العدد 2967 - الأربعاء 20 أكتوبر 2010م الموافق 12 ذي القعدة 1431هـ

الكابلي يعيد الوصل بين الثقافة والوعي بالفنون والموسيقى

في أمسية بمركز كانو الثقافي:

استضاف مركز كانو الثقافي بالمصلى الموسيقي السوداني عبدالكريم الكابلي الذي ألقى محاضرة حول «التراث الغنائي السوداني» وذلك بالتعاون مع النادي السوداني وبحضور مجموعة من المثقفين والمهتمين ورواد المركز وحضور لافت من الجالية السودانية، وخلال محاضرته ركّز الكابلي على الربط بين الثقافة والوعي بالفنون وذلك عبر التأكيد على مفهوم الثقافة وتحولاته واتساعه ليشمل الفنون، وقد تطرّق الكابلي في حديثه إلى ما أسماه بنظرية الدائرتين في التنظير لمسألة الفنون سواء على مستوى التقعيد في الدائرة الأولى أو على مستوى تعدد الفنون وارتباطها ببعضها البعض وأنواعها وأثر الفنون الموسيقية في ترويض النفس البشرية واضعا كل ذلك في الدائرة الثانية.

وقد تطرق الكابلي لمفهوم السلم الخماسي وشهرة اقتران الموسيقى السودانية به فأشار إلى أن السلم الخماسي يمثل حالة طبيعية وأصيلة في الطبيعة، ولعله يتمثل كثيرا في زقزقة العصافير وحفيف الشجر وكذلك هدهدة الأم لطفلها وربما يرجع أصل ذلك إلى بقايا التراث الفرعوني أو النوبي الذي تشربته الثقافة السودانية.

هكذا في أمسية جمعت بين البحرين والسودان استمع الجمهور البحريني مع الجالية السودانية من رسميين ومقيمين وشنفوا آذانهم لصوت قادم من أعماق التراث السوداني الأصيل، إذ في ختام المحاضرة صدح الموسيقي الكبير عبدالكريم الكابلي متغنيا بمقطوعات سودانية سارحا بجمهوره إلى ذكريات أثيرة عند متلقيه، حيث أخذهم الإيقاع السوداني إلى أيام مضت وزمان عذب تولى عهده ولكن مازال ألقه في بقايا الذكريات التي ألفتها الأذن وراح الكابلي يدندن بها فيعبر بهم من صوت إلى آخر ومن وتر إلى وتر.

في بداية محاضرته تتبع الكابلي مفهوم الثقافة فقال: قلبي مع الثقافة التي طالما يتحدث عنها الناس كثيراً، وفي كثير من لقاءاتي درجت على أن أقول إن هنالك كلمات محظوظة، ومن بينها كلمة ثقافة. هذا الحظ يأتيها من كثرة التداول إذ لا يمكننا أن نجد إصدارة مقروءة أو مكتوبة إلا ووجدنا فيها كلمة ثقافة، إلى آخر ما يُعرف عن هذه الكلمة. هنالك الأندية الثقافية، هنالك الملحق الثقافي، هنالك وزارات الثقافة، فهي كلمة منتشرة، ولا أضعها كالكلمة الأولى من حيث الانتشار، من خلال التأمل

وقد وجدت أنها مرت بأكثر من تعريف، الدائرة الأولى للتعريف اتصلت بالتعليم، فإذا عدنا إلى الوراء في مطلع القرن الفائت نجد أن الذي يكمل تعليمه الأوسط يشار إليه بالبنان ويوصف بالثقافة، وربما استمرت هذه الحالة وهذا التعريف لعقدين من الزمان أو لثلاثة عقود، ثم انتقل التعريف إلى دائرة ثانية، وهي الموسوعية إذ لا يوصف المرء بالثقافة إلا إذا كان موسوعياً يعرف الكثير عن الكثير من مواضيع الحياة، ويقال إن أحد حواريي عميد الأدب العربي طه حسين خاطبه بقوله: يا شيخ مثقفينا، فما كان من طه حسين إلا أن أجابه بتواضع العلماء وكبرياء التواضع وقال له: أنا لست بشيخ مثقفيكم بل أنا لست بالمثقف، إنما المثقف هو عباس محمود العقاد؛ لأنه كان يجيب على كل سؤال لأنه رجل موسوعي.

وأضاف الكابلي وفي هذا فصل لتعريف الثقافة عن قضية التعليم، الذي يعد قطعاً رافدا يقود إلى هذه المعارف، ولكن اتصل التعريف الثاني بالموسوعية واتساع الآفاق وتعدد المعارف، ثم انتقل التعريف إلى الدائرة الثالثة، ويقيني أن هذا التعريف قد صعد بقضية الثقافة صعوداً كبيراً عندما وصلها بالفنون؛ لأن في هذه القفزة جانب أخلاقي لأن الفنون التي أعرفها هي الفنون الخيّرة التي تعمل على تهذيب النفوس وترقيقها، بكل ألوان الفنون وهي خمسة من كلمة إلى نغمة إلى لون إلى معمار إلى حركة، كلها مظلات تندرج تحتها كل هذه الألوان. فقضية الفنون اتصلت اتصالاً مباشراً بالثقافة واتصلت بالحياة كذلك اتصالاً مباشراً لأنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة من أجل أن تعمل لدرء الحروب والنزاعات بين الدول المختلفة فإذا بأصوات من أهل الفلسفة والعلوم والفكر في هذا العالم تقول لو أن منظمة كهذه تجدي لدرء الحروب والنزاعات لأجدت عصبة الأمم التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى في العام 1919. إن الحروب والنزاعات تقوم في عقول ومشاعر الناس، فعلينا أن نصل إلى هذه العقول وهذه المشاعر، فسألوا: كيف يكون الوصول إلى هذا؟ قالوا لهم: عن طريق الفنون الخيّرة، لأنها الأقدر على الوصول إلى مشاعر الناس وإلى عقولهم، فقامت منظمة اليونسكو بنشر هذه الفنون من كلمة إلى لحن إلى آخره، وهذا يعني أن قضية الفنون هي القضية التي تتصل بتهذيب النفوس وترقيق المشاعر، وهذا دور كبير. والدول المتقدمة أدركت هذا ولكنه إدراك لا يقوم على المعرفة الحقيقية لما ينجم عن معانقة النفوس للفنون، وهذه قضية كبيرة جداً.

وحول ما أسماه الكابلي بنظرية الدائرتين في التنظير لمسألة الفنون سواء على مستوى التقعيد في الدائرة الأولى أو على مستوى تعدد الفنون الموسيقية وأنواعها وأثرها في الدائرة الثانية، وأضاف في كثير من محاضراتي ولقاءاتي تحدثت في هذا الأمر، ووضعت - لي - نظرية الدائرتين؛ دائرة نجمع فيها كل هذه الفنون الخمسة، على ما يبدو فيها من اختلاف، وقطعاً لا يوجد هذا الاختلاف لأن الفنون تلتقي في أشياء كثيرة جداً، وفي هذه الدائرة التي نجمع فيها الفنون نجتهد اجتهاداً كبيراً لنتعرف على ما يخضع للقياس فيها من خلال ما تركه لنا الأوائل، الذين لم يتركوا شيئاً، وضعوا لنا القواعد في كثير من المجالات.

إذا انتقلنا إلى الموسيقى نجد أن الأوائل قد اخترعوا هذه الآلات ووضعوا النوتة الموسيقية ووضعوا ألوان التعبير، وهذا لون يقوم على المقامات منذ عهد الفارابي والحسن بن نافع زرياب الذي أضاف الوتر إلى آخره. وهكذا نتتبع هذه الفنون، إذا تحدثنا عن الفيديو الآرت والتشكيل وهنالك قواعد في الموسيقى نجد الهارموني والارموني وكلها موسيقى معروفة تركها لنا الأوائل، وهناك اجتهادات في الحركة أننا نتحدث في هذه الدائرة عن ما نعرف، وما هو ملموس بالنسبة لنا في هذه الفنون.

أنتقل إلى الدائرة الثانية، وهذه الدائرة تلتقي فيها كل هذه الفنون وتمتزج من أجل الوصول إلى المعنى الذي وجدته استحالة، وهذه الاستحالة تكمن في أن جانب التأثير من قبل الفنون مازال يتيه بالمعنوية، أو قل الروحانية، أو قل القبسية، كلها على النقيض من المادية الملموسة، وللتدليل درجت على أن أقول: إذا استمعت فتاة رقيقة المشاعر إلى لحن موسيقي حزين، ربما ذرفت الدمعة، وإذا استمع رجل شيخ يمتلئ حماسة لقصيدة من قصائدنا في السودان الحماسية، رفع عصاه وهزّها أو ربما سلّ سيفه،

القضية تتصل بالتأثير، وقضية التأثير قضية من الصعب جداً أن تضعها في معادلة علمية ثابتة، نرجع إليها في كل الحالات. فبالنسبة لأهل الغرب ربما كان القياس الفنان نفسه، إذ بدؤوا يلاحظون كيف يتعامل هذا الإنسان الذي تشربت دواخله هذه الفنون، فوجدوا أنه ينفر من العنف، وينفر من إراقة الدماء، فربما لاحظوا هذه الأشياء وكان هذا هو القياس.

فقضية الثقافة عندما اتصلت بجانب الفنون، وانتقلت من التعليم إلى الموسوعية إلى الاتصال بالفنون، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها. لذلك قلت قفزت بالتعريف للثقافة قفزة كبيرة. فقضية الثقافة قضية تتصل كذلك اتصالاً كبيراً وعضوياً مع قضية الوعي، وقلبي مع الوعي. في كثير من اللقاءات أخاطب الشباب أمامي، وأقول لهم: هل هنالك من قيمة حياتية تفضل التعليم؟ فيجمعون كلهم: لا، ليس هنالك من قيمة تفضل التعليم. فأقول لهم - حسب رؤيتي المتواضعة - هنالك قيمة، وهي الوعي، لأننا قد نجد إنساناً متعلماً متخصصاً ويحمل درجات عليا ولكنه لا يعرف شيئاً سوى هذا الوجه الذي يهتم به، لذلك ورد في تراثنا السوداني القديم، من الأمثلة «القلم ما بيزيل بلم»، وهنا القلم رمز للشخص المتعلم، «القلم ما بيزيل بلم»، معنى هذا الكلام أن القضية ليست قضية التعليم فقط، لا، إنها قضية الوعي، وهذا الوعي ربما نجده عند إنسان بسيط يعرف عن الحياة كثيراً، ويمكن أن تستشيره ويأتيك بالجواب الأفضل، فقضية الوعي هي القضية الكبرى التي علينا أن نتملاها ونقف عندها وقفة التأمل، وكما تقول الأغنية « الواعي ما بيوصوه».

وختم الكابلي محاضرته بالتأكيد على أن قضية الثقافة قضية كبرى، فالثقافة قفزت عندما اتصلت عضوياً بالفنون، وقضية الفنون تحتاج لأن نقف عندها وعند كل فن على حدة، وتابع هذه الفنون على ما يبدو عليها من اختلاف، إلا أنها تلتقي كلها، فإذا تحدثنا عن الكلمة، والكلمة - كما قلت - مظلة يتفرع منها الشعر والنثر والأمثال و... وكلما يتعلق بالكلمة التي، كما تركها لنا الأوائل، تحمل معاني، وكل كلمة لها معنى ولها مدلول، هذه الكلمة بداخلها الموسيقى، موسيقى الأحرف الهجائية التي نكتب بها ويكتب بها غيرنا، هذه الكسرة وهذه الفتحة وهذا الضمّ والسكون، ثم عندما تمتزج وتصبح شعراً نجد هذا الموسيقى ونجد الإيقاع، هذا الإيقاع يتمدد إلى أن يتصل اتصالاً مباشراً مع الموسيقى، لأن الموسيقى تقوم على الإيقاع، عندما يتقدم طالبو الالتحاق بالمعاهد الموسيقية أول اختبار يمرون به هو جانب الإيقاع،

إن هذا الخيط الرابط من الموسيقى إلى إيقاع الكلمة خيط رفيع رهيف، وهذه إيقاعات، المباني القديمة في روما، تجعلك تتعجب كيف يضعون هذه الأعمدة في مسافات متساوية، هذا إيقاع. فالإيقاع يتصل مع كل نفس إذا ذهبنا إلى الرياضة هنا نكون قد دخلنا في قضية ثانية، وهي هذا الأمر الأول الذي أتحدث عنه في الموسيقى وهو الإيقاع الزمني، إذا ذهبنا إلى الرياضة يضاف إلى هذا الإيقاع الزمني إيقاع مسافي، ومن هذا الإيقاع جاءت السنتمتر والبوصة والمتر والياردة والميل والفرسخ وهذه الأشياء. فأصبحت القضية قضية إيقاع زمني مسافي، ولعل هذا يربط بين الفنون جمعاء، فقضية الثقافة وقضية الوعي وقضية الفنون والاتصال بتهذيب الناس قضية كبيرة جداً وتحتاج إلى فسحة كبيرة.

العدد 2967 - الأربعاء 20 أكتوبر 2010م الموافق 12 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:44 م

      الكابلي فخر للوطن العربي والعالم اجمع

      إن هذا الرجل مبهر في تناوله للامور، ممتع الحديث، ينصت له الشخص البسيط كما ينصت له العالم والحاكم بكل تواضع، هو فخر لوطننا العربي أن يكون به رجلا مثل الكابلي...

اقرأ ايضاً