العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ

الإشكال السياسي بين سيادة الدولة والقوانين الدولية

على خلفية رفض الدول العربية والإفريقية مذكرة محكمة الجنايات

أكدت الدول العربية في قمتها التي انعقدت في الدوحة رفض مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكررت قمة الدوحة (30 - 31 مار س/ آذار 2009) في بيانها الختامي تضامنها مع السودان ودعت مجلس الأمن الدولي إلى تحمل مسئولياته في إقرار السلام والاستقرار ودعم الجهود المبذولة لتحقيق تقدم على مسار التسوية السياسية لأزمة دارفور.

الموقف العربي من رفض مذكرة التوقيف توافق مبدئيا مع توجه الدول الإفريقية التي أجمعت بدورها على رفض قرار محكمة الجنايات الدولية. وجاء الموقف الإفريقي - العربي في سياق حملة تضامن مع السودان صدرت تباعا من جهات ومنظمات وبعض الدول الآسيوية واللاتينية ما أعطى الرئيس السوداني حصانة مضادة لمواجهة القرارات والمذكرات التي تصدر أحيانا من هيئات دولية موازية للأمم المتحدة.

التعارض السياسي بين مذكرة محكمة الجنايات ومواقف الدول المتعاطفة مع السودان أو تلك المؤيدة لضحايا دارفور أعاد طرح إشكالية قانونية بين القرارات الدولية وسيادة الدول. فالإشكالية القانونية الناجمة عن التعارض المذكور رسمت خريطة طريق سياسية بين الحق الدولي العام وسيادة الدولة وصعوبة التوفيق بين توجهات المنظمات الدولية ومفهوم السيادة الذي نصت عليه المواثيق التي تأسست عليها الأمم المتحدة.

مذكرة التوقيف جددت السؤال عن الأولوية. فهل الأولوية للإنسانية أم للسيادة أم للدول؟ وهل يحق لمنظمة دولية موازية أن تخترق القارات وتجتاز الحدود وتتجاوز الأعراف السيادية وتتخذ تدابير قانونية لإنقاذ ما تصفه بالجرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو إبادة جماعية أم أن الدولة الوطنية فوق القانون الدولي؟

سؤال إشكالي لا جواب قانونيا عليه. والسبب أن المواثيق الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة لاتزال تعطي مفهوم السيادة قوة ذاتية تمنع التدخل في شئونها السيادية. وأدى هذا التعارض بين الدولي والسيادي إلى توليد حالات من التضارب بين الإنساني والسياسي وبين حق الدول في التدخل للدفاع عن الإنسان أو أقليات تتعرض للتصفية وبين الإطار القانوني الذي يسمح أو يعطي الحق بالتدخل.

عدم وضوح تعريف معنى العدالة الدولية عزز ذاك الإشكال بين السياسي والقانوني باعتبار أن الدول الضعيفة والصغيرة أخذت تتخوف من الابتزاز السياسي واحتمال أن تستغل الدول القوية والكبيرة مذكرات وقرارات معينة باتجاه استخدامها لأهداف تتعدى مسألة الإنسان والأقليات وغيرها من جرائم ضد البشر.

مشكلة مذكرة محكمة الجنايات أنها صدرت في ظل هذا الالتباس القانوني بين الحق الدولي العام (العدالة المطلقة) وبين حق الدول في حماية سيادتها الوطنية ومنع «الخارج» من التلاعب بمصير «الداخل». كذلك تبدو بعض مواد محكمة الجنايات غير واضحة في إزالة هذه الازدواجية وتحديدا من حيث تعارض صلاحيات المحكمة مع آليات التنفيذ (الجهة التي ستنفذ مذكرة التوقيف). الصلاحيات من الجانب النظري (القانون المجرد) تبدو مطلقة وفوق الدول ولكن الآليات من الجانب التطبيقي محدودة عمليا وتبدو نسبية باعتبارها خاضعة للمعايير الوطنية لمفهوم سيادة الدول.

النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الذي حرر في روما في 17 يوليو/ تموز 1998 ترك الحرية للدول في التوقيع وأعطى فرصة انتهت في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1998 ثم ترك الباب مفتوحا حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2000. لهذا الاعتبار الإشكالي تعتبر الكثير من الدول أن «المحكمة الجنائية» ليست إلزامية للدول التي لم توقع على نظامها الأساسي وبالتالي فإن قراراتها أو مذكراتها تعتبر خاصة وليست دولية لكون الهيئة غير متفرعة عن الأمم المتحدة بل مجرد منظمة موازية تعمل إلى جانبها لا من داخلها.

عدم وضوح الصلة بين «المحكمة الجنائية» وهيئة الأمم المتحدة أعطى قوة للدول المعترضة على المذكرة لكونها خاصة وغير صادرة عن مجلس الأمن وتفتقد إلى شرعية قانونية دولية تلزم الأعضاء على تنفيذها. فالدول المعترضة اشترطت تحويل المذكرة إلى مجلس الأمن لمناقشتها وربما اقتراح تعديلها أو تجميدها أو تجاوزها وكأنها لم تصدر أو الموافقة عليها رسميا حتى تصبح دولية وإلزامية وذات شأن عام.

المسألة إذا ليست سياسية أو إنسانية فقط وإنما هناك ثغرات قانونية استوجبت ذاك الاعتراض من دول وجهات إفريقية وعربية وآسيوية ولاتينية. وأساس الاعتراض ارتكز على قواعد الاختلاف القائمة بين صلاحيات المحكمة وآليات التنفيذ. فالصلاحيات عامة ومطلقة وتتجاوز مفهوم السيادة ولكنها في التطبيق تخضع للقانون الوطني للدولة كما هو واضح في الباب التاسع من «نظام روما الأساسي» وتحديدا من المادة (86) إلى المادة (102). حتى الباب العاشر يعطي للدول هامشا من الحرية في تنفيذ أحكام السجن.

هذا التفاوت بين الصلاحيات العامة وقوة القانون المطلق من جهة وبين آليات التنفيذ من جهة أخرى يعطي مساحة واسعة للرفض النسبي باعتبار أن قرارات المحكمة ليست إلزامية سوى للدول الموقعة وليست دولية لكونها لم تصدر عن الأمم المتحدة مباشرة أو لم يصدّق عليها مجلس الأمن رسميا.

الاعتراض العربي - الإفريقي - الآسيوي - اللاتيني على مذكرة توقيف الرئيس البشير لم ينطلق من فراغ سياسي وإنما ارتكز على قاعدة قانونية. وهذا الأمر ليس جديدا في العلاقات الدولية في اعتبار أن الغموض لايزال يحيط بمسألة تعريف العدالة الدولية وهوية الجهات التي تتحرك للتنفيذ والطرف الذي يستطيع أن يحاسب دولة كبرى في حال اعتدت أو احتلت دولة صغرى. فالقانون حتى يكون عادلا لابد أن يعاقب الجميع من دون تمييز بين قوي وضعيف وكبير وصغير. وبما أن الهيئات الدولية الموازية لم تستطع حتى الآن تحديد كيفيات التطبيق وآليات التنفيذ ستبقى مشكلة مذكرات، كالتي صدرت عن محكمة الجنايات ضد الرئيس السوداني، عرضة للتأويل السياسي والتحامل الايديولوجي وربما المواقف الشخصية.

تاريخ الدول الكبرى يؤكد في مختلف المراحل والمعطيات أن عواصم القرار لا تتصرف أو تتحرك وفق منطق العدالة والمساواة واحترام الإنسان وحماية الأقليات وإنما لدوافع المصلحة والنزوع نحو التفرد والسيطرة وأحيانا الطمع في ثروات الفقراء ونهب خيرات الشعوب. وبهذا المعنى التاريخي تتحمل الدول الكبرى دائما المسئولية باعتبارها الطرف الأبرز والدائم في مخالفة الاتفاقات الدولية والمواثيق الإنسانية التي توقع عليها بالإجماع ثم تمارس عكسها أو ما يخالفها.

العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً