العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

«المقدمة» شقت طريقها باكراً إلى أوروبا وعادت إلينا متأخرة

عندما أنهى عبدالرحمن بن خلدون كتابة مقدمته انتبه إلى أنه قام بإنجاز معالم علم جديد أطلق عليه «علم العمران». ولم يتوقف ابن خلدون عند الخطوط الأولى لاكتشافه بل حاول قدر الامكان تطويره كلما تجمعت لديه ملاحظات من اطلاعاته وتجاربه ومشاهداته. ويذكر طه حسين في اطروحته عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» أن صاحب المقدمة واصل إدخال التعديلات عليها خصوصاً بعد انتقاله من شمال إفريقيا إلى مصر. ويرى طه حسين أن ابن خلدون لاحظ في القاهرة اختلاف طبيعة الدولة في مصر عن تلك التي وصفها. فالدولة المصرية قديمة وثابتة ومتجذرة وتستقر على قواعد اجتماعية - سياسية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في دويلات بلاد المغرب أيام الصراعات القبلية - العصبية. ويذكر من دون أن يوثق كلامه أن هناك ثلاث نسخ مختلف من المقدمة.

تؤكد ملاحظة طه حسين على طبيعة ابن خلدون الذهنية واستعداده الدائم على استيعاب الجديد وتحليله وإدخاله في منظومته الفكرية. فصاحب المقدمة لا يتردد في تعديل أفكاره إذا وجد ضرورة في الأمر وإذا لاحظ أن هناك اختلافات لا تنسجم مع القوانين (الآليات) التي صاغها خصوصاً في قراءة وظائف الدولة وتاريخ تكونها وتطورها.

إلى ذلك، لم يعتبر ابن خلدون أنه اخترع مقدمته بل فضل استخدام مفرد الاكتشاف وأبدى مراراً استغرابه كيف فات الأمر غيره ومن سبقه من مؤرخين. وبتواضع العالم الكبير أكد أنه استقى مصادرة وأفكاره من شذرات مبثوثة هنا وهناك وهو قام بجمعها وترتيبها وربطها في نظام شامل. كذلك لم يعتبر مقدمته الكشف الأخير أو الحقيقة النهائية بل هي مجرد خطوط عريضة لبداية علم جديد. وكثيراً ما شجع وطالب باستكمال ما قام به وتطويره وأعتقد أن مقدمته هي بداية العلم الجديد وليست نهايته، وهو قام بزرع البذرة وتوقع أن تنمو وتكبر الشجرة وتثمر.

لم يصح حدس ابن خلدون إذ بقيت مقدمته فريدة من نوعها واكتفى المؤرخون والعلماء المسلمون بمدحها والإشادة بميزتها وتأسيسها لعلم غريب وغير مألوف. ويرد علي الوردي السبب في كتابه «منطق ابن خلدون» إلى ضمور الحضارة الإسلامية وعدم وجود تربة صالحة لنمو الزرع. فالمقدمة برأيه جاءت في لحظة الخمول والاضمحلال. وكاد التاريخ أن ينسى المقدمة ولم يلحظ المسلمون فوائدها ووظائفها إلا في القرن السادس عشر الميلادي وتحديداً في عصر السلطنة العثمانية عندما هزمت المماليك في بلاد الشام ومصر وبسطت نفوذها على معظم المنطقة العربية.

آنذاك اكتشف رجال الدولة العثمانية أهمية المقدمة وما تتضمنه من قيمة فكرية ومعرفية تساعد منهجياً في تحليل طبيعة السلطة وأطوارها ووسائط تقدمها وانحطاطها. وشكلت المقدمة زاداً لرجال الباب العالي وتحولت إلى دليل عمل في برامج التربية والتعليم وفرض على رجال السياسة والدبلوماسية قراءة المقدمة وتعلمها كشرط لابد منه لتوسيع المدارك وفهم خصائص العمران.

يحاول طه حسين اعطاء تفسير مختلف لشرح اهتمام رجال السلطنة بالمقدمة فيذكر أن السبب الرئيس يكمن في وجود إشارات سلبية ونقدية ضد العرب والطبيعة القبلية العربية وهو أمر يلبي حاجة سياسية خفية كانت موجودة لدى الباب العالي. وينفي ساطع الحصري في تحليله، لفكرة ابن خلدون عن العرب، التهمة عن الأتراك، كذلك يرد التهمة التي تقول إن صاحب المقدمة كان أقرب إلى العنصرية في قراءة تاريخ القبائل العربية. ويقول إنه ميز بين العرب والاعراب وبين سلبيات البداوة وإيجابياتها، وأن نقده تركز على فترة محددة لها علاقة بفترة الغزوات البدوية التي طالت بلدان المغرب العربي في لحظة التنافس العباسي - الفاطمي، واستغلال التناقضات المحلية والعصبيات القبلية لقلب أنظمة الحكم أحياناً لمصلحة بغداد وأحياناً لمصلحة القاهرة. ويوافق علي الوردي رأي ساطع الحصري ويؤكد أن اهتمام رجال الدولة العثمانية بالمقدمة يعود إلى حاجتهم لها في نشاطهم الدبلوماسي وحروبهم العسكرية في أوروبا الشرقية.

خارج سياق الاهتمام الرسمي لرجال الدولة العثمانية دخلت المقدمة زاوية الاهمال الشعبي ولم تنجح في تحقيق وظيفتها الأساسية وهي دفع الفكر الإسلامي نحو المزيد من النشاط في فروع علمها الجديد. واستمر الأمر على المنوال نفسه إلى أن شقت المقدمة طريقها خارج عالمها الإسلامي وانتقلت تأثيراتها من خلال الترجمة أو الاقتباس إلى أوروبا. وعلى عكس العالم الإسلامي أحدثت المقدمة في العالم الأوروبي دوياً فكرياً أطلق الشرارات الأولى لتأسيس علوم مختلفة تدين بالكثير لتلك الإشارات والملاحظات التي وضعها ابن خلدون.

ويحاول طه حسين تفسير الأمر ويوافقه علي الوردي في ذلك، فحسين والوردي اعتبرا أن السبب يعود إلى ظروف أوروبا التي كانت تشهد نهضة شاملة وصاعدة بينما كان العالم الإسلامي يعيش مرحلة التمزق والتفكك والانهيار، فجاءت المقدمة تلبي حاجات أوروبا المنفتحة على كل ما هو مفيد ويساعد على فهم خصائص المجتمعات خصوصاً تلك التي كانت تخطط لغزوها واحتلالها، في وقت كانت الحضارة الإسلامية تعيش مرحلة هبوط.

من الصعب ذكر فيلسوف أو مؤرخ أو عالم اجتماعي عاش في أوروبا في فترة ما يسمى بعصر التنوير أو النهضة، التي امتدت منذ القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر، من دون ذكر ابن خلدون. فمعظم النتاجات التي صدرت آنذاك في حقول الاجتماع والسياسة والفلسفة والتاريخ تأثرت بالخطوط العريضة للمقدمة حتى لو لم يذكر عالم الاجتماع أو السياسة أو الفيلسوف أو المؤرخ اسم ابن خلدون. فإنكار الاعتراف بفضله عليهم جاء من يؤكده لاحقاً سواء من خلال كتابات بعض المستشرقين الموضوعيين أو من خلال دراسات المقارنة التي عقدت بين أعلام الفكر والفلسفة في أوروبا وأفكار صاحب المقدمة. في أوروبا تألقت المقدمة وأعيد اكتشافها بعد أن سبق ولاحظ رجال الدولة العثمانية أهميتها وما تتضمنه من ثروة فكرية مميزة. ومن أوروبا عادت المقدمة إلى موطنها الأصلي وبدأ الاهتمام العربي يزداد بها خصوصاً في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حين اقترح الشيخ محمد عبده على شيخ الأزهر آنذاك تدريسها ضمن برنامج التعليم الأزهري. وعلى رغم عدم موافقة هيئة التعليم في الأزهر على الاقتراح تواصل الاهتمام بالمقدمة، خارج الاطر التقليدية، وأخذت أفكارها تشق طريقها إلى الرعيل الأول من جيل المثقفين العرب في العشرينات والثلاثينات، فصدرت دراسات عنها وسلسلة مقالات وتطور الأمر إلى شرحها والتعليق عليها في اطروحات جامعية مختلفة. يبقى السؤال: إلى أي حد ساهمت المقدمة في التأثير على الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر؟ هناك الكثير من الكتابات التي عالجت الموضوع في أوروبا خصوصاً من قبل بعض المستشرقين الذين اشتغلوا على المقارنات والمقاربات بين المدارس الأوروبية وعلاقاتها غير المباشرة بالمدارس الفكرية والكلامية والفلسفية والاجتماعية الإسلامية. ويتفق معظم الباحثين في الحقول المذكوة أن أول تأثير تركته المقدمة كان في ايطاليا لسببين: الأول قرب شبه الجزيرة الجغرافي من شمال إفريقيا وعلاقاتها التجارية والثقافية التقليدية مع محيط حضارات البحر المتوسط. والثاني سبقت ايطاليا القارة الأوروبية في نهضتها وبالتالي فرضت ضرورة الحاجة إليها الاهتمام قبل غيرها بهذا اللون من العلم الجديد. ومن ايطاليا في نهاية القرن الخامس عشر انتقلت نصوص المقدمة وبعض الاقتباسات منها إلى فرنسا واسبانيا وألمانيا وغيرها من دول القارة.

كثيرة هي الدراسات التي تربط المدارس الأوروبية بالمقدمة مثل محاولة عبدالله العروي في بحثه عن «ابن خلدون وماكيافللي» أو محاولة فؤاد اسحق الخوري عن «مذاهب الانتروبولوجيا وعبقرية ابن خلدون» وغيرها من المحاولات التي ربطت المقدمة بأعمال مونتسكيو وكونت وديكارت.

كتب الكثير من الدراسات عن المقدمة وعلاقتها بمختلف العلوم الاجتماعية المعاصرة إلا أنه لم يكتب، على حد علمنا، أي بحث جاد يربط منهجية ابن خلدون بفلسفة هيغل التاريخية. وربما تعتبر محاولة حسين هنداوي الأولى من نوعها في اللغة العربية التي اقتحمت هذا الحقل ولجأت إلى البرهنة على وجود صلة ما بين فلسفة هيغل ومقدمة ابن خلدون

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً