العدد 3009 - الأربعاء 01 ديسمبر 2010م الموافق 25 ذي الحجة 1431هـ

«المزدكية» و«كندة»: الاستراتيجيات السياسية - الدينية الجديدة

في الفصل السابق تناولنا بداية سنوات الفوضى التي مرت بها الكنيسة الشرقية والتي أدت إلى انقسامها، في نفس سنوات الفوضى السابقة والسنوات التي تلتها ظهرت عناصر سياسية ودينية جديدة زادت من الفوضى والانشقاق. فعلى الصعيد الديني ظهرت المزدكية في فارس والتي أدت إلى صراع سياسي ديني داخل أرض فارس نفسها قبل أن ينتقل للمناطق التابعة لها ما أدى لزيادة الفوضى وضعف قوة السيطرة الفارسية الساسانية، أما على الصعيد السياسي فقد تزايدت قوة دولة كندة وأخضعت شرق الجزيرة العربية (البحرين قديماً) لسيطرتها، ومن المرجح أن كندة لعبت ببعض خيوط اللعبة السياسية - الدينية لتتمكن أخيراً من التحالف مع القوى السياسية الساسانية وتسيطر على مناطق أخرى تابعة للسلطة الساسانية بما في ذلك الحيرة التي كانت تحت سيطرت المناذرة. في هذا الفصل سنعرض باختصار نشأت دولة كندة وكيف سيطرت على البحرين القديمة وكيف انتهت سيطرتها عنها، وما هي النتائج التي ترتبت على ذلك.


دولة كندة

تعتبر دولة كندة دولة قحطانية نشأت في بدايتها في شمال الجزيرة العربية ومن خلال المراجع ا لحديثة التي تناولت دراسة هذه الدولة يتضح أنها مرت بأربع مراحل أساسية.


البدايات الأولى لدولة كندة

لا يعلم بالتحديد زمن بداية دولة كندة أو المكان الذي نشأت فيه أول مرة إلا أن بوخارين ينفرد في بحثه عن بداية كندة أنها بدأت في شمال وسط الجزيرة العربية في القرن الأول الميلادي حيث أشير لها في بعض الكتابات والنقوش، وذلك بحسب تحليلات بوخارين نفسه، باسم Kinaidokolpites و Kanraitai، وبسبب غزوات أهل الحبشة للجزيرة العربية انتقل شعب دولة كندة من موضعهم وتحركوا جنوباً ليؤسسوا كندة الثانية في موقع قرية الفاو حالياً (Bukharin 2010).


كندة الثانية

بعيداً عن تحليلات بوخارين السابقة، المرجح وبحسب النقوش السبئية أن كندة كانت تعرف باسم كندات وأنها كانت موجودة في موقع قرية الفاو في قرابة العام 210م (Kitchen 1994، p. 38)، إلا أن جواد علي في كتابه المفصل في التاريخ يذكر أنها وردت في النقوش باسم «كدت» (علي 1993، ج3 ص 315). والنقش المشار إليه هنا هو نقش «Jamme 635» المدون في أيام الملك «شعر أوتر» ملك سبأ وذي ريدان، وقد كان يحكم «كندات» أي كندة في ذلك الوقت ملك اسمه «ربعت»، أي «ربيعة»، وذكر أنه من «ذ ثورم « أي من»الثور» أو «آل ثور»، وأنه كان ملكاً على «كندات» أي كندة وعلى «قحطن» أي «قحطان»، ويدل هذا النص على وجود مملكة كندة في أيام «شعر أوتر» وأن ملكها ربيعة بن ثور، وهذا قريب من رأي أهل الأخبار الذين ينسبون كندة إلى «ثور بن عفير»، ويظهر أنهم أخذوا «ثور» القديم، وهو اسم عائلة أو بيت أو عشيرة من كندة، فصيّروه الجد الأكبر لكندة، وقد أعطوه نسب طويل هو « ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ين كهلان بن سبأ» (علي 1993، ج3 ص 315 - 316).

ومن ملوك كندة التي وردت أسماؤهم في النقوش السبئية: ربيعة دو الثور (210م - 230م)، ومعاوية بن ربيعة (230م - 245م)، ومالك بن بودد (245م - 255م) (Kitchen 1994، p. 226).


كندة الثالثة

لا يعلم بالتحديد المدة التي استمرت فيها دولة كندة الثانية ومتى بدأ التوسع فيها إلا أنه وبحسب المراجع العربية القديمة التي تحدثت عن كندة أنها توسعت في قرابة العام 450م وهي الفترة التي بدأ فيها حكم حجر الملقب بآكل المرار، وهو ينسب إلى «عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية» على رواية، وإلى «عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كندة» على رواية أخرى، وبحسب كتب الأخباريين فإن كندة قبل أن يملك حجر عليها (أي قرابة الفترة ما بين 300م و450م) كانت بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدّد أموالها وساسها أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض «بكر بن وائل»، وبقي حجر كذلك حتى مات، وبذلك يكون حجر على هذه الرواية أول ملك من ملوك كندة، وأول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها فشملت وسط الجزيرة العربية حتى بلغت حدود الحيرة (علي 1993، ج3 ص320 - 322).


كندة الشرقية وكندة الغربية

تعتبر الفترة ما بين 450م و530م فترة سيطرة كندة الموالية لحمير سياسياً على شرق الجزيرة العربية حيث أعطى ملك حمير سلطة قبائل معد لحجر آكل المرار التي نشطت حركته في الفترة 450م - 475م ففي تلك الفترة قام حجر بحملة هو وحلف قبائل ربيعة على البحرين (بوتس 2003، ج2 ص1021 - 1022). وعندما توفي حجر قرابة العام 475م (Kitchen 1994، p. 226) ترك ابنين هما عمرو الملقب بالمقصور ومعاوية الملقب بالجون قاما باقتسام مملكته مع بقاء الرئاسة العامة بيد الأسن منهما فأصبحت المملكة مكونة من ولايتين إحداهما شرقية قلبها اليمامة وتشمل شرقي الجزيرة العربية، والأخرى غربية قلبها عالية نجد والأراضي الحجازية وعاصمتها بطن عاقل (الغزي 2007، ص17). وقد أسندت الولاية العامة لعمرو المقصور (457م - 500م) (Kitchen 1994، p. 226)، وهكذا أصبح عمرو ملكاً بعد أبيه، ويقولون إنه إنما قيل له «المقصور» لأنه قصر على ملك أبيه، أو لأن «ربيعة» قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور (علي 1993، ج3 ص 326).


الحارث وكندة الرابعة

لقد تابع عمرو عمل أبيه وفي نهاية عهده نشبت حرب البسوس بين بكر وتغلب (بين قرابة 490م وزهاء 530م) ويظن أن هذا النزاع القبلي جعل المناذرة يستصعبون إبقاء نفوذهم على قبائل نجد والبحرين (بوتس 2003، ج2 ص1022). وفي قرابة العام 500م توفي عمرو بن حجر وخلفه ابنه الحارث بن عمرو (500 م - 528 م) (Kitchen 1994، p. 226) الذي سعى في عقد صلح بين بكر وتغلب وأصهر بتغلب بأن زوج ابنه حجر (والد امرئ القيس الشاعر المشهور) بفاطمة بنت ربيعة، وعلى ما يظهر فإن هذا الزواج كان زواجاً سياسياً قصد منه الملك الحارث الاستعانة بقبائل وائل في حروبه ضد أمراء لخم والغساسنة. وتتفق جميع المصادر العربية ولو اختلفت في بعض التفاصيل على أن الحارث أناط بأبنائه مراقبة القبائل الوسطى الشمالية والقبائل الشرقية الشمالية، فتولى شرحبيل زعامة قبيلة بكر بن وائل وبعض بطون تميم والرباب النازلين في البقعة الواقعة بين البحرين وداريا والفرات، وسيطر سلامة على تغلب بن وائل والنمير وسعد بن زيد مناة ودارم بن مالك وهي قبائل تنتسب لربيعة ومضر وتميم في جزيرة العرب الشمالية الشرقية الأقرب إلى الأراضي الساسانية، وأخيراً، أعطى عبدالله السيطرة على عبدالقيس في البحرين، وهكذا ترى عملياً أن جميع الفئات التي كانت موالية للحيرة سابقاً أصبحت في نهاية القرن الخامس تقف إلى جانب كندة (بوتس 2003، ج2 ص1023).

ويلاحظ أن الحارث سيطر على أراضٍ كانت في الأساس تحت السيطرة الساسانية حيث استغل الحارث الصراع المزدكي - السياسي الذي بدأ في فارس.


ظهور المزدكية

كما سبق وأشرنا أن الساسانيين اعتمدوا على الديانة الزرادشتية في بداية تكوين دولتهم وبذلك كانت هناك قيادات دينية مثل ما كان هناك قيادات سياسية، وهناك تنظيم معين لرجال الدين في الزرادشتية منهم المدرس أو ما يعرف بالهربد (herbed) أما الرئيس الروحي الأعلى فيسمى الموبذ (mowbed Daryaee 2009، p. 75). أما تعاليم الديانة الزرادشتية فقد كان عبارة عن خليط من معتقدات تم تدوينها على مدى فترة زمنية طويلة وجمعت في كتاب عرف بالأفيستا (avesta) إلا أن هذه التعاليم كان لابد أن تشرح بصورة تسهل من فهمها، وقد كانت الشروحات غير المقبولة من قبل الموابذة تسمى زندقة وهي كلمة موازية تماماً للهرطقة في الديانة المسيحية (Daryaee 2009، p. 75). وفي نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلاديين ظهر مزدك الذي اشتهر بتفسيره لتعاليم الزرادشتية بصورة يدعو فيها للمساواة بين الناس في كل شيء ليس فقط المال بل حتى النساء والأولاد وهي تعاليم لاقت رواجاً في الطبقات الدنيا والوسطى في فارس (Daryaee 2009، pp. 86 - 57).

وقد كان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وإن الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء، وقد ذكر الطبري عدداً من أفعالهم حيث قال:

«وإنهم (أي أصحاب مزدك) يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردون من المكثرين على المقلين وإنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره فافترص السفلة ذلك واغتنموه وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلى الناس بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم... فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده ولا المولود أباه ولا يملك الرجل شيئاً مما يتسع به» (الطبري 1407هجرية، دار الكتب العلمية، ج1 ص419).


قباذ والمزدكية

تسلم قباذ الحكم العام 488م (Kitchen 1994، p. 253) غير أن الزمن لم يكن مؤاتياً له حيث «كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا، إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للأغنياء وللإقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة. فلم يعجب قباذ الوضع، لأنه (ملك الملوك) (شاهنشاه) ومن حق (ملك الملوك) ألا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس. فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين... فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة (موبذان موبذ) والعظماء على إزالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه» (علي 1993، ج3 ص333 - 334).

تولى جاماساب (Zamasp) الحكم بين الأعوام 496م - 499م إلا أن قباذ استطاع الإفلات من السجن واستعادة ملكه وذلك العام 499م (Daryaee 2009، p. 27).


قباذ والحارث

تميل الوقائع المختلفة المذكورة في المصادر العربية إلى دعم أن الحارث بن عمرو في أواخر أيامه قد بادر على انتزاع السيطرة على الحيرة من المنذر ويعتقد أن قباذ الأول ربما ساعد أو شجع الحارث على ذلك، وذاك بسبب أن قباذ الأول اعتنق المزدكية وطلب من المنذر موافقته على اعتناقها فرفض ووافقه الحارث على الدخول في مذهبه الأمر الذي جعل قباذ يساعد الحارث في احتلال الحيرة التي هرب منها المنذر (بوتس 2003، ج2 ص1024).


نهاية سنوات الفوضى

يبدو أن المنذر لم يستسلم للحارث وقد نشبت حرب بينهما انتهت بقتل الحارث بن عمرو الكندي العام 528 م وتمكن المنذر من استعادة ملكه في الحيرة، وفي العام 531م توفي قباذ الأول واعتلى ابنه كسرى الأول (أنوشروان) (531 م - 579 م) على الحكم، وقد قام كسرى بمطاردة أتباع مزدك، وقد أعطى المنذر سيطرة صريحة على المناطق القبلية التي كانت تحت سيطرة الحارث وأبنائه (بوتس 2003، ج2 ص1024 - 1025). أما على الصعيد الديني المسيحي فقد تحدثنا في الفصل السابق عن الانقسام الذي حدث في نهاية الثلث الأول من القرن السادس الميلادي بين نرساي واليشاع، ولكن بعد موت نرساي في العام 535م حدث انفراج وكانت بداية سنوات الإصلاح في الكنيسة الشرقية (O>Leary 1979، p. 46).

يجب التأكيد هنا أن سنوات الفوضى السابقة ألقت بظلالها على السنوات اللاحقة فقد حدث تغير واضح في سياسات السلطات السياسية في المنطقة (الساسانيون والروم والمناذرة) هذه السياسات الجديدة نتج عنها صراعات جديدة وهو ما سنناقشه بالتفصيل في الفصل القادم.

العدد 3009 - الأربعاء 01 ديسمبر 2010م الموافق 25 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:36 م

      نصيحه الئ المسلمين

      انا اعتقد ان كل هذه الذي حدث في الامبروطويه الفراسيه هي بسبب تسلط اهل الدين علئ رقاب الناس وانا من مكاني هذه احذر المسلمين من علماء الدين حتئ لا يظهر مزدك ثانيا فرحم الله كسرئ انو شيروان وشكرا اخوكم العراقي

اقرأ ايضاً