العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

ماريا اليونانية

ماريا، طيبة يونانية، يقترب عمرها من الثامنة والأربعين، تمارس مهنة الطب وتقتطع من وقتها الكثير لمساعدة ضحايا التعذيب من أي منطقة في العالم. تستقبل الأشخاص من أي بلد وتذهب لمختلف البلدان لمعالجة الضحايا أو لتوفير خدمات طبية لهم من خلال معارفها من الأطباء الذين يزدادون مع الأيام.خدماتها الإنسانية وسمعتها تحث السياسيين في بلادها للتقرب منها لدعوتها لدخول البرلمان ضمن قائمتهم، ولكنها ترفض العروض وتواصل عملها الصعب والشاق.

تلتقي بالضحايا وتشاهد ما جري لهم وتتألم لهم ثم تحاول علاجهم بصورة تطوعية أو إيصالهم لأطباء آخرين متطوعين لعلاجهم بحسب إمكانياتها المتوفرة.

يدعوها وزير خارجية بلادها ليتحدث معها ويسألها كيف استطاعت وتستطيع القيام بهذه الجهود المتواصلة. وتجيبه إنها تقوم بما تقوم به خارج القانون، لأنها تعالج أناس قد يكونون داخلوا اليونان بطريق غير مشروع، ولأنها مع الأطباء المتطوعين الآخرين، يستخدمون إمكانياتهم التي قد يحصلون على بعضها من الحكومة لعلاج المواطنين، ولكنها تقوم بعلاج غير المواطنين. يشكرها الوزير على مخالفتها للقانون من أحل هذه الأهداف.

تسافر إلى البوسنة لتشاهد المقابر التي ملأت الأرصفة والساحات العامة وتقوم بإقناع أطباء بوسنيين وصربيين لمساعدتها من أجل مساعدة ضحايا حرب البوسنة. ثم تعود لبلادها لتلتقي مع أم عراقية وابنتها هربتا من العراق بعد أن تم اعتقال العائلة بأكملها وقتلوا زوجها واثنين من أبنائها بينما هي وابنتها معلقتان ويتم تعذيبهما. تشاهد آثار التعذيب ويخفق قلبها فتسارع لمعالجتها ومعالجة ابنتها من الجراح التي ستبقى مدى العمر معها. وهذه القصة حدثت في العام 1997 وليس قبل أمد بعيد. ماريا نفسها كانت قد اعتقلت في العام 1972 عندما كانت طالبة في كلية الطب وبقيت هناك حتى انتهاء عهد الديكتاتورية اليونانية في منتصف السبعينات. لاقت ما لاقت من التعذيب وخرجت أكثر تصميما على مساعدة الضحايا الذين دخلوا السجون معها. مارست المهنة لسنوات حتى بدأت تتوسع في نشاطها وتقرر أن تساعد الضحايا من أي مكان كانوا.

تسألني: هل هناك أطباء في بلادكم يساعدون الضحايا؟

أقول لها أنني اعرف ممرضة ساعدت جريحا جرح أثناء أحدى المظاهرات وعالجته في منزلها فقامت السلطة باعتقالها. وهناك حالات ولكنها متفرقة لان الأطباء ممنوعون من مساعدة ضحايا التعذيب. فترد علي: أنني لم أسالك عل انه مسموح أو لا؟ وأنما سألتك هل يوجد أحد يساعد أم لا؟ فالحكومات لان تسمح وحتى أنا لا اعمل حسب ما ينص عليه القانون حرفيا. ,هنا المحك الحقيقي وبيت القصيد، فالدفاع عن حقوق الإنسان لا يحتاج لرخصة من أحد ولا يحتاج لقانون ينظمه. كل ما يحتاجه الدفاع عن حقوق الإنسان هو ضمير حي يتألم للألم الذي يقع على الضحية، ويتفاعل مع أحاسيسه الإنسانية ليتحرك من أحل وقف الانتهاك. هناك المتخصصون في هذا المجال، إلا أن هناك أيضا المهن القريبة من أفراد المجتمع.

فالأطباء والمحامون والصحفيون والجامعيون وعلماء الدين هم أقرب التخصصات لأفراد المجتمع، وهم أكثر إطلاعا من غيرهم على ما يدور في مجتمعاتهم. ولهذا نلاحظ أن أكثر الدول المتقدمة يوجد فيها "محامون للدفاع عن حقوق الإنسان"، أو "صحفيون للدفاع عن حقوق الإنسان" أو "أطباء للدفاع عن حقوق الإنسان" أو جامعيون، أو غيرهم من التخصصات المرتبطة مع أفراج المجتمع بصورة يومية/ حياتية. أن ما يحزن المرء هو انعدام هذه القطاعات المتحركة في مجتمعاتنا. فما عسى النظام أن يفعل في مقابل مبادرات فردية أو جماعية صادرة من فئات متمكنة مهنيا واجتماعيا؟ لماذا يضطر المواطن في بلداننا أن يلجأ الأطباء وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان خارج بلده؟

ان من مشاكلنا هي "تدجين" القطاعات المهنية والطبقة الوسطى وتحييدها وأبعادها عن دورها الاجتماعي اللائق بها. وهذا الأبعاد ليس بسبب ضغط سلطوي فقط، وإنما بسبب انتشار ثقافة "عدم الاكتراث" في أوساط الكثير من المهنيين. وحتى المنظمات التي لها تمثيل دولي (مثل الحصول على صفة مراقبة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة) فإنها ابعد ما تكون عن قضايا المجتمعات العربية رغم إنها تحمل اسم "العربية".

"التدجين" يخلق الكلام والتبرير الكثير ولكنه لا يستطيع أن يخلق شخصية مثل ماريا اليونانية. ربما أن لدينا منظمات غير حكومية تدافع عن محامين وتدافع عن عمال وتدافع عن حقوق إنسان على مستوى محلي أو إقليمي أو قومي أو ديني، إلا أن هذه المبادرات تخفق في القيام بدورها لان القائمين عليها يتورطون بالمحاذير السياسة.

فكل نشاط للدفاع عن مواطن ما في دولة ما، فإن ذلك يعني انتقادا لتلك الدولة، والانتقاد لتلك الدولة يلزم أن يعمم على الدول المماثلة. وبما إننا لا نستطيع أن ننتقد تلك الدولة أو هذه، فان علينا أن نركز فقط على القضايا التي يتفق معنا فيها الجميع. وبما انه لا توجد قضية من هذا النوع، فإن المنظمة غير الحكومية، تصبح بين ليلة وضحاها، حكومية النهج وبعيدة كل البعد عن المواطن الاعتيادي الذي ينتظر منها المساعدة. إذا كان لنا درس من الآخرين وأن الحق يؤخذ ولا يعطي والمطالبة بالحق والحقوق تتم بأي طريقة ممكنة حتى ولو كانت فردية، ولكنها دائمة، وبالتأكيد مستمرة كما هو الحال مع ماريا... فإننا عندئذ نمتلك حسا حقيقياً بآلام الآخرين وعذاب الآخرين.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً