العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

عن صلة «المقدمة» بتاريخ ابن خلدون

حين ميّز عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته بين تاريخ الأفكار وتاريخ العمران (البشر) قام بتخليص الأسس النظرية لتطور المعرفة وحقولها، ثم كتب «تاريخ العبر» كمجال خبري لتطوير البشر. فالمقدمة (النظرية) ليست مقطوعة عنده عن التاريخ (التطبيق العملي) بل هي مفصولة كمداخل نظرية وموصولة في المجال الإنساني. ومن يقرأ «تاريخ العبر» يجد تلك الصلة النظرية بين تاريخ الأفكار وتاريخ البشر. فهو دائماً يذكّر بنظرياته في معرض وصفه لصعود الدول (دولة معينة) وهبوطها معيداً الصلة بين مقدمته وتاريخه من دون أن يقع في التكرار. فابن خلدون على عكس الخطأ الشائع عن تاريخه قام فعلاً بتطبيق نظريته عن علم العمران في سياق عرضه لتاريخ الخبر وتحليله، إلا ان التطبيق لم يرق أبداً إلى مستوى نظريته. إلى ذلك، هناك خطأ آخر شائع عن ابن خلدون وهو ايمانه بالتاريخ الدائرى للبشر وهو غير صحيح، فصاحب المقدمة لا يقول بالتاريخ الدائري بل بالتاريخ التكراري. فالأول (الدائري) يعني وقوف الزمن وعودته إلى نقطة الانطلاق الأولى، بينما الثاني (التكراري) يعني عودة الصراع إلى بداياته الأولى من دون أن يبدأ من نقطة الصفر. فالدائرة عنده لا تتكرر وأولها غير موصول بآخرها، والتكرار لا يعني نسخ السابق بالتالي بل التراكم التاريخي بين تجربة «دولة سابقة» وتجربة «دولة لاحقة». وفي هذا المعنى التاريخي - الفلسفي يعتبر ابن خلدون من المؤمنين بتطور الزمن وتقدم البشر بين محطة سابقة ومحطة لاحقة. فهو يتحدث عن آليات وليس عن تكرار صور الأخبار والحوادث. وتشابه قوانين (آليات) المحطة الأولى (التطور الزمني) مع المحطة الثانية لا يعني أن الزمن عاد إلى نقطة الصفر ليبدأ من جديد بل عاد إلى طور أعلى من السابق ليعاود ارتفاعه مجدداً.

أدى الخلط بين الدائرية والتكرارية لآليات التطور إلى وقوع التباس في فهم المعنى الفلسفي لتاريخ ابن خلدون، وحتى لا يتجدد الالتباس يمكن التذكير بجوهر نظرية التطور عنده. فصاحب «المقدمة» يعتبر «أن البدو أصل للحضر ومتقدم عليه» (المقدمة ص 131). والبداوة عنده ليست عيباً بل هي صفة لواقع اجتماعي، ولا تقتصر على قوم (شعب) معين بل هي الأصل الأول للبشر (كل البشر أصلهم بدوي). والبدو في هذا المعنى الاجتماعي - التاريخي أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر. والبداوة عنده على مراحل وخصائص (انماط عيش) أبرزها عند العرب، مثلاً أنها تتفرع إلى فئتين: مراعي الإبل (الطور الأول من البداوة) ومراعي الخصب (الطور الثاني) وهي الأكثر استقراراً وصلة بالحضر.

إلى البداوة هناك العصبية. والعصبية عنده ثلاثة أنواع:

الأولى: الطبيعية (النسب والرحم)، والثاني: الاجتماعية (المصاهرة والزواج)، والثالثة: السياسية (الانتماء العصبي لجماعة محددة أو ما نسميه في عصرنا باللجوء السياسي أو المدني أو طلب الحماية أو الاستقواء بقوة سياسية ضد الأخرى).

وغاية العصبية عند ابن خلدون هي المُلك (الدولة). والملك يحصل عادة بالتغلب و«التغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة» (ص 167). فالعصبية عنده غير كافية لتأسيس الدولة بل لابد من «اتفاق الأهواء على المطالبة»، وهذا يعني أنه لابد من وجود دعوة (عقيدة) تربط العصبية وتشدها إلى هدف معين ومصير مشترك. وهنا بالضبط يأتي دور الدين. فالدعوة الدينية تزيد قوة العصبية باللُّحمة السياسية (قوة على قوة). ولذلك مال ابن خلدون إلى الدولة القوية لأنها في النهاية تخضع القبيلة في دائرة نفوذها. وبرأيه أن كثرة العصبيات «الطوائف أو الأقليات في عصرنا» تمنع قيام الدولة بينما قلة العصبيات تسمح بقيامها (ص174 - 175). فالدولة عند صاحب «المقدمة» هي «صورة العمران» أو ما نسميه في عصرنا «البنية الفوقية»، وهي (الدولة) أكثر ما تؤثر فيما نسميه في «مادة العمران» أو ما نسميه في عصرنا (البنية التحتية).

وفي مسألة الدولة ميز ابن خلدون بين أجيال الدولة وأطوراها. فالأجيال ثلاثة في الغالب ومجموع عمرها 120 سنة، والأطوار خمسة تبدأ بالمؤسس وتنتهي بالدعي. وعادة يقوم الغالب بتقليد المغلوب (المرحلة الأولى) تم يقوم المغلوب بتقليد الغالب (المرحلة الثانية) حين يبدأ الجديد بتجاوز القديم

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً