العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

ابن خلدون والتصوف: إبهامهم لا يستند إلى برهان عقل ولا قضية شرع

يحلل ابن خلدون في الكتاب المنسوب إليه «شفاء السائل وتهذيب المسائل» (تحقيق محمد مطيع الحافظ) الصوفية وينتقد شطحاتها. يبدأ صاحب المقدمة كلامه عن التصوف بالعودة إلى التكاليف الشرعية التي تنقسم إلى نوعين: احكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، واحكام تتعلق بالأعمال الباطنة. أو ما يسميه «فقه الظاهر» و«فقه الباطن». (ص 44)

ويستند ابن خلدون على تفريق الإمام الغزالي بين نظر الفقه ونظر المتصوف لشرح وجهة نظره. فنظر الفقيه يتعلق بمصالح الدنيا ونظر المتصوف يتعلق بمصالح الآخرة (ص 45). ويفصّل ابن خلدون رأيه في قول الإمام الغزالي ويرى ان «نظر الفقيه لم يرتبط بالدنيا مجرداً لأنه دنيوي» بل لأن أهل الفتيا والشورى «يستعين بهم السلطان والكافة على امضاء احكام الله الظاهرة في خلقه»(ص 47). وتتفاوت الأحكام على ثلاث مراتب «يتنزل التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان» وتجري هذه المقاومات الثلاثة في جميع العبادات والتكاليف، وهذا هو معنى «ان للشريعة ظاهراً وباطناً» (ص 48).

بعد هذا المدخل يبدأ ابن خلدون بتفكيك ظاهرة التصوف إلى عناصرها الأولى عائداً إلى مصدر الكلمة. فقالت طائفة «من لبس الصوف» وقال آخرون انها اشتقت من الصفة وهم «المهاجرون الذين اختصوا بالسكنى في صفّه مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مثل ابي هريرة الدوسي، وأبي ذر الغفاري، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي وأمثالهم» (ص 52). ثم وضع لهذه الطائفة (أهل الصُّفّة) علماً يتميزون به، ثم تصَرف اللقب بالاشتقاق منه فقيل «متصوف، وصوفي، والطريقة تصوف، وللجماعة متصوفون وصوفيون» (ص 53).

ويميز ابن خلدون بين التصوف في فترة السلف والصدر الأول من الإسلام وبين «طريقة المجاهدة المفضية إلى رفع الحجاب» (ص 54).

بعد هذا التمييز ينتقل إلى نقد مسألة المجاهدة وكشف عيوبها فيبدأ من اصولها مستنداً إلى القول ان الإنسان خلق مركباً من جثمان ظاهر (الجسد) ولطيفة ربانية هي الروح. واختلف العلماء على معنى الروح فقالوا هي: القلب أو العقل أو النفس (ص 55).

والروح (القلب، العقل، النفس) تكتسب كمالها من هذا العالم فهي تستكمل في هذا العالم بما يحصل فيها من آثار العلوم والعمل» (ص57).

ولأن العالم «علم المتضادات» تتعرض الروح في تطورها نحو الكمال إلى الحسنات والسيئات وهنا يبدأ اصطدامها أو اصطراعها (العقل، والقلب والنفس) في سياق نزوعها نحو الكسب (العالم الكسبي) فتحاول تخليص نفسها من السيئات من طريق المجاهدة أو ما يسميه «التصفية». والتصفية هي علم مكتسب يتحصل عن «طريق صناعي» (ص 60).

ويشرح ابن خلدون نظرية المجاهدة أو الكشف ويزيد عليها فيذكر «ان الله سبحانه لما خلق هذا الخلق لم يبرزه إلى الوجود الحسي دفعة، بل درجه في اطوار»، لذلك فطرت هذه «اللطيفة الربانية على الاستكمال بالمعرفة والعلم بحقائق تلك الموجودات وصفات موجدها» (ص62).

ويتوسع صاحب الكتاب في شرح الدوافع التي أدت إلى نشوء ظواهر الصوفية التي شطح بعضها نحو المشاهدة وارتفاع الحجاب من طريق التصفية والتخليص، فيتحدث عن الشوق إلى العلم، والاطلاع على الاسرار والعلم بترتيبها، بهدف الوصول إلى اللذة (لذة العلم الكسبي) والسعادة. فاللذة على ضربين (البدن والقلب) والإدراك أيضاً على رتبتين «عندما يكون متخيلاً، ثم عندما يصير مرئياً». والرؤية هي الانكشاف أو التجلي (زيادة الوضوح) وهنا تنقلب المعرفة إلى «نظر ومشاهدة» (ص 68). فالمعرفة الكشفية تقوم على «مراتب تختلف وتتفاوت بتفاوت الصفاء والتخلص من الكدرات» (ص 69). وأقصى مراتب الكشف وأعلاها هي رتبة المشاهدة، وهي لا تحصل إلا بشروط تقوم على المجاهدة والتصفية. ويبدأ ابن خلدون الكلام في المجاهدات وأقسامها وشروطها ويوزعها على ثلاث مراتب: مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة، ومجاهدة الكشف والاطلاع. ويتوقف عند الثالثة بسبب شطحها ومغالاتها في شروطها الخمسة: التقوى، الاستقامة، الاقتداء بشيخ سالك، قطع العلائق كلها عن النفس بالزهد في كل شيء، وصدق الإرادة (ص 58).

يطلق اسم التصوف على مجموع المجاهدات الثلاث إلا ان التصوف برأي ابن خلدون «لا ينطبق عليه حد واحد» ويعلن انحيازه إلى التقوى والاستقامة ويرى انهما يختلفان مع مفهوم «كشف الحجاب» ويصعب «اندراجهما في حد واحد» (ص 95). فالتقوى «فرض عين كل مكلف» والاستقامة «مشروعة في حق الأمة»... أما الكشف (ارتفاع الحجب) فهي «محظورة حظر الكراهية أو تزيد» (ص 96).

بعد ان يحذر من «مجاهدة الكشف» يبدأ بتفصيل علومها الى «علوم المعاملة» و«علم الباطن» والرد عليها على «القاعدة المستقرأة من الشريعة ان كل ما لا يهم المكلف في معاشه ولا في دينه فهو مأمور بتركه» (ص 105). فالطريقة برأيه وجدانية ذوقية وليست من قبيل العلوم الكسبية المتعارفة.

ويهاجم ابن خلدون فئة من المتصوفة المتأخرين عنوا بعلوم المكاشفة و«سلكوا فيها تعليماً خاصاً، ورتبوا الموجودات على ما انكشف لهم ترتيباً خاصاً، يدعون فيه الوجدان والمشاهدة(...) فتعددت المذاهب، واختلفت النحل والأهواء، وتباينت الطرق والمسالك، وتحيزت الطوائف، وصار اسم التصوف مختصاً بعلوم المكاشفة (...) ويضربون بحجب التأويل على وجوهها السافرة وحقائقها الواضحة». وينتقد غموضهم ورموزهم واشاراتهم فاذا «كانت كلماتهم وتفاسيرهم لا تفارق الابهام والاستغلاق، فما الفائدة فيها» فابهامهم «لا يستند إلى برهان عقل ولا قضية شرع» (ص 106).

ويميز صاحب الكتاب في هجومه بين فريقين من فئة المكاشفة وارتفاع الحجاب فهناك رأي «اصحاب التجلي، والمظاهر، والاسماء والحضرات» ومن اشهر المتمذهبين به: ابن الفارض، ابن برجان، ابن قسي وابن عربي.

وهناك رأي «اصحاب الوحدة» وهو «اغرب من الأول في مفهومه وتعقله» ومن اشهر القائلين به: ابن دهاق، ابن سبعين، والششتري (ص 111).

يلجأ ابن خلدون في تحليله الى تفكيك عناصر فلسفة فئة المكاشفة وأنظمتها المعرفية ومفرداتها ورموزها ومصطلحاتها وحلقاتها المغلقة واستخدامها الاعداد وأسرار الحروف والطلسمات وينتهي الى كسر نظامها القائم على المريد والشيخ ومعنى ضرورته، ويرد على تلك المباني الغريبة التي تقسم «سور القرآن وآيه» كما فعل مسلمة المجريطي وغيره من «الخائضين في علم المكاشفة» التي طال فيها الخوض وتعذر البيان «وعكف كثير من أهل البطالة على تصفحها» (ص 119). ولأن العقل الذي ناط به الشرع التكليف هو كما يرى ابن خلدون «عقل تدبير المعاش» يجد في مقالات أهل المكاشفة ضرباً من البطالة ويفضل عليها علوم الفلاسفة لأن الأخيرة «ترجع إلى تخييل برهان بنظم اقيسة، وترتيب ادلة، بخلاف اقوال هؤلاء، فإن البرهان الصناعي مفقود، والوجدان مخصوص، فلم يبق إلا القبول بمجرد حسن الظن بهم (...) وكيف يحسن الظن بهم، وكثير من ظاهر اقوالهم مخالف لظاهر الشريعة (...) فليس هذا الذي سموه تصوفاً بتصوف، ولا مشروع القصد، والله أعلم» (ص 121)

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً