العدد 3100 - الأربعاء 02 مارس 2011م الموافق 27 ربيع الاول 1432هـ

الطريق إلى القدس (2 - 2)

سارت الأمور على ما يرام، لكن منذ الانتفاضة الثانية تكثفت دوريات الجيش في الطرقات باحثين عن (المتسللين) من مدن الضفة الغربية إلى القدس. الطريقة الوحيدة للتخلص من الاعتقال أن تبرز لهم بطاقة القدس. وحتى تلك البطاقة كانت أحيانا لا تحمي حاملها من البهدلة والشتائم خصوصا الشباب الذين يرى فيهم الجيش وقود الانتفاضة وحاملي شعلتها المضيئة.

سنة كاملة وهو على تلك الحال، لا يعرف لها نهاية، جلسات المحكمة لا تبشر بالخير، ومشاكله مع دوريات حرس الحدود لم تتوقف حتى حفظه بعضهم وأصبحوا يتركونه بحاله، فكلما اعتقلوه، يتم إطلاق سراحه بعد ساعتين. في الجلسة الأخيرة للمحكمة كانت يده على قلبه. وحينما نطق القاضي حكمه بإعادة البطاقة له، لم يصدق، لكن المحامي أكد له أن كل الأوراق لصالحه، فهو ولد بها وعاش بها ويعمل بالقدس، وحصل على رخصة بناء بالقدس، ولم ينتقل منها، ولكن البلدية غيرت مخططها، وأخيرا انتقل للسكن بعدما علم ذلك ويدفع الضرائب ومستحقات مؤسسة التأمين الوطني... يا سلام مواطن صالح، رغم ذلك لم يتركوه بحاله.

الآن هو من المرضي عنهم، من سكان القدس، مولدك في القدس أبا عن جد لا يعطيك حق الإقامة فيها، بل قرار القاضي المحتل القادم من روسيا، ورومانيا وبولندا وحتى من إثيوبيا فهو الذي يمنحك هذا الحق، وله وحده حق طردك منها حتى لو شهد في صفك كل حجارة القدس، وسورها وأبوابها.

لكن ماذا يفعل ببيته الكائن في كفر عقب؟ هل يبيعه؟ هل يؤجره؟ كيف؟ والمستأجرون لا يلتزمون بالعقد، ولا يخرجون من البيت إلا بالقوة. لا لا، لا يريد أن يؤجره، سيترك البيت لحين استتباب السلام، السلام قريب. لا يعرف متى، كل ما يعرفه أنه في كل عام يستمع إلى نفس الأقوال النصر على مرمى حجر، الدولة قريبة، اصبروا… إلخ حتى مل كل تلك الشعارات. المتباكون على القدس كثيرون لكنهم يتاجرون باسم القدس ومقدساتها.

بعد فترة ليست قصيرة ركب سيارته واتجه إلى بيته في كفر عقب. البيت كما هو، الأعشاب تنمو حوله دون أن يقلمها أحد، دفع الباب الخارجي للسور، ثم أخرج المفتاح من جيبه وهم بفتح الباب. لكن المفتاح لم يدخل في الفتحة المحددة للقفل.

غريب، هل نسي المفتاح؟

نظر إلى مفتاحه مرة أخرى، دقق به. إنه مفتاح البيت لا يمكن أن ينساه فقد مر على استخدامه أكثر من عشر سنوات. جرب مرة أخرى لكن دون نتيجة. نظر إلى قفل الباب، شعر كأنه قد تغير، لكنه لم يغيره، هل غيرته زوجته دون إعلامه؟

اتصل بها من هاتفه الخلوي فردت عليه.

- أبدا لم أصل البيت منذ انتقلنا إلى هنا.

- هل فعلها بعض اللصوص؟

أغلق الخط وبدأ ينظر من الشبابيك إلى داخل البيت فشاهد باحدى الغرف الداخلية بعض الأثاث.

أنا لم أترك شيئا في البيت، من أين جاء الأثاث؟ لا بد أن أحد الزعران يسكن البيت مستغلا غيابنا.

ثارت ثائرته، اتصل بأحد إخوته وطلب منه أن يحضر معه لاقتحام البيت. فهب أخوه لنجدته. عاد سعيد إلى السيارة، فأحضر بعض المفكات والشاكوش وحاول بها كسر القفل، بعد ساعة وقبل أن يصل أخوه استطاع كسر الباب، دخل البيت، فشاهد بعض الأثاث الموجود في البيت، دخل غرفة نومه فلم يصدق. وقف مبهوتا:

- يا إلهي، فعلها الكلاب.

كان علم إسرائيل معلقا على الحائط، فعرف أن المستوطنين استولوا على البيت. فجأة سمع صوت سيارات تقف أمام البيت فخرج ليرى سيارة للجيش وأخرى للمستوطنين اليهود، يحملون أسلحتهم. سألهم:

- ماذا تريدون؟

فقال له الجندي:

- أنت ماذا تفعل هنا؟

- هذا بيتي.

فقال له أحد المستوطنين الذي يبدو في الستين من عمره:

- هذا بيتنا وليس بيتك، لماذا كسرت الباب لو كان بيتك؟

- لأنكم غيرتم قفل الباب واستوليتم عليه.

فقال له الجندي:

- هل معك أوراق أنه بيتك؟

- طبعا!

- أين هي؟

- معي في البيت في راس العامود.

فضحك المستوطن وقال للجندي:

- لو كان بيته لكان يسكن فيه، لكن تعال إلى الداخل،

دخلوا جميعا فقال المستوطن:

- كيف يكون بيته وهنا صورتي على الحائط، وهذا علم دوله إسرائيل. إنه يريد سرقه البيت.

- اخرس يا ك.... هل تريد الاستيلاء على بيتي وأنا حي؟

- أنا لم أستول على البيت أنا اشتريته من الشركة التي اشترته منك.

- متى؟ أنا لم أبع البيت.

فقال له الجندي:

- اسمع هذه أمور تحلونها في المحاكم أنا هنا لأخرجك من البيت وسآخذك لقسم الشرطة لأنك كسرت الباب وتسببت بأضرار.

- إنه بيتي، يا عالم.

- قل ذلك للقاضي.

قيدوه وساقوه إلى الجيب فوصل أخوه في تلك الفترة، فوجئ بما حصل، سأله:

- ماذا جرى؟

- المستوطنون استولوا على البيت ويدعون أنهم اشتروه.

- الكلاب

اقترب منه أحد الجنود وسأله:

- من أنت؟

- أنا محمد.

- أنت أخوه؟

- نعم.

- اذهب من هنا قبل أن أسجنك معه.

- لكنه بيت أخي.

- أخوك باعه.

- هذا كذب.

- حسنا كذب قل ذلك للقاضي أنا لا أحكم بينكما.

قال محمد لسعيد:

- توكل على الله سأعود بسيارتك فقد جئت بسيارة أجرة أعطني المفتاح. وسأوكل لك محاميا.

غادر محمد البيت ليبدأ اتصاله، فيما اقتيد سعيد إلى قسم الشرطة في القدس.

كان خلال الطريق متوتر الأعصاب، يكاد ينفجر. الكذب عينك، عينك، يستولون على البيت وهو بيتي ويدعون أنهم يريدون السلام وأننا الإرهابيون. آخ لو استطع أن...

لا أعرف ما العمل الآن؟

محام من جديد؟ مصاريف؟ جلسات؟ ملاحقات؟ حتى لو أعادوا البيت السؤال إلى متى؟ متى سيتوقفون عن الاعتداء علينا، ونهبنا؟

في اليوم التالي خرج سعيد من السجن بكفالة، وعلى الفور رفع قضية يطالب فيها باستعادة بيته، وقدم كل الأوراق التي تثبت أن البيت بيته. حتى قال له المحامي إن نجاح القضية مضمون مئة في المئة. بعد عدة جلسات أكد القاضي أن أوراق سعيد كلها صحيحة وأنه فعلا كان صاحب البيت لكن أوراق المستوطن كلها صحيحة أيضا، وأن سعيد قد باع الدار إلى إحدى الشركات التي باعتها للمستوطن.

صاح سعيد من الغيظ

- لكني لم أبع البيت.

- لكن التوقيع حسب محلل الخطوط توقيعك والشهود شهدوا على ذلك.

- يا حضرة ال….

قاطعه القاضي:

- يمكنك الاستئناف رفعت الجلسة.

كاد سعيد ينفجر من القرار، كان يريد الهجوم على القاضي وضربه، حبذا لو يستطيع فعل ذلك لمن نشكو يا رب؟ القاضي يتحيز لهم، والشهود يهود، الشرطة يهود، من ينصفنا.

توجه إلى المحامي وسأله:

- كيف يحدث هذا، يسرقون بيتي، هذا كل ما أملك. إنه مستقبل أولادي.

حاول المحامي أن يهدئ من روعه.

فقال له:

- التزييف محكم يا سعيد.

- لكن كيف عرفوا توقيعي؟

- بسيطة من الأوراق التي قدمتها لبلدية القدس حيث حصلت على رخصة للبناء.

- وكيف حصلوا على ذلك؟

- هل هذه مشكلة؟ شركات الاستيطان اليهودية لديها مؤيدون وعناصر في كل مكان في مؤسسات الدولة. وهناك متخصصون في تزييف التوقيع بحيث يصعب أن تميزه عن الأصلي. والمحامي الذي صادق على توقيعك أهرون حسون يعمل مع المتطرفين اليهود وكان في السابق من جماعة عضو الكنيست المتطرف «رحبعام زئيفي» الذي يطالب بطرد العرب.

بصراحة توقعت كسب القضية، لكني فوجئت بالقرار العنصري.

سنستأنف القرار.

- هل تتوقع أن يصادقوا على القرار؟

لا أعرف لكن علينا ألا نستسلم. أليس هذا رأيك؟

- لم يعد رأيي مهما. إنهم يضعوننا دائما في الجانب الضعيف، ويتركون لنا نفقا واحدا للخروج منه. هذا النفق يؤدي إلى الطريق التي يريدونها. وكلما خرجنا من نفق أدخلونا في نفق آخر.

- ألم يكن باستطاعتك تأجيره لأحد الأقرباء؟

- هل هذه هي المشكلة؟ ألم أكن أسكن فيه؟

أليس هذا بيتي؟

- سنتابع الاستئناف في المحاكم.

- لم أعد أثق بمحاكمهم.

- ولكنا نجحنا في مرات سابقة.

- وهل هذا يجعلها محاكم عادلة؟ كم حالة مشابهة مثلي رفضت المحاكم إعادة بطاقاتهم لهم؟ ماذا يفعل سكان ضاحية البريد الذين كانوا منذ العهد الأردني (قبل ) ضمن القدس. ثم فجأة حولتهم بلدية القدس إلى منطقة غير خاضعة لها كي تتوقف عن تقديم الخدمات لهم وتحرمهم من دخول القدس...

- أنت صحيح، لكن يا سعيد، ليس أمامنا من خيارات أخرى.

- هل تعرف نحن وهم مثل خصمين يتلاكمان في حلبة الملاكمة. أحدهما قوي ويمثل إسرائيل والثاني ضعيف ويمثلنا. القوي لا يريد أن يضرب خصمه الضربة القاضية من الجولة الأولى كي لا يضج الجمهور الذي اشترى تذاكره ليشاهد مباراة كاملة. لكنه يضرب خصمه ضربة يوقعه أرضا ويتركه يترنح على الأرض ثم يستعيد أنفاسه ويقف ليفاجئه بالضربة التالية، وهكذا.

- أذهلتني بهذا الوصف، وماذا ترى أن على الخصم الضعيف أن يفعل؟

صمت طويل

- لا أدري، لا أفهم كيف يمكن للضعيف أن ينتصر وهو يرى الأقوياء يصفقون للقوي والضعفاء يترقبون عبر شاشات التلفزيون صامتون، يدعون الله أن ينصره على خصمه.

- وهل يفكر خصمك الضعيف بالاستسلام؟

- أحيانا أتساءل لماذا لا يفكر الخصم الضعيف بالاستسلام من البداية. والرضوخ للأمر الواقع؟

- وماذا ترى؟

- لو استسلم سيبصق عليه كل الجمهور والمشاهدون سيقولون إنه جبان، إنه تافه، إنه خائف. لن يقولوا إنه يواجه خصما أضخم، وأقوى منه.

- عجيب أنت يا سعيد. تصور الأمور بطريقة...

- غريبة أليس كذلك؟

- وعجيبة أيضا. لكنك لم تجب على سؤالي ماذا على الخصم الضعيف أن يفعل؟

- أحيانا أقول إن على الضعيف أن يظل يترنح على الأرض أو يتظاهر كذلك حتى الجولة الأخيرة حيث يكون القوي قد وصل إلى قمة غروره، ثم ....

- ثم ماذا؟

- ثم فجأة يهجم عليه بسرعة يكيل له ما استطاع من ضربات قبل أن يطلق الحكم صفارته بانتهاء المباراة.

- والنتيجة؟

- ربما يحقق بعض النقاط على خصمه، وربما...

- وربما ماذا؟

- وربما يذهل خصمه بالمفاجأة ويعجز عن سد الضربات.

- دعنا من الأحلام وقل لي، هل أستأنف القرار؟

- نعم سنستأنف القرار حتى النهاية.

صادقت محكمة الاستئناف على قرار محكمة الصلح وحكمت لصالح المستوطن، وصادقت محكمة العدل لصالحه ولم يبق أمام سعيد أية محاكم يلجأ إليها. هل يلجأ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي؟ كيف؟ هل ستقبل تسلم قضيته والنظر فيها. لقد أحكموا الخناق عليه، الشهود منهم، التوقيع محكم التزييف، ماذا باستطاعته أن يفعل؟

اتصل بالسلطة الفلسطينية وشكا لهم ما جرى فنصحوه أن يت

العدد 3100 - الأربعاء 02 مارس 2011م الموافق 27 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً