العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ

المثقفون العرب والنظرية في الواقع الراهن

حاول محمد عابد الجابري أن يضع تعريفاً لفكرة العصبية الخلدونية فذكر أنها «ليست عند نهاية التحليل إلا ذلك الإطار التنظيمي الطبيعي للمجتمع البدوي - القبلي»، ويتساءل أنه لابد أن يكون وراء هذه «الدورة العصبية، المتكررة، عامل آخر ذو صبغة اقتصادية أساسية هو المسئول عن الأزمة الاقتصادية الدورية التي تشكل الخلفية التحتية لتلك الدورة العصبية» (كتاب العصبية والدولة، ص 261). ثم يعود الجابري ليعرّف العصبية في سياق آخر في هامش صفحة 297 فيقول الآتي: «إنها رابطة اجتماعية سيكولوجية - شعورية ولا شعورية - تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية أو المعنوية، ربطاً مستمراً يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة». ويذهب عبدالقادر جغلول في دراسته عن علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون إلى القول عن الصبية إنها «تسمح أيضاً أن نبيّن أوالية الحركة الدائرية للعمران التي يكمن محركها الأساسي في العصبية، وهو مفهوم معقد، يشكل في داخل الإشكال الخلدوني، قاعدة لفهم التحولات السياسية» (ص 135).

على رغم أن مفهوم العصبية، هو مفهوم مفصلي كما يقول جغلول «في الفكر السياسي الخلدوني» فإنه «يصعب تحديده بوجه خاص» (ص 141). وأساس تعقد الفكرة العصبية في المنهج الخلدوني يعود كما يقول جغلول إلى كونها «تتأسس على ترابط واقعين متناقضين: التعاون القبلي من جهة، ووجود جماعة مسيطرة في داخل القبيلة من جهة أخرى» (ص 143) كذلك عندما يعارض «صاحب الدولة الحائز على المُلك» العصبية (ص 149) فيصبح تناقض العصبية مع المُلك «هو محرك الديالكتيك المغلق بين البادية والحاضرة» (ص 152).

ويجد ناصيف نصار في العصبية على الصعيد النفسي أنها تشكل «تعبيراً وتحقيقاً لنزعة السيطرة في مجتمع لا تنحل فيه النزاعات إلا بالقتال والغلبة. وشكل تحققها الأول هو العصبية الضيقة، عصبية الأسرة أو البيت أو العشير الواحد. وشكل تحققها الثاني هو العصبية القبلية» (الفكر الواقعي عند ابن خلدون، ص 244 - 245).

ولا يفصل الباحث محمود السعيد الكردي في كتابه عن ابن خلدون (مقال في المنهج التجريبي) بين العصبية والدولة والدين لأن ابن خلدون «يرى مثلاً أثر الدين على انتظام البدو في دولة وصلاحيتهم السياسية للمُلك، فالعصبية القوية ينتظم تحت رايتها البدو، وكذلك الدين يشبه العصبية في قوتها» (ص 179). فالدين يوحد العصبيات ويجمعها في إطار جنس واحد ويفرض التجانس بينها في لحظة القوة.

ويتساءل على اومليل في كتابه «الخطاب التاريخي» عن معنى العصبية في منهج ابن خلدون فيذكر أنها «رابطة تضامن قائمة على قرابة الدم وصلة الرحم. والأسرة هي النموذج الذي يكون أفراده متعاضدين، لهم نصرة على ذوي القربى (...) وعن طريق الالتحام في العصبية تتميز البادية عن الحواضر، والواقع أن هناك مستويين للتمايز: مستوى الاقتصاد، ومستوى تنظيم السلطة» (ص 141). ويشرح اومليل كيف يكون التناقض بين البادية والمدينة عند ابن خلدون، إذ في «خضم هذا التناقض يتحقق التحول من العصبية إلى الدولة» (ص 143).

نستطيع أن نعدد عشرات الأمثلة عن معنى العصبية التي ذكرها عشرات من الباحثين في فكر ابن خلدون إلا أنها اختصاراً تجمع على أن المسألة معقدة ومركبة فهي أشبه بمنهج تحليل متكامل ومتماسك يصعب عزل عناصره ويصعب أيضاً عزل العصبية نفسها عن مسألتي الدولة والدين.

وجدنا من خلال الاستعراض السابق أن العصبية الخلدونية تأتي في معانٍ كثيرة، فهناك عصبية زائلة وأخرى موجودة. وهناك عصبية قومية (فرس، ترك، بربر، عرب) وأخرى تاريخية لا أثر لها في الواقع (كعصبية بني إسرائيل). وهناك عصبية عاملة (قبائل تشترك في نسب واحد) وأخرى خاصة (عشائر تنتمي إلى قبيلة واحدة). وهناك عصبية موسعة (تحالفات عشائرية)، وأخرى ضيقة (بطون وأحياء خاصة) وكلما ضاقت العصبية زاد التحامها وتماسكها واجتمعت على نسب خاص مميز ضمن نسب عام شامل.

إلى ذلك، هناك التحول والتغير في الحسب والنسب لعوامل زمنية وخاصة كثيرة وهو أمر يزيد من تعقيد الفكرة فنصبح أمام لوحة من التقاطعات تتداخل فيها العصبية النافعة وأخرى غير نافعة، وعصبية شابة وأخرى ضربتها الكهولة والشيخوخة، وعصبية متوارثة وأخرى مكتسبة.

وكل هذه العصبيات تخضع للشوكة أو قانون الغلبة. فصاحب الشوكة هو الغالب حتى لو كان أقلية (صلاح الدين الأيوبي قاد الأمة كما ذكر ابن خلدون تحت راية الجهاد ضد الفرنجة). وصاحب الشوكة هو الأقوى حتى لو فقد الشرعية (العصبية الأموية سحقت البيت الهاشمي كما يذكر في تحليله لانتقال الخلافة وتحولها إلى مُلك). فالشوكة هي السر أو الروح المحرك للتاريخ الذي يسير ضمن غاية محددة وهي المُلك وإطاره أو مجاله هو العمران البشري.

نحن إذاً أمام منهجية متكاملة ومترابطة، فهناك العصبية وهناك الدين. والثاني يزيد الأولى قوة ويرص صفوفها ويجانس من تنافرها ويصهرها في لحمة قوية البأس. والأولى سابقة تتحرك من دون الحاجة إلى دين. لأن المجوس برأي ابن خلدون أكثر عدداً من أهل الكتاب وسبقوهم في إقامة الدول. بينما الدين برأي ابن خلدون بحاجة إلى عصبية تحميه وتناصره وتدافع عنه.

يلاحظ الجابري هذه المسألة ويقرأ ابن خلدون في ضوء نظرية شمولية تقوم على ثلاثة عوامل: الايديولوجيا، الاجتماع، والاقتصاد. وبرأيه أن العامل الايديولوجي هو الدين، والاجتماعي هو العصبية، والاقتصادي هو المعاش (أسلوب العيش). فالتاريخ الخلدوني، كما يرى الجابري، هو «تاريخ صراع بين العصبيات، صراع اكتسى في معظم الأحوال غطاءً دينياً» (ص 258). وكما أن دور العامل الديني مشروط بالعصبية «فإن دور العصبية نفسها تحدده الشروط المادية لحياة هؤلاء البدو الرحل» (ص 259).

وبهذا المعنى يرى الجابري أن ابن خلدون «زاوج ومزج بين العصبية والدين، ونظر إلى فاعليتهما من خلال تأثيرهما المتبادل. كما زاوج بين العامل الاقتصادي (شئون المعاش) والعامل الطبيعي (تأثير المناخ والخصب والجدب) ونظر إلى تأثيرهما ككل. ثم ربط بين ذلك كله، بين تأثير العصبية والدين، والطبيعة والاقتصاد في أنظومة واحدة، متداخلة العناصر، متشابكة الأطراف، وسماها: طبائع العمران» (ص 260).

يبقى علينا أن نجيب عن السؤال الصعب: هل من الممكن تطبيق منهج العصبية الخلدونية على أوضاع الدول العربية المعاصرة ثم قراءة تاريخنا الحديث في ضوء نظرية كانت نتاج ظروف مغايرة وعوامل مختلفة وزمن سابق؟

لاشك في أن المحاولة ستصطدم بكثير من العقبات نظراً إلى صعوبة المطابقة بين فكرة تم إنتاجها قبل 600 سنة وواقع تعرض لتعديلات وتغييرات عدة في بناه الاجتماعية والسياسية.

عاش ابن خلدون، كما يقول جغلول، في عصر «لم يكن الانحلال خارجياً فقط بل كان داخلياً كذلك، أن تاريخ الحكومات الإسلامية في القرن الرابع عشر كان مميزاً بصفة رئيسية بتعاقب «ثورات القصور» وتمردات الجماعات القبلية» (ص 96). فهل تغير وضعنا السياسي المعاصر على رغم كل التحولات التي طرأت ودخلت في عالمنا منذ الاكتشافات الجغرافية وما أعقبها من تغييرات بنيوية في أوروبا التي أحدثت ثورة صناعية قارية ساعدت على تطوير السلاح والسفن وساهمت في كسر موازين القوى لمصلحتها وفرضت علينا نمطاً من العلاقات؟

يقول ناصيف نصار في تحليله لواقعية ابن خلدون إنها «مترابطة مع نزعة عميقة في التاريخ وفي الفكر العربيين الإسلاميين. فوحدة التجربة والفكر تدل على وحدة تبحث عن نفسها في الصيرورة الواقعية في الحضارة» (ص 124). ويرى أن «كل مجتمع شامل يقوم على بنية تتألف من ثلاثة محددات رئيسية وهي المحدد الاقتصادي والمحدد السياسي والمحدد الثقافي. تلك هي، على ما يبدو لنا، القضية الأساس في فكر ابن خلدون السوسيولوجي» (ص 216 - 217). فالعصبية كما يذهب نصار هي عند ابن خلدون «قوة اجتماعية فاعلة، ولكنها ليست الوحيدة. إنها قوة تسعى إلى المُلك كغاية لها، ولكن المُلك له حقيقة غير حقيقتها» (ص 229).

نحن إذاً أمام وضع مفكك مشابه لوضع ابن خلدون وفي الآن مختلف عنه. وعلينا أن نعيد اكتشاف حاضرنا في ضوء وعينا التاريخي لماضينا وعلاقته بواقعنا وهو أمر يفرض دراسة المحددات الاجتماعية في مستوياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، ثم ربط تلك المحددات بالمركب العصبي - الديني للدولة الحديثة.

ربما تقودنا الدراسات إلى ما يشبه العصبية الخلدونية في حال وضعنا محركاتها الداخلية في سياقنا التاريخي المعاصر، وربما لا تقودنا إلى الاستنتاجات نفسها. لكن المحاولة تستحق المغامرة لإنتاج وعي مطابق لتاريخنا وواقعنا.

بعد تعرفنا على المعنى المركب للعصبية الخلدونية يمكن القول إنه لابد من مغامرة فكرية في مرحلة بات من الصعب فهم حاضرنا من دون العودة إلى ماضينا.

رأينا في سياق البحث أن العصبية الخلدونية ليست نظرية ثابتة فهي أساساً قواعد منهجية مرنة يمكن تحريكها وتطويرها وتعديلها وتحويرها بالاتجاه الذي نريد. كذلك يمكن تطويعها واقعياً وتجريبياً في حال درسنا حالات دول العالم العربي وقرأنا محركاتها الداخلية وعناصر تماسكها ونقاط ضعفها.

مع ذلك يمكن القول إن العصبية الخلدونية بحاجة إلى إعادة تعريف معاصر، كذلك لابد من إعادة إنتاجها في عصر التدويل الذي اجتاح العالم لكنه لم ينجح في اجتياح خصوصيات وهويات الجماعات وثقافاتها. فالتدويل أعاد إنتاج الخصوصيات ولابد أن نقوم بإعادة إنتاج المنهج الخلدوني في ضوء المستويين الدولي والعربي (الإسلامي). فهناك عناصر خلدونية قوية نستطيع من خلالها اكتشاف محرك التاريخ المعاصر في سياقي الغالب والمغلوب على مستوى القوة العسكرية والتابع والمتبوع على مستوى الثقافة ونماذج الاقتصاد، كذلك على مستوى التوازن الدولي بين قوى هابطة وقوى صاعدة. فالعصبية الخلدونية ليست كافية الآن في ذاتها لكن روحها التحليلية - التركيبية لاتزال حاضرة تفرض وجودها في تفسير ما يسمى بدول النخب العربية الحاكمة في عالمنا العربي ونظام القرابات وصلة الأرحام بالاجتماع وعلاقة الاجتماع بالتناحر والتضامن أو التفكك وصلات هذه الحالات بالشوكة (وهو الجيش في تاريخنا الحديث).

طبعاً هناك اختلافات وتمايزات وعلينا في القراءة المعاصرة للعصبية أن نلحظها ونعيد إنتاجها في ضوء إعادة تعريف المنهجية الخلدونية ودراسة عناصرها وأدوات تحليلها ومنطقها التركيبي - التجريبي.

توصل نصار في تحليله لواقعية ابن خلدون إلى القول «إن ما توصلنا إليه مفيد لنا جداً في سعينا إلى التفلسف. وذلك لأن الجوهر الاجتماعي التاريخي للعالم الذي يتعلق التأليف الخلدوني به لم يغب عن مسرح التاريخ الراهن» (ص 345).

وتوصل محمود السعيد الكردي إلى الاستنتاج نفسه عندما ذكر أن «نظريات ابن خلدون عن المجتمع العربي مازالت تحمل جدتها وأصالتها حتى هذه الأيام على وجه لخصوص ما يتعلق منها بالصراع بين البداوة والحضارة»، بل يضيف محمود السعيد «فمازالت الأحزاب السياسية والمنظمات التي توجد بالوطن العربي تحركها عوامل العصبية وقيمها في محاسنها ومساوئها...» (ص 336 - 337).

هناك جوانب صحيحة في الاستنتاجين على رغم المبالغة التي تحيط بهما. فالخلدونية ليست منظومة أفكار مترابطة تتحدث عن حالات محددة وخاصة بل هي أيضاً منهج تحليل استقرائي يعتمد أساليب الاستنباط والاستنتاج ويعيد تركيبها لتنسجم مع الواقع المتحرك. فالعقل الخلدوني عقل برهاني - تجريبي وفي الآن يحلل الواقع وفق تصورات عامة ثم يعود من جديد لتركيب المتغيرات الملموسة في تصورات خاصة. وضمن هذا الوعي للمنطق الخلدوني نستطيع القول إن العصبية الخلدونية لاتزال راهنة كمنهج لمعرفة الواقع

العدد 1341 - الإثنين 08 مايو 2006م الموافق 09 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً