الجديدة، وكان من ضمن الحضور مجموعة من الاخوة والأخوات من المملكة العربية السعودية، وخجلت فرحا حين وقف أحدهم يثني على البحرين بما حققته من إصلاحات وضعتها في مقدمة القاطرة الخليجية. ومن المعيب أن أسمع ذلك في الليل، وأفاجأ بما كتبته مجموعة من أقلام "الدولة عاوزه كده"، تنذر بعودة جنة "أمن الدولة" المفقودة. هذه الجزيرة الصغيرة التي لا تكاد تبين على الخارطة اكتسبت كل هذه السمعة الحسنة خلال أربعة أعوام، كيف تريدون عودتها إلى عهد القمع وإرهاب المواطنين وإذلالهم وتشريدهم؟

كنت في بيروت قبل أشهر في رحلة عمل، ولما طلبت الميكروفون للتعقيب على الموضوع في إحدى جلسات المؤتمر، ، التف حولي مجموعة من الصحافيين من الاراضي المحتلة ومن العراق والأردن والكويت ومصر وتونس، يسألون بتلهف عن البحرين وكيف أصبحنا في عهد الإصلاح، وأوجزت لهم حالنا السابق واللاحق، بما يحفظ صورة البحرين الحضارية الجميلة، ماذا يمكن أن نقول لهم اليوم: برلمان عاجز ومشغول بامتيازات أعضائه، وتضييق على الاجتماعات العامة والتصيد على الرأي الآخر، ومضايقة مؤسسات المجتمع المدني، وغض الطرف عن الفساد الإداري والمالي، حتى انتهينا إلى محاولات سلب ما حصل عليه الشعب من مكتسبات "معنوية" يحسدنا عليها الآخرون، وهي هذه "القطعة الخشبية الصغيرة" من حرية التعبير نعوم فوقها في هذا البحر الهائج.

إنه من المعيب أن نبقى نطالب بالتخلي عن عقلية "أمن الدولة" بعد مرور أربعة أعوام والتوقف عن حملات التحريض التي تضر الوطن. الأمر ليس شفاعة أو وساطة لتخفيف عقوبة، بل يتعلق بالبلد ومستقبل أهله: هل نسير على درب الشعوب المتحضرة، أم نعود لعهد القمع وإذلال الناس وقهرهم وفرض الرأي الرسمي الواحد على الجميع. فالمسألة هي أن تبقى البحرين شمعة يفخر بها أهلها، أو تعود معرة وعارا لمواطنيها. هذه هي القضية.

إن العودة لطرح قوانين القرون الوسطى ليس في مصلحة البلد، وإذا كان بعض "المالتوسيين" الجدد لا يعرفون غير لغة الدولار ومغازلة الاستثمارات، فإن مثل هذه المعالجات جربناها فما عادت على البلد بخير، وكانت لها كلفة إنسانية باهظة جدا، دفعتها البحرين من سمعتها في المحافل الدولية ومن أرواح وحرية أبنائها، سجنا وتشريدا في شرق الأرض وغربها. والوطن بحاجة إلى من يدله على طريق العقل والإصلاح، وليس طريق الظلم والظلمات.

ولأن تحريض الحكومة على إعادة العمل بـ "أمن الدولة" باسم حماية الاقتصاد لعبة خطرة، ولأن هذه الطريقة في التفكير أمر تجاوزه الزمن، فإننا مضطرون للصراخ والإحتجاج على هذا العبث بمستقبل البلد، فلا يمكن السكوت على هذا الاستنفار الذي تجاوز كل الحدود المعقولة إلى درجة الهيجان.

إذا كان هناك من اختلاف في الآراء والرؤى، فلنسلك طريق الحوار المقطوع منذ أكثر من عام، لا أن نعود إلى القوانين التي تحكمت في حياة الناس على امتداد ثلاثين عاما. وإذا كان المجتمع المدني تحمل آثارها ودفعت قوى المعارضة والجسد السياسي الناشط استحقاقاتها عن طيب خاطر وحب للوطن، ألا يتحمل اليوم الطرف الأقوى بعض استحقاقات مرحلة الإصلاح لأكثر من ثلاثة أعوام؟

كل مرة يضعون الجميع أمام مفترق طرق، والشعب قال كلمته ووقف مع الإصلاح، أفلا يستحق هذا الشعب الباحث عن حياة حرة وكريمة... معاملة أفضل من التهديد بعودة الأغلال والسجون؟

إن الأوطان لا تحل مشكلاتها بإغلاق الجمعيات ومراكز الحقوق وملاحقة الآراء الأخرى. والديمقراطية لا تكون على طريقة الموصلي الذي باع نصف بيته ليشتري النصف الآخر، والبحريني إنسان لا يقبل القسمة أو الطرح أو الضرب بدعاوى أوهى من بيوت العنكبوت

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 936 - الثلثاء 29 مارس 2005م الموافق 18 صفر 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً