العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ

أزمة دارفور بين الحقيقة والمبالغات

إقليم دارفور غرب السودان - الذي تبلغ مساحته نصف مليون كيلومتر مربع وتعادل مساحة ثلاث دول أوروبية هي فرنسا وهولندا والبرتغال وتعادل 20 في المئة من مساحة السودان - كان يتميز بالتجانس والتعايش السلمي بين مختلف قبائله وأجناسه ويتم حل المشكلات القبلية عبر الإدارة الأهلية التي كانت لها القوة والسلطة. ويبلغ تعداد سكان الإقليم 6.6 ملايين نسمة أي 22 في المئة من سكان البلاد ويساهم في الدخل القومي بأكثر من 25 في المئة.

وتعيش في دارفور أكثر من مئة قبيلة رئيسية من أشهرها الفور (قبيلة غير عربية مسلمة) التي سميت المنطقة بها وهناك قبائل أخرى عديدة منها العربية كالرزيقات والتي تنقسم إلى رزيقات بقارة (رعاة البقر) وتعيش في جنوب الإقليم ورزيقات «أبالة» رعاة الإبل وهذا الفرع الذي تنسب إليه مليشيا «الجنجويد» ومن القبائل أيضا الزغاوة والتنجر والميدوب والزيادية والبرتي والمساليت والتامة والفلاتة والقمر والمعاليا وبنو هلبة والتعايشة والسلامات وتتداخل جميع القبائل وتتزاوج مع بعضها البعض.

لم تكن بداية مشكلة دارفور وليدة اليوم أو عهد الرئيس عمر البشير بل هي حصيلة لنزاعات وتراكمات ورواسب ساهمت فيها الأوضاع السياسية والنخبة الحاكمة في السودان منذ الاستقلال. وعانت المنطقة من فترات جفاف وتصحر قادت إلى ثلاث مجاعات كبيرة في الأعوام 1973 و1985 و1992.

يقول الباحث السوداني في شئون دارفور حامد إبراهيم حامد إن الصراع التشادي التشادي، والصراع الليبي التشادي في المنطقة خلال الثمانينيات ومطلع التسعينيات أدّيا إلى انتشار السلاح والجماعات المسلحة وبالتالي قادا إلى ظاهرة النهب المسلح التي استفحلت بالمنطقة متزامنة مع ظاهرة الجفاف والتصحر وراح ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن.

وأشار حامد إلى أن أكثر من ثلاثة ملايين تشادي استوطنوا السودان نصفهم في دارفور وخصوصا في المناطق الحدودية الجنوبية الغربية والشرقية من جنوب دارفور، علما بأن هناك أكثر من خمسين قبيلة مشتركة بين السودان وتشاد، وأصبح العنصر التشادي سواء من القبائل الإفريقية مثل الزغاوة أو العربية القاسم المشترك في التدهور الأمنى بدارفور على مدى السنوات الماضية وحتى الآن.

وأدّت الهجرات بسبب الجفاف والتصحر والبحث عن مراع وأراض زراعية خصبة جديدة إلى صراعات القبائل المحلية مع بعضها البعض مثلما حدث بين قبيلتي بني هلبة والمهرية العربيتين في منطقة عد الفرسان العام 1984، والصراع بين القمر والفلاتة العام 1987.

ونشبت أيضا حروب بين قبيلتي القمر والدروك في منطقة أبوجوجة غرب الإقليم، وبين الهبانية والفلاتة وبين قبيلتي الترجم والرزيقات الابالة، وبين قبيلتي البني هلبة والترجم،وبين المعالية العربية والزغاوة الزنجية، وبين قبيلتي الرزيقات والمسيرية الحُمر العربيتين.

كل هذه الحروب القبلية خلّفت كلّ منها مئات القتلى. ولذلك عندما تقول الحكومة السودانية إن نحو عشرة آلاف قتلوا في الإقليم لا يعني ذلك أنها تعترف بقتلها لعشرة آلاف سوداني عن قصد كما يصور ذلك الإعلام الأجنبي، ولكن هذه الحروب يسببها شح المراعي والمياه ومناطق النفوذ القبلي.

وقد حمّل مدعي عام المحكمة الجنائية لويس مورينو أوكامبو مسئولية قتل كل هؤلاء نظام البشير الذي دائما ما يرسل وسيطا للصلح في كل واقعة قبلية وليس بمقدوره الحيلولة دون تجدد النزاع القبلي.

وقد ساهمت كل هذه العوامل السابقة في استفحال الأمر والذي تحوَّل من غبن محلي ونزوح داخلي إلى تمرد مسلح ضد الحكومة كانت شرارته الأولى حركة يحيى داود بولاد القيادي في الجبهة الإسلامية القومية الذي انضم للحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوبية بقيادة الراحل جون قرنق في بداية التسعينيات.

بيد أن الصراع لم يتطور إلى تمرد سياسي عسكري منظم وخطير إلا بعد قيام مجموعة مسلحة من أبناء دارفور باحتلال مدينة قولو عاصمة محافظة جبل مرة بغرب دارفور في 19 يوليو/ تموز 2002 حيث تم لأول مرة إعلان حركة مسلحة ووزعت منشورات سياسية باسم جيش تحرير دارفور.

وفي العام 2003 تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تماما لمواجهة التمرد وخصوصا أن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات التي بدأت تنشر من أن مسلحي الزغاوة (القبيلة الزنجية) يسعون لإقامة «دولة الزغاوة الكبرى» والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر.

وقد استغلت القبائل العربية هذا الادعاء في التقرب من الحكومة والتنسيق معها لمواجهة التهديد الأمني الجديد وقد تزامن ذلك مع انضمام أعداد كبيرة من أبناء الزغاوة من الإسلاميين (عقب انشقاق الزعيم الإسلامي حسن الترابي عن حكومة البشير) إلى الحركة المتمردة التي غيّرت اسمها إلى «حركة تحرير السودان» وإلى حركة «العدالة والمساواة» التي أسسها القيادي الإسلامي السابق الدكتور خليل إبراهيم.

وعقب هجوم متمردي دارفور على الفاشر في أبريل/ نيسان 2003 وتدميرهم ست طائرات عسكرية في مطار المدينة وخطفهم قائد عسكري برتبة لواء، بدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريّا واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث، واستفادت من ميليشيات بعض القبائل العربية التي كانت تقاتل تحت اسم ميليشيا «الجنجويد». ومع ذلك فإن غالبية القبائل العربية لم تشارك في هذه الميليشيا التي صوّرها الإعلام الأجنبي بأنها تقوم بأعمال إبادة جماعية للقبائل الزنجية ولكن في كثير من الأحيان كانت تدافع عن مناطق نفوذها والكلأ لمواشيها، وقد فُرضت عليها الحرب فإما أن تدافع عن نفسها أو تصبح ضحية للمتمردين الذين يخطفون أطفالها ويجندونهم للقتال وكذلك ينهبون الثروة الحيوانية لتمويل العمليات.

ورغم أن «الجنجويد» تتكون في الغالب من القبائل العربية فإن القبائل العربية الكبرى بجنوب دارفور مثل الرزيقات وبني هلبة والهبانية والتعايشة والمعاليا لم تشارك فيها عمليات هذه الميليشيات.

وقد مارس متمردو دارفور عمليات بطش وتعذيب ضد المواطنين المعارضين لهم من هذه القبائل وشكلوا محاكم إيجازية لمحاكمة المواطنين وفرضوا ضرائب وإتاوات عليهم واختطفوا زعماء قبائل وموظفين حكوميين وسيارات مواطنين.

ولعبت العوامل السياسية دورا مهما في إذكاء هذه الصراعات التي كانت في الأساس صراعا على المرعى والماء وساهمت الحكومة المركزية في تأجيجها بعد تطبيق سياسة تقسيم الولايات بإنشاء إدارات أهلية جديدة للقبائل الرعوية في أراضي القبائل المستقرة، علما بأن غالبية هذه القبائل وافدة من تشاد، وألغت الحكومة بمقتضى ذلك الإدارات الأهلية القديمة. وفي المقابل استلهم متمردو دارفور المكتسبات التي حصل عليها متمردو جنوب السودان السابقون مثل الحكم الذاتي والاستفتاء على الانفصال، ليرفعوا من سقف مطالبهم ويتشددوا في مفاوضات السلام.

من جهتها، قادت الولايات المتحدة الضغوط الدولية ضد حكومة البشير ونجحت في نقل الملف السوداني إلى مجلس الأمن ومن ثم إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وكانت واشنطن تشعر دائما بعقدة ذنب من الإبادة الجماعية التي وقعت في دولة رواندا وأنها لا تريد تكرارها في السودان حيث تنظر للسودان باعتباره من الدول المارقة التي يجب محاسبتها؛ ولذلك لا تزال تفرض عليه العقوبات وتضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب.

ويأتي الموقف الأميركي في ظل استراتيجية لمنطقة شرق إفريقيا يمثل السودان جزءا منها؛ حيث تسعى واشنطن لخلق بؤرة استقرار أمني في المنطقة من خلال تشكيل قيادة عسكرية لمراقبة «الإرهابيين» كما أن لواشنطن أهدافا أخرى تتمثل في رغبتها في عودة الشركات الأميركية لاستغلال النفط السوداني؛ حيث أن هذه الشركات وعلى رأسها «شيفرون» هي التي اكتشفته أولا قبل أن تستغله الصين.

وهكذا ساهمت كل هذه العوامل في تصعيد أزمة دارفور إلى أن وصلت إلى المحكمة الجنائية الدولية التي صدمت مذكرتها بتوقيف البشير، الشعب السوداني. ذلك أن البشير،الذي استطاع أن يضع حدّا للحروب في جنوب وشرق السودان، ووقّع اتفاقات سلام في تشاد وأبوجا النيجيرية وذهب مفاوضوه إلى الدوحة وطرابلس لأجل دارفور، كان يمكن أن يرشح لنيل جائزة نوبل للسلام بدلا من أن يصبح مطلوبا دوليّا.

العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً