العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

العصبية الخلدونية... أو النظرية في المنهج التاريخي

أجمع الباحثون في فكر ابن خلدون على أن الزمن تجاوز مفهوم العصبية. فالعالم بعد الاكتشافات الجغرافية التي بدأت في مطلع القرن الخامس عشر وانتهت في آخره بالوصول إلى القارة الجديدة من طريق الاطلسي والهند من طريق رأس الرجاء الصالح، انتقل إلى عصر التدويل وتجاوز عهد الخصوصيات.

واتفق الباحثون أيضاً على أن لفكر ابن خلدون دور السبق في تأسيس قواعد العلوم الاجتماعية الحديثة. فهناك من وصف فكره بالتجريبي، وهناك من وصفه بالواقعي، وهناك من قال إنه استقرائي، وهناك من قال إنه استنباطي، وهناك من ذكر أنه مؤسس العلم الاجتماعي الوضعي - البرهاني، وهناك من ذكر أنه مؤسس علم التاريخ أو فلسفة التاريخ. واذا اردنا أن نضع لائحة بالاوصاف التي ذكرت عن «المقدمة» ستطول اللائحة وسنجد أن فكر ابن خلدون هو في طليعة مختلف العلوم الإنسانية المعاصرة. يبقى السؤال: ما هو فكر ابن خلدون؟ أجاب صاحب «المقدمة» عن السؤال بالتأكيد مراراً أن فكره ليس جديداً بل استقاه من مصادر التراث العربي - الإسلامي. والجديد الوحيد عنده هو تأسيسه لعلم العمران. واعتبر أن علمه الجديد لم يكتمل، وتمنى على الاجيال التي تأتي بعده أن تطور مفهوم علم العمران مع ذكر فضله في ذاك السبق.

إذاً العمران هو محور فكر ابن خلدون بحسب ما ذكر ابن خلدون، وكل ما يفيض عن ذاك العلم هو موجود قبله. وكل ما فعله أنه قام بتنسيق الافكار وترتيبها واخضاعها لنسق فكري منظم يربط التناثر في دائرة منهجية تدفع التفكير من العفوية والعشوائية والفوضى إلى الانتظام في سياق منهجي يحاول قراءة الواقعات في ذاتها ثم ربطها بغيرها للاحاطة بالموضوع من جوانبه المختلفة.

ينطبق الامر نفسه على العصبية. فالعصبية ليست اكتشافاً خلدونياً، فهي مفرد استخدمه الشعراء والادباء والفقهاء. كذلك هو أمر مفردات الشوكة والحسب والنسب والولاء والحلف، فهي مصطلحات موجودة تم استخدامها بصيغ متنافرة.

كل ما فعله ابن خلدون هو أنه اقدم على تطويع المصطلحات وجمع تلك المفردات اللغوية (القاموسية) وبحث عن المشترك الذي يوحدها وأعاد تعريفها اجتماعياً ثم صاغها في سياق منهجي لتحليل الظواهر وقراءة منظوماتها الداخلية.

قبل قراءة مفهوم العصبية عند ابن خلدون لنقرأ معناه في اللغة وعلاقة ذاك المفهوم بتلك المفردات الأخرى التي تعتبر ادوات تحليل صغرى في ضوء المنهج الكبير.

استخدم صاحب «المقدمة» العصبية في سياقات مختلفة فهي عصب وعصبة وعصابة. فهي تأتي بمعنى الاحاطة وبمعنى القرابة للذكور من طريق الأب. فالأب طرف والابن طرف، بينما العم جانب والاخ جانب. والعصبة هي الجمع ما بين العشرة إلى الاربعين.

والعصابة هي جماعة من الناس أو الخيل أو الطير. واليوم العصيب هو اليوم الشديد. وعصب الرجل بالقوم أي احاطوا به لقتال أو حماية. وعصب الرجل بالنسب أي احاطوا به.

اقدم ابن خلدون على استخدام اللغة في سياق تحليله للظواهر الاجتماعية فنقل المفرد من القاموس إلى الواقع واعاد انتاجه سياسياً. فهو يستخدم العصبية في معنى اللحمة وهي على ضربين: طبيعية (نسب) وفائدة النسب انه يعزز «الالتحام الذي يوجب صلة الارحام حتى تقع المناصرة والنعرة» (ص 138). واجتماعية (ولاء) وهي تقوم عندما تكون «وصلة الرحم» ضعيفة فيحل مكانها «الولاء والحلف» اذ «نعرة كل احد على أهل ولائه وحلفه للالفة التي تحلق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب» (ص 138).

إذاً هناك النسب والحسب وهناك الولاء والحلف. ماذا تعني هذه المفردات لغوياً؟ فالنسب والنسبة والنسيب والمناسب والمنتسب تعني الواحد أو المثل أو التماثل أو القريب وتعني أيضاً ادعاء النسب.

والنسب يكون من قبل الاب ومن قبل الام فهو ينسب إلى ما يوضح ويميز من أب وأم. وتبدأ النسبة من العام إلى الخاص فيقال فلان قرشي (القبيلة) وهاشمي (العشيرة) واحياناً تبدأ من الخاص إلى العام فيقال فلان قرشي (القبيلة أولا) ومكي (المدينة ثانياً). فالتقديم يكون نسبة للأب (صفة ذاتية) ولا يكون للبلد. فالعرب انتسبت إلى القبائل ثم سكنت الارياف ثم استقرت في الامصار والمدن. مع ذلك يبقى الانتماء الأول (القبيلة) هو الاصل بينما الثاني هو اجتماع طارئ (المدينة أو المصر).

والحسب والحسبة والحساب والحسبان تعني العد والمعدود وتعني القياس والمقياس أي على قدره. والحسب تأتي بمعنى ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، فالشرف والمجد لا يكونان الا بالآباء. فهي الاعتداد بالنفس والتفاخر.

أما الحلف والاستحلاف والحليف والتحالفات فهي تعني الولاء أو التعاهد أو التعاقد على أن يكون امرهما واحداً في النصرة والحماية أي بينهما حلف (حلقة) أو عهد.

أقدم ابن خلدون على استخدام مفردات اللغة ونجح في تنظيمها في منهج اجتماعي تحليلي تركيبي، وعزز افكاره بآيات قرآنية واحاديث نبوية لتأكيد صحة التزامه العقدي وفي الآن ربط معنى الآيات بالاجتماع. فهناك الاجتماع الطبيعي وهناك الاجتماع الديني وهناك الاجتماع العمراني.

العمران أساس النظرية

مال ابن خلدون إلى التفسير الواقعي - الموضوعي للآيات وحاول قدر الامكان شرح نظريته الاجتماعية في ضوء القرآن وروحيته.

ومن تلك المفردات أسس ابن خلدون علمه العمراني، فاستخدم العصبية في معانٍ عدة. فهي تأتي عنده في معنى التعاضد أو التضامن الدفاعي أو التناصر والذود عن الديار، أو تأتي في معنى التكاتف بين أهل النسب فتشتد الشوكة ويخشى جانبهم، الأمر الذي يمنع العدوان بوجود عصبية.

واستخدمها أيضاً في معنى صلة الرحم وهو كما يرى امر «طبيعي في البشر» وهي «النعرة على ذوي القربى وأهل الارحام» (ص 137). وبرأيه «اذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة» (ص 137).

الى اللغة المتداولة والآيات المنزلة استنجد ابن خلدون بالتاريخ أو بالزمن الإسلامي لتأكيد منهجه النظري واثباته. فالعصبية عنده ليست مصطلحاً سكونياً بل حالات اجتماعية - زمنية، فهي ليست ثابتة بل متحولة وتتغير زمنياً وتتطور اجتماعياً فتنتقل من وضوح النسب إلى اختلاطه واخيراً تلاشيه. فأنساب رعاة الابل صريحة ومحفوظة «لم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب» (ص 138). وانساب رعاة التلول مخلوطة ومتداخلة بسبب ازدحام الناس في المراعي الخصبة في الارياف، حيث يكثر الاختلاط والتداخل (المصاهرة).

وبرأي ابن خلدون أن وقوع الاختلاط في الحواضر يفسد «الانساب بالجملة» ويفقد ثمرتها من العصبية فيؤدي الامر إلى تلاشي القبائل واندثارها. وباندثارها تندثر العصبية (ص 139). فتلاشي القبائل يؤدي إلى تلاشي الصعبية وينتقل الانتساب من الانتماء إلى القبيلة إلى الانتماء إلى الموطن أو الامصار والمدن والعواصم. (جند قنسرين، جند دمشق، جند العواصم).

فالنسب عند صاحب «المقدمة» متحول وليس ثابتاً إذ إنه ينتقل بانتساب البعض إلى «أهل نسب آخر» يتم بقرابة أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه «بجناية اصابها» فيتحول نسبه الأول ويعد منهم، ثم انه قد «يتناسى النسب الأول بطول الزمان ويذهب اهل العلم به فيخفى على الأكثر» (ص 139). فهناك إذاً التساقط القبلي أو اللجوء من عشيرة إلى أخرى. فالانساب مع الزمن تختلط وهي لاتزال «تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين» (ص 139). فادعاء النسب عند ابن خلدون ليس كافياً واحياناً غير صحيح من الناحية الزمنية واحياناً غير دقيق في ادعاء نسب لفئة لا تتمتع بالنسب الرفيع بسبب اخطاء في وقوع النسب، لأن النسبة احياناً تكون لمنطقة أو مدينة لا علاقة للمنتسب بسكان المنطقة المنسوب اليها.

والنسب عند ابن خلدون حتى لو كان صحيحاً فهو غير مهم. فالمهم عنده هو العصبية لأن فائدة النسب وثمرته انما هي «العصبية للنعرة والتناصر» وسر العصبية هو «ثمرة النسب وتعديد الآباء» (ص 142 - 143). فعندما تكون العصبية قوية يكون النسب أوضح. واحياناً عندما تتم الغلبة بالعصبية وتؤخذ الرياسة بالسيف لا حاجة للبيت بادعاء النسب مادام منالهم «للملك والعزة انما كان بعصبيتهم» (ص 142). فالسيف احياناً اقوى من النسب واحياناً الرياسة في القوم اقوى من ادعاء النسب.

الحاضر أقوى من الماضي

الحاضر عند صاحب «المقدمة» اقوى من الماضي، إذ قد يكون للبيت «شرف اول بالعصبية والخلال» ثم ينسلخ بسبب ذهاب البيت بالحضارة (الترف) ويبقى «في نفوسهم وسواس ذلك الحسب» (ص 143). ومن هذا المنطق يرد ابن خلدون على ابن رشد ومعلمه ارسطو في ما ذكره عن الحسب في كتاب «الخطابة» حين ذكر «والحسب هو أن يكون من قوم قديم نُزلُهم بالمدينة». وبرأيه أن الزمن (التاريخ) يقضي على النسب والحسب ويبقى الوسواس منهما. إذ قد يتشوف كثير من رؤساء القبائل والعصائب إلى انساب فينزعون اليهم ويتورطون فيهم و«لا يعلمون ما يوقعون فيه انفسهم من القدح في رياستهم والطعن في شرفهم. وهذا كثير في الناس لهذا العهد» (ص 141).

يغلّب ابن خلدون الحاضر على الماضي، فما نفع هذا البيت اذا كان صاحب نسب وحسب ولا يملك «عصابة يُرهَب بها جانبه وتحمل غيرهم على القبول منه؟» (ص 144). فمن «لا قدرة له البتة فلا يلتفت اليه ولا يقدر على استمالة احد ولا يستمال هو» (ص 144).

ابن رشد، كما يذكر ابن خلدون، لم يدرك العصبية ولم يعرفها ولم ينتبه لاحوالها فاكتفى بذكر أمر البيت والحسب «على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الاطلاق». فالعصبية لها سرها.

ما هو هذا السر؟ السر عند ابن خلدون هو الشوكة. فالشوكة سر العصبية وثمرتها وهي تعني النعرة والتناصر. وتعني أيضاً شدة البائس والقوة في السلاح. فالشرف عند ابن خلدون ليس لاصالة النسب والحسب بل «لأهل العصبية». وسر العصبية الشوكة، فهي الروح الداخلية المحركة لحركة العصبية وحركة التاريخ.

نجاح ابن خلدون في التمييز بين العصبية والشوكة دفعه إلى اكتشاف قانونه الاجتماعي المركب. فهو استخدم المفرد لغوياً واعاد ربطه اجتماعياً في سياق تحولات الزمن وتطوراته السياسية. فالحاضر عنده اقوى من الماضي والسيف أعلى شأناً من الحق. لأن الرياسة بالغُلب والغلب بالعصبية. والعصبية لا قيمة لها من دون شوكة.

حسب صاحب المقدمة «لابد في الرياسة على القوم ان تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة» (ص 140). وكل عصبية «اذا احست بغلب عصبية الرئيس لهم اقروا بالاذعان والاتباع» (ص 141). حتى المنتسب إلى عصبية بالولاء والحلف لا بالنسب لا يكون له الغلب ولا الرياسة حتى لو التحم بها «ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم» (ص 141). فالرياسة تكون على القوم «متناقلة في منبت واحد تعيّن له الغلب بالعصبية (...) والرياسة لابد ان تكون موروثة من مستحقها» (ص 141). أي معززة بالشوكة.

اما المتفردون في انسابهم فتضعف فيهم النعرة (الشوكة) وهي سر العصبية، فيأخذ كل واحد «يبغي النجاة لنفسه خيفة» اذاً «لابد في القتال من العصبية» (ص 136 - 137).

تحول العصبية

كيف يتم هذا الأمر تاريخياً وكيف تتحول العصبية زمنياً؟

جواب ابن خلدون هو اصل نظريته أو منهجه - ماذا يقول؟

في كل حي أو بطن من القبائل حتى لو كان من «عصابة واحدة لنسبهم العام» مجموعة «عصبيات أخرى لانساب خاصة هي اشد التحاماً من النسب العام لهم» (ص 140). فهناك اذن النسب العام (القبيلة) وهناك النسب الخاص (العشيرة). فهؤلاء «اقعد بنسبهم المخصوص ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام» (ص 140). فالخاص في العصبية الخلدونية اقوى من العام، لأن النعرة (الشوكة) في النسب الخاص اقوى من النسب العام بسبب «قرب اللحمة» (ص 140). فتكون الرياسة فيهم «في نصاب واحد منهم ولا تكون في الكل» (ص 140). فالرياسة خاصة وليست عامة وهي لا تتم الا بالغلبة فوجب أن تكون «عصبية ذلك النصاب اقوى من سائر العصائب» (ص 140). ومنها يتم توارث الرياسة فتنتقل «من فرع إلى فرع» ولا تنتقل الا «الى الاقوى من فروعه» (ص 140). فالناس برأي ابن خلدون معادن اجتماعية في نشأتهم وتناسلهم فيحصل الاختلاط بين الانساب ويبقى معنى الحسب راجعاً إلى الانساب، والحسب في تعدد الاشراف، واصالة أهل العصبية في النسب، وتفاوت البيوت (بيوت الاشراف) يعود إلى تفاوت العصبية، وسر الشوكة هو «اشتراط الغَلَب في العصبية». اذاً لابد من تغلب معدن على آخر حتى لو اختلطت المعادن، لأن الاجتماع والعصبية في تحليل ابن خلدون لسر الشوكة يشبه سر المعادن عندما تصهر في معدن واحد. فالامتزاج في المعادن هو كالامتزاج بين العصبيات في الاجتماع البشري. والاجتماع هو «بمثابة المزاج في المتكون، والمزاج في المتكون لا يصلح اذا تكافأت العناصر، فلابد من غلبة احدها والا لم يتم التكوين» (ص 140).

حتى عندما يسترق اهل العصبية قوماً من غير نسبهم (موالي) يبقى نسب ولادته مبايناً لنسب العصبية، اذاً هناك عصبية اصيلة وعصبية غير اصيلة وهي تبقى كذلك حتى لو صار منهم واندرج فيهم. فالاصطناع والولاء لا يرفعانه إلى شرفهم.

لكن الموالي، وهنا سر العصبية، يرفعون شرف البيت الذي ينتسبون اليه من دون ان تكون لهم صلة قرابة اصيلة به، وذلك حين تتغلب العصبية بشوكتها (النعرة والتناصر) على الاصل السابق للمولى «فكان شرفه مشتقا من شرف مواليه وبناؤه من بنائهم». فهو شرف مستعار يستمد مجده من «نسب الولاء في الدولة، ولحمة الاصطناع فيها، والتربية» (ص 145). فالسر هنا ان المولى يعد من العصبية «في ثمراته من النعرة والقوَد وحمل الديات وسائر الاحوال» (ص 139).

يشرذم ابن خلدون العصبية إلى عصبيات، فهناك عصبية سابقة وهناك عصبية لاحقة، وهناك اصل قديم لا نفع منه وهناك عصبية جديدة قوية فيها كل المنافع. فاللاحق عنده اهم من السابق، لان المجد الأول السابق زال ولم ينفع بينما المجد الثاني (المكتسب) ينفع لانه موجود بالشوكة والغلبة. فالعصبية الاصيلة احياناً أقل أهمية من العصبية المصطنعة، وادعاء النسب اهم في فترات معينة من وسواس الحسب، فالأولى اصلية موروثة لكنها مضمحلة، والثانية مصطنعة ومنسوبة لكنها حاضرة بالشوكة وموجودة بالقوة. فأحياناً التماهي بالعصبية الأخرى يعطي قوة تتغلب على البيوت الشريفة لان الاخيرة لم تعد من «أهل العصائب» وعصبيتها ذهبت جملة.

الحسب عند ابن خلدون كالمعادن ينهض ويموت فهو «من العوارض التي تعرض للآدميين، فهو كائن فاسد لا محالة» (ص 145). ولكل بيت شريف نهاية «شأن كل محدث» (ص 145) لأن المحدث اوله عدم. فالجاه (السلطة) عند ابن خلدون يبدأ من عدم ومن طريق الغلبة وينتهي إلى عدم ومن طريق الاضمحلال.

ومن هذه القاعدة يبدأ صاحب المقدمة بتحليل تاريخ العصبية، فهي تبدأ من عدم وتنتهي في عدم. وبين البداية والنهاية اربعة آباء.

الأول «باني المجد» وهو خارجي يبدأ بالغلبة.

الثاني سمع مباشرة «مقصّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاين له».

الثالث «الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد».

الرابع «قصر عن طريقتهم جملة» فيظن ان البنيان جاء بمجرد النسب و«ليس بعصابة ولا بخلال». (ص 145 - 146).

فالشرف والحسب والنسب، كما رأينا، انما عند ابن خلدون بالخلال وان يَعُدَّ الرجل في آبائه اشرافاً مذكورين (ص 142).

وبسبب جهل الرابع بكيفية حدوث الرياسة ولا سببها يربأ بنفسه عن أهل عصبيته «فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه ويحتقرونه». (ص 146).

ومن هذه الدرجة يبدأ التحول أو الانتقال من فرع إلى آخر إذ يأخذ أهل العصبية بالانحياز إلى بديل عنه «فتنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته» (ص 146) فهذا القانون (اربعة آباء للبيت الواحد) هو عام عند ابن خلدون يحصل للملوك والقبائل والامراء و«أهل العصبية اجمع، ثم في بيوت اهل الامصار» (ص 146). واحياناً يشذ بعض البيوت عن القاعدة إذ قد يتصل امر بعض الاحساب إلى «الخامس والسادس، الا انه في انحطاط وذهاب» (ص 146).

يطلق ابن خلدون على الاجيال الاربعة «بانٍ، ومباشر له، ومقلِّد، وهادم». وهذا يدل على «ان الاربعة الاعقاب غاية في الانساب والحسب» (ص 146). اي ان «الاربعة الآباء نهاية في الحسب» (ص 147).

أسباب الانهيار

لماذا يحصل الامر المذكور وكيف يفسره ابن خلدون تاريخياً؟ يحيل صاحب المقدمة المسألة إلى عاملين: الأول اختلاف الطبائع، والثاني اختلاف الاجيال.

ويأتي الاختلاف من الزمن (التاريخ). فالجيل الواحد «تختلف احواله في ذلك باختلاف الاعصار» (ص 147). فالاختلاف ليس ذاتياً بل هو نتاج تطور موضوعي زمني. فالطبائع والسجايا تتكون من «المألوفات والعوائد» (ص 147) وعندما يتغير العصر تتغير الطبائع فتبدأ الشوكة بالضعف والانكماش والاضمحلال الزمني لتحل مكانها شوكة صاعدة قوية ومتماسكة. وبما ان القبيلة هي «بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة، فلابد من عصبية تكون اقوى من جميعها، تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى، والا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع». (ص 148). الغلبة (القوة) تحمي العصبية من الانقسام والتشرذم لأن العصبية تكون بها «الحماية والمدافعة والمطالبة وكل امر يُجتمع عليه» (ص 148). فالإنسان بحاجة إلى اجتماع، والاجتماع بحاجة إلى «وازع وحاكم». والغُلب لا يتم الا «بتلك العصبية»، وصاحب العصبية «اذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها» والتغلب «المُلكي غاية للعصبية» (ص 148). وبلوغ العصبية غايتها بداية نهايتها.

انها حلقة دائرية، لكنها تطورية، إذ بين دورة وأخرى يحصل التقدم إلى الأعلى في درج زمني ما ان ينتهي في مرحلة حتى يبدأ بالانتقال إلى مرحلة جديدة. صحيح ان التطور الخلدوني تكراري سياسياً لكنه في الآن تطوري اجتماعياً. فالسياسة تتكرر لكنها لا تتوقف وبين صعود عصبية وهبوط أخرى يحصل التكرار وفي الآن التراكم الذي يدفع النشاط الإنساني من مستوى ادنى إلى آخر أعلى.

وجوهر التطور هو الغلبة هو انتصار شوكة على أخرى في العصبية الواحدة ثم انتصار شوكة العصبية الواحدة على شوكات العصبيات الأخرى. ومن دون التغلب لا يحصل الانقسام ولا تحصل الوحدة واخيراً لا يحصل التطور. فشروط الوحدة والانقسام والتطور تتكثف في الشوكة التي هي سر العصبية والروح الكامنة للظواهر الاجتماعية. فالعصبية عنده ليست صلة ارحام وعلاقات قرابة فقط بل هي أيضاً قوة حربية تجد تماسكها في الاجتماع البشري، وهي تتدرج زمنياً من محطة إلى أخرى في سياق دائري - تطوري معتمدة في سلوكها على الغلبة. وبقدر ما تستقر العصبية اجتماعياً يضعف تماسكها السياسي. فالعصبية تضعف وتقوى تبعاً لضعف وقوة بداوتها، فهي وحدة دم واسلوب معاش والثاني أعلى من الأول لكن الأول سابق زمنياً على الثاني. فالزمن يؤدي إلى اختلاف الطبائع باختلاف تتابع الاجيال وهو الكفيل باضعاف الشوكة عندما تميل العصبية إلى الدعة والترف.

تدرج التطور

كيف يتدرج التطور في منهج ابن خلدون من الغلبة إلى الاضمحلال؟

يمكن أن نفترض 17 درجة موزعة على مراحل ثلاث تمر بها العصبية الخلدونية وكلها تشكل دائرة الصعود والهبوط ثم التحول الاجتماعي والتقدم التاريخي.

تبدأ المرحلة الأولى بتغلب العصبية على قومها، ثم تتغلب على أهل عصبية اخرى بعيدة عنها، إذا غلبتها استتبعتها، واذا استتبعتها التحمت بها، واذا التحمت بها زادتها قوة، واذا زادتها قوة طلبت غاية أعلى، وهكذا حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة.

إذاً شرط الغلبة هو القوة. وانتصار شوكة (فرع قبيلة) على أخرى هو بداية التقدم نحو المُلك الذي هو غاية كل عصبية. فالغلبة تنهي المساواة القبلية وتدفع القبيلة من التحالف التكتلي الافقي إلى الانقسام الاتحادي العمودي. فالانقسام هو اصل قيام الدولة وهو نقطة البدء في مسار الصعود والهبوط التاريخي. فالدولة عند ابن خلدون تبدأ بعملية جراحية قيصرية مؤلمة لانها تنهي المساواة بين فروح القبيلة وتؤسس الانقسام السياسي في العصبية الواحدة. فالعملية الجراحية المؤلمة لابد منها فهي ضرورة تاريخية لنشوء الدولة وقيام السياسة كبديل عن وحدة الدم.

الا ان انتصار شوكة بيت في القبيلة ليس شرطاً كافياً لبلوغ العصبية غايتها القصوى: الدولة. فالوصول إلى الدولة يتطلب توافر الظروف الموضوعية. فالشرط الذاتي (الشوكة) يحتاج إلى شرط موضوعي وهو ان تكون العصبية المسيطرة في حال ضعف وإلا فشلت في تحقيق مرادها السياسي.

هنا تبدأ المرحلة الثانية في المنهج الخلدوني. إذ حتى تدرك العصبية الدولة لابد ان تكون الأخيرة في مرحلة الهرم فتستولي عليها وتنتزع الأمر من يدها، اما اذا كانت الدولة قوية اقدمت الاخيرة على استيعابها والاستعانة بها وتوسيع رقعة الدولة لتحقيق مقاصدها وإلا وقعت الحرب ودخلت الدولة في صراع عصبيات متنافرة. وبما ان الملك هو غاية العصبية لابد ان تحصل عليه بالاستبداد (الاستيلاء) أو بالمظاهرة أي مشايعة واظهار الطاعة والولاء للعصبية الاقوى. وفي كل الحالات يؤدي استبداد الدولة إلى الاستقرار ثم السكون. والسكون يؤدي بدوره إلى الدعة والراحة والاخذ بمذاهب المُلك في المباني والملابس، فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية وتتلاشى البسالة. وتبدأ من هذه الدرجة المرحلة الثالثة، لان نقص العصبية وضعف البسالة مرتبطان بنشوء جيل تعود على الترفع عن خدمة الامور الضرورية لتقوية شوكة العصبية. فالغرق في النعيم يكسر من سَوْرَة العصبية التي بها التغلب فينهار الحصن (السُور) ويبدأ بالتفكك. وعلى قدر الترف يكون اشراف العصبية على الفناء وخسارة المُلك لأن «الترف من عوائق المُلك» واذا انقرضت العصبية «قصّر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة» (ص 149) فتلتهمهم الأمم

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً