العدد 1226 - الجمعة 13 يناير 2006م الموافق 13 ذي الحجة 1426هـ

الحسني: مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان في عالمنا العربي يمر بأزمة

رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان (سواسية) لـ «الوسط»:

تجرى احاديث كثيرة في البلدان العربية عن الجرائم السياسية، التي تخلف معتقلين وسجناء رأي، وهي حال يرى نشطاء حقوق الإنسان ورجال القانون انها تشكل خرقاً لحقوق الإنسان، الأمر الذي يفرض تشكيل وعي عربي في مفهوم الجريمة السياسية وتطورها، يعيد النظر في السياسات التي تتبعها البلدان العربية إزاء الآراء والمواقف التي يتخذها أعضاء الجماعات السياسية ونشطاء المجتمع. «الوسط» التقت رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان (سواسية) مهند الحسني في دمشق وأجرت معه هذا الحوار عن موضوع الجرائم السياسية، والتغييرات المطلوب حصولها على الصعيد العربي من أجل تحسين البيئة السياسية، والدور الذي يمكن أن تلعبه الجمعيات الحقوقية في الحياة السياسية العربية. يجري الحديث دائماً عن الجرائم السياسية، كيف تطورت الجريمة السياسية؟ ­ الجرائم السياسية هي من أولى الجرائم التي عرفتها البشرية منذ نشوء الجماعة الأولى، وتطورت لاحقاً في مسارات مختلفة، فقد كان أباطرة الرومان يستندون في القضاء على خصومهم السياسيين إلى مفهوم الحروب التي كانوا يزعمونها عادلة، وغزلت الكنيسة على المنوال ذاته جريمتها الخاصة باعتبارها «جريمة الجلالة الإلهية» المقابلة لجريمة «الجلالة البشرية» واللاحقة بها تاريخياً وقد طبقت بكل عنف في اسبانيا على كل من لا يدين بالكاثوليكية باسم الدفاع عن العقيدة في مرحلة من المراحل. ومرت الجريمة السياسية في الإسلام بمرحلتين الأولى إبان الخلافة الراشدية: إذ مرّ خلالها مفهوم الإجرام السياسي بمرحلة فريدة من تاريخنا العربي الإسلامي، فلم يكن الخلفاء الراشدون يتبرمون من النقد بل كانوا يتحملون الطعن في أشخاصهم بصبر جميل وكانوا يجدون في أنفسهم خلقاً كسـائر خلق الله وضربوا أروع الأمثلة في سعة الصدر وتحمل المسئولية ولم يكن هناك خط فاصل ما بين الجريمة السياسية والجنائية وإنما كانت جميعها تخضع لأحكام الحدود والقصاص، وما إن استحكمت شهوة ديمومة السلطة والطمع في حكم بني أمية حتى بدأت طلائع مرحلة جديدة تلوح في الأفق، فكان خلفاء بني أمية والعباس يعاقبون بكل قسوة كل من يتعرض لأشخاصهم، واستمر الحال على ما هو عليه حتى أصاب الأمة ما أصابها من بؤس وشقاء. وشهدت أوروبا مرحلة مظلمة من تاريخ الإجرام السياسي بظهور فلسـفة انتهازية مع الوزير ميكافيلي الذي نشر كتابه «الأمير» العام ،1532 والذي قامت فلسفته على أن الغاية تبرر الوسيلة وأن سلامة الدولة والحكم تبرر اللجوء لأي إجراء مهما كان قاسياً، واستمر الحال على ذلك المنوال حتى نهاية القرن الثامن عشر، إذ بدأت الأفكار تغزو العقول والضمائر، وارتسم في فرنسا ما بعد العام 1789 الحد الفاصل الواضح والصريح ما بين الجرائم الموجهة ضد السلطة والجرائم الموجهة ضد الوطن أو الأمة، وانتقلت رياح التغيير إلى إنجلترا حينما أصدرت الملكة قرارها الشهير الذي حصرت فيه جريمة الخيانة بزمرتين لا ثالث لهما، عرقلة انتقال التاج لولي العهد أو التهجم كتابة على نظام وراثة العرش، ما أدى إلى إطلاق الحق في التفكير والتعبير والنقد، وأثر على إجراءات المحاكمة وقواعد التقاضي، ووسـع دائرة الضمانات المخصصة للمتهم ولاسيما فيما يتعلق بالإجرام السياسي. ما الحادث التاريخي الأهم برأيك الذي أثر في موضوع الجريمة السياسية وفي مفهوم الجريمة السياسية؟ ­ الحادث هو الثورة الفرنسية وكما أراها فقد قلبت المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الإجرام السياسي بفضل المفكرين والفلاسفة والمثقفين الذين أتيحت لهم الفرصة التاريخية في ذلك الحين لتكوين الضمير الشعبي الحر، لقد قلبوا رأس المجن لما كان سـائداً من فكر استبدادي ظلامي استمر لعقود كمحصلة للسلطة المطلقة التي كان يتمتع بها ملوك فرنسا. ونتيجة لذلك تمكن الفلاسفة والمفكرون من تضييق نطاق جريمة الجلالة، وذلك برسم حدود لها ووضعوا حقوقاً للشعب في مقابل حقوق الملك وطالبوا بإلغاء المحاكم الاستثنائية ذات السمعة المريبة في عالم العدالة، وكان التوفيق حليفهم في هذه المرحلة بإعلانهم لحقوق الإنسان والقضاء على الملكية بشخص لويس السادس عشر. لقد أصبحت الدولة تتمتع بشخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية الحكام ملوكاً ورؤساء ووضع حد للخلط في هذا المفهوم، وارتقت النظرة للمجرم السياسي فلم يعد خصماً للدولة وإنما قد يكون خصماً للسلطة وأجهزتها والتي تشكل صوراً عابرة تتبدل وتتغير تبعاً للظروف والأحوال، ومن هنا اكتسى ما يطلق عليه المجرم السياسي حلته الجديدة في علم الإجرام الحديث بوصفه صاحب عقيدة ووجدان يدفع بعجلة التاريخ للأمام لمصلحة الشعوب. وعليه، فإن التطور والارتقاء بالنظرة إلى المجرم السياسي يرتبط بعاملين التطور والارتقاء بالمفاهيم والقيم الحضارية من جهة وبتطور مبدأ الفصل ما بين السـلطات الثلاث، وكلما زاد الاستبداد ظلامية وتغولاً عبر التاريخ، زادت السلطات تمركزاً، وزادت النظرة إلى المجرم السياسي قبحاً باعتباره عدواً لله والوطن، وتحول بالتالي قضاء المحاكم إلى قضاء طبقي لا هم له إلا الدفاع عن مصالح الفئة المستفيدة والمسيطرة. وبالمقابل، كلما ارتقت المفاهيم الحضارية وغزت قيم الحريات العامة القلوب والضمائر، ارتقت النظرة إلى المجرم السياسي على أنه سابق لعصره، ومعتصم بمثالية تدفعه للتضحية في سبيل ما يرى أنه الواجب وهو ما ينعكس على استقلالية قضاء المحاكم التي تتحول لما يصفه علماء وفقهاء القانون بعيادات الوقاية الاجتماعية التي تنظر في قضايا الإجرام السياسي والتي غالباً ما تنم عن الإيثار وتأخذ في الاعتبار الدوافع والغايات والبواعث والمقاصد والأغراض النبيلة التي سعى في سبيلها شهيد الواجب المعروض أمام تلك المنابر العادلة للتغيير السلمي وللارتقاء بالواقع نحو ما يرى أنه الأفضل. وهو ما ينعكس أيضاً على طريقة المعاملة داخل السـجن أو المعتقل مع السجين السياسي فمع ظهور علم الإجرام الحديث بتياراته ونظرياته تغيرت المعاملة بالنسبة إلى المجرم السياسي الذي اعترف به على أنه رجل المبادئ والقيم والوجدان وعن تلك المعاملة المفروضة على المجرم الجنائي الذي قد يكون حاملاً لنوازع إجرامية هي التي دفعته لارتكاب الفعل الجنائي الآثم من سرقة أو اغتصاب أو قتل أو ... ما إلى ذلك من أفعال شــائنة قد تنم عن بواعث غير كريمة، ما يحتم اتخاذ سياسة عقابية تهدف لإصلاحه وإعادة تأهيله، عكس تلك السياسة العقابية المفروضة على المجرم السياسي الذي أصبح يوصف بموجب علم الإجرام الحديث بأن ما قام به هو إجرام نبيل متطور باعتباره داعية خير وفلاح والذي من المفترض أن تحفظ له المعاملة المفروضة عليه كرامته وتأخذ بالحسبان بواعثه النبيلة وغاياته الكريمة. كيف تتطور هذه الحال في الواقع العربي؟ ­ أعتقد أن مسـار الديمقراطية وحقوق الإنسـان في عالمنا العربي يمر بأزمة، وذلك على رغم الكم الهائل من الوثائق النظرية والعهود الدولية والمواثيق الموقعة مع ما تتضمنه بين طياتها من مبادئ ســامية ونصوص براقة وقيم عدالة، وعلى رغم كل ذلك فإن الهوة للأسـف الشـديد مازالت كبيرة ما بين النظرية والتطبيق، فإذا ما استبعدنا بعض القوانين والمراسيم المقيدة للحريات والمكبلة للحقوق العامة نلاحظ أن المشرع العربي كان قد حظي بنظام تشـريعي لائق ومقبول ولا يختلف كثيرا عن أصوله في التشريعات الغربية المعاصرة، وبالتالي فإننا برأيي الشخصي لا نعاني في عالمنا العربي والإسلامي من أزمة تشـريعية صرفة بمقدار ما نعاني من الهوة ما بين النظرية الواردة في النصوص والتطبيق الموجود على الأرض. ويعود السـبب ­ باختصار من وجهة نظري ­ إلى أن الشــعوب العربية لم تنعم وحتى تاريخه بنعمة صندوق الانتخاب وفقاً للحد الأدنى من المعايير المتعارف عليها دولياً. لأن القيم والمبادئ الإنسانية التي تذخر بها النصوص تحتاج كي تزهر وتثمر إلى حد أدنى من مناخ تعددي يقوم على المسـاءلة والمكاشفة والمحاسبة والشـفافية والحوار يسـمح لتلك القيم والمبادئ أن تكون الفيصل في حل الخلافات والمنازعات ولاسيما في المراحل المفصلية من حياة الأمة، ويسـتبعد بالتالي الحلول الإقصائية القائمة على القوة المجردة، فمن وجهة نظري أن القيم والمبادئ الواردة في النصوص تتحول إلى مجرد حبر على الورق في ظروف الاسـتنقاع السـياسي والاجتماعي والاقتصادي المصاحب لاحتكار السـلطة والحقيقة والأفكار والرأي العام والقوة إضافة إلى الثروة في الكثير من جوانب واقعنا العربي والإسلامي. أعتقد أن مفاهيم الإجرام السياسي تتطور في واقعنا العربي حينما نتمكن من مواجهة فقه الغلبة المفروض بالحديد والنار والذي اعتدنا عليه في الكثير من أقطارنا والذي لا يسـمح لفقه غيره بهامش من الحوار أو الوجود المادي أو حتى السماح بالتمسك بالأفكار والمبادئ والقيم المقننة في النصوص المعتمدة من قبله هو فيما لو تعارضت مع مصالحه، مشكلتنا باختصار في حق القوة لفقه الغلبة والافتئات على قوة حق المبادئ والقيم والنصوص المقننة في القوانين. وأعتقد أن المفاهيم والقيم المتعلقة بالإجرام السياسي حالها حال غيرها من القيم والمفاهيم لم تتطور تاريخياً إلا مع أعلام الفكر والفلسـفة وفقهاء القانون وهؤلاء بحاجة إلى مناخ يسـمح بوجودهم وتداول أفكارهم، وإلا فسـيتحول أولئك الفلاسفة والمفكرون إما إلى الاغتراب الفكري أوالغرق في المطلقات والمجردات أو إلى التنازل عن النزاهة الفكرية لحق القوة التي تمثلها السلطات المفروضة بالقسر في الكثير من أقطارنا العربية طمعاً في السـلامة والحد الأدنى من كفاف العيش، وبالتالي سـيفقد تطور المبادئ والأفكار المتعلقة بالإجرام السياسي الرافعة التي لابد منها لتطوير مفاهيمه، وبهذا فالضمانة الوحيدة برأيي لتأمين المناخ اللازم والضروري لتطوير تلك القيم والمبادئ والأفكار هو في الإقرار بضرورة وجود صندوق الانتخاب الذي يكفل على الأقل وجود حق تعددية الرؤى والأطروحات والأفكا

العدد 1226 - الجمعة 13 يناير 2006م الموافق 13 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً