العدد 2477 - الخميس 18 يونيو 2009م الموافق 24 جمادى الآخرة 1430هـ

إبراهيم غلوم يستقرئ تعالق النص بالتشكيل

تسويق أم تأويل أم حوار

المصلى- حبيب حيدر

أخذت تجربة «وشائج» مأخذها من رؤية الناقد المسرحي وأستاذ النقد والأدب الحديث بجامعة البحرين الأكاديمي إبراهيم عبدالله غلوم فراح يحفر بأسئلته في طبيعة العلاقة بين النص والتشكيل، أهي تسويق أم فهم وتأويل، توازي، اختلاف، مفارقة التقاء، بل راح يبحث في تزامن الحركة الأدبية مع الحركة التشكيلية في البحرين ولم يكتف، بل راح يتوغل في عمق التجربة الشعرية لعلي عبدالله خليفة وطبيعة تحولاتها التي أوصلتها لأن تتواشج مع تجارب تشكيلية ناجزة، كان ذلك في أمسية عقدها الملتقى الأهلي الثقافي لقراءة مشروع وشائج.


تزامن التشكيل بالنص في البحرين

وفي البداية أشار غلوم إلى أن هذه التجربة تستحق أن نتوقف عندها طويلا وأن نراجعها لما لها من وشائج متجذرة في الحركة الفكرية في البحرين وفي البلاد العربية وفي الأدب العالمي، بشكل عام، مركزا على مسألة علاقة النص بالتشكيل، إذ هي كما يرى جوهر هذه التجربة فإن الذي نحت في سياق موضوع وشائج هو ما نسج من علقة بين النص والتشكيل، «أحب أن أشير إلى مسألة تاريخية ولا بد من الوعي بها وهي العلاقة التاريخية يبن الحركة التشكيلية والحركة الأدبية في البحرين فعندما بدأت الحركة الأدبية في الستينيات كانت الحركة التشكيلية موازية لها، في الوعي التاريخي وفي إدراك الظرف الشامل الذي كان يؤسس لطموح حركة فكرية طليعية في البحرين حينها، وهناك صلة متبادلة تشبه ما حصل في وشائج الآن بين التشكيليين وبين كتاب الشعر والقصة ولكنها من غير ترتيب وتنظيم.


تجربة الستينيات وسيرة الغواص

وعن وعي تجربة جيل الستينيات أشار غلوم إلى أن تيار الإحساس بالعالم وبالبيئة وبالحياة وبالظرف الذي كان يعيشه جيل الستينيات، يمثل إحساسا مشتركا، وكانت تنتقل ثيمات الوعي بشكل واع وغير واع أحيانا، ومثال على ذلك فكرة معاناة الغواص وهي فكرة استنطقها الشاعر علي عبدالله خليفة طويلا في تجربته الشعرية واستنطقها شعراء آخرون سواء داخل الحركة الشعرية في البحرين أو الخليج، ومن أهم هذه التجارب تجربة محمد الفايز وتجربة علي عبدالله خليفة، وتجربة قاسم حداد، وتجارب كثيرة حتى في القصة، ولكن في نفس الفترة نذكر أعمالا تشكيلية مثل لوحة الفنان عبدالله المحرقي الشهيرة التي تصور رحلة الغواص في أعماق البحار والذي يصوره ككائن خرافي يغوص في الأعماق، ويمر في رحلته بشتى المخاطر إلى أن يخرج هذا العقد الثمين الذي يعلّق في صدر امرأة، وأضاف هذه الرحلة أو السيرة لفكرة الغواص في المجتمع البحريني استنطقت وحفرت وجذرت في الوعي التاريخي، ولم تقف عند هذا الحد فقد انتقلت من شعر الفايز وخليفة وحداد إلى تشكيل المحرقي ثم انتقلت إلى تشكيل الفنان عبدالله يوسف وهذه النقلة كانت ذات دلالة دقيقة ومهمة جدا، وأذكر اللوحة التي يصوّر فيها عبدالله يوسف اللؤلؤة وهي معلقة في كف بحار يجلس القرفصاء حين يفلق المحارة واللؤلؤة معلقة في الهواء على كفه أوكأنه يمد يده إليها، والتشكيل هنا اختزل كل الرحلة المعذبة التي صورها الشاعر وكاتب القصة.


التجريب وتعالق الأجناس الأدبية

وحول التجريب وتعالق الفنون أشار غلوم إلى أن هناك امتدادات وتوغلات بين الحركة الأدبية والحركة التشكيلية في البحرين، هذا في إطار ما يمكن أن نسميه المناخ الفكري العام وبعد ذلك بعقدين أو يزيد، صار لهذه العلاقة وحي مختلف، فدخلت في إطار محض التجريب، وبدأنا نناقش في كثير من حوارات الحركة الفكرية والأدبية- ما هي الحدود الفاصلة بين هذه الأجناس؟ هل هناك حدود حقيقية تفصل بين الشعر والقصة، والشعر التشكيل، والشعر والرواية، وخاصة الشعر لأن الزمن زمنه، ولأنه هو ديوان العرب، ولأن الفنون الأخرى كانت ولا تزال تبحث عن قارئ أوسع وجمهور أكبر وأعرق، ولذلك كان السؤال دوما أين الحدود الفاصلة بين الشعر وكل هذه الأجناس والعوالم وبين الحياة نفسها، من هنا بدأت قصة الحداثة في التجربة الأدبية تخترق هذا السؤال وتقترح إجابات عديدة، فقد ظهرت أعمال تفترض أو تحدس بفكرة إلغاء الحدود الفاصلة بين الأجناس.


علوي أدخل التشكيل في القصيدة

ومن بين هذه التجارب المهمة جدا تجربة الجواشن وهي تجربة حاولت أن تلغي الفاصل بين السردية وبين الشعرية وتجربة للشاعر علوي الهاشمي الذي حاول أن يدخل التشكيل في القصيدة فاستخدم الألوان بروح تشكيلية وثمة حاجة لقراءة في شعرية استخدام حركة اللون داخل بناء القصيدة، وظهرت تجارب أخرى عند أمين صالح في القصة وقاسم حداد في نصوصه وكل هذه التجارب كانت تحاول أن تعطي أسئلة حول العلاقة بين التشكيل والنص فما هي أسئلة هذه العلاقة اليوم؟ وهل تطرح وشائج أسئلة جديدة؟ هل هي علاقة حوار وفهم وتقارب أم هي علاقة تأويل أم هي علاقة تسويق أم هي علاقة فهم للوجود والحقيقة، وأين تقع الحقيقة أين يقع الوجود هل يقع في النص أم في التشكيل وهل لذلك إطار فلسفي، هل التجارب الآن التي أشرت إليها تطرح افتراضات قريبة من الفلسفة على الأقل حول علقة النص بالتشكيل.


من تجربة «وجوه» إلى «دع الملاك»

ولكي يموضع غلوم تجربة وشائج تاريخيا أن أشار إلى التجارب المبكرة التي حدثت في السنوات الأخيرة وقد «عايشناها ومنها تجربة وجوه مثلا وعبدالله يوسف كانت له بصمة في هذه التجربة التي كانت مسرحا، شعرا تشكيلا، موسيقى، هي تجربة لم تكتف بعلاقة النص بالتشكيل بل حاولت أن تقيم علاقة بين وسائط متعددة في إطار عمل واحد قدم في مهرجان المسرح الخليجي، ما يهمني في تجربة وجوه هو التشكيل، أعرف أن النص قد مر بتجربة نضج متأنية ومغامرة في نفس الوقت وهي تجربة قاسم حداد والتي انتقلت من نص قبر قاسم إلى هذه المنتخبات التي كونت نص وجوه تهمني تجربة إبراهيم بوسعد في وجوه وكيف أنها استطاعت أن تقدم رؤية تشكيلية قريبة من عالم المسرح قريبة من عام الشعر، أما صدقية قربها من الموسيقى فهناك شكوك تخامرني، ولم تفارقني حتى هذه اللحظة صورة الأكفان التي كوّنها إبراهيم لهذا العمل وقد نقل في هذه الأكفان النصوص المنحدرة من قبر قاسم وأعرف بحدس تأويلي إن هذه الأكفان تنحدر من رؤية سابقة للفنان ضياء العزاوي للمعلقات وكيف كون ما يشبه الأكفان للمعلقات إذ وضع لكل معلقة جسدا وكفنا وغمرها بأبيات المعلقة، هذه الرؤية التشكيلية انحدرت إلى إبراهيم فاستلهمها بقوة في تجربة وجوه ثم انحدرت تجارب أخيرة منها مجنون ليلى إلى تجربة دع الملاك للبنى أمين وقاسم حداد تجربة فريال العظمي الأخيرة التي قدمت في عمارة بن مطر، هناك إذن تناسل لهذه التجارب.


« شانتال» تأويل أم تسويق أم حوار

ولذا حين جاءت تجربة وشائج سألت نفسي حقيقة هل هذه التجارب تسير دون منوال ودون رؤية ودون فلسفة أليس من الحق أن نسأل عن هذه العلاقة وكيف نؤسس لها حقيقة الشيء الذي يطرح إمكانيات هذه الأسئلة أن تجربة وشائج جرّت معها مثاقفة فكرية وأدبية أعني أن شاعرا بقامة علي عبدالله خليفة أصبحت موازية لفنانة تشكيلية بقامة التشكيلية شانتال لوجندر، وهذه المثاقفة بين تجربتين بهذا الوزن كل منهما له إرثه وتركته لا بد من مواجهتها بأسئلة وبحوار لكي نحاول أن نفهم على طريقة التأويليين أين تقع مفاصل فهم تجربة النص عبر تجربة التشكيل، ومن العادة أن نلاحظ أن التشكيل دائما يذهب إلى الشعر إلى النص، وليس العكس لم يأت النص لاهثا وراء التشكيل هذا على الأقل في التجارب التي عرضت لها فكلها حدثت بهذا الاتجاه، ولذلك فإن السؤال الأول هو ما المعنى وما الدلالة التأويلية التي تنبثق من ذهاب التشكيل إلى النص وإذا ذهب النص إلى التشكيل هل ستختلف هذه الدلالة أم لا وهل العلاقة بين النص والتشكيل هي علاقة نسب تأويلي، هل المسألة تأويل لأن التأويل له شروط ولا يدخل في نطاق الفوضويات وإنما له فلسفة، وله مبادئ وأسس وركائز، وحتى ادخل مدخلا تأويليا لنص ما لابد أن تكون لدي ركائز محددة للمعنى الذي يندمج في هذا النص ولهذا السبب لابد من أن نسأل ماذا أرادت شانتال من الذهاب لنص شعري مثل نص علي عبدالله خليفة وماذا تعني سيرة القصيدة عند علي وهي في أحضان التشكيل، ما الذي انبثق منها ما الذي دلت عليه وهي في نطاق هذه الأضواء التي بثتها هذه الفنانة على هذه النصوص، ورغم أن بيني وبين شعر علي خليفة ألفة طويلة جدا، ولكني لما جلست أتمعن في أعمال شانتال وأسلوب تقاطعها مع تجربة علي دلتني على قراءة جديدة وتأويل لمعاني جديدة لتجربة علي وسأحاول أن أتحسس هذه المعاني وأستدل عليها ببعض المقدمات التي تصلح لطرح السؤال بقوة هل هي علاقة تأويل وفهم للمعنى أم هي علاقة حوار وتسويق وترويج وتعالق بالمفهوم الاتصالي.


الشعر بوصفه عذابا

وتوقف غلوم عند تجربة علي خليفة فأشار إلى أن الشعر عند علي خليفة منذ ديوانه الأول واضح في معناه يرتبط بمفهوم شعراء العربية للشعر وكأن هذا الشاعر ينحدر من المؤسسة العربية لأدبية وشعرية الشعر وأعني هذا التراكم التاريخي الطويل لفكرة ارتباط الشاعر بالشعر بوصفه حماية يحمي وجوده حياته حقيقته كإنسان ولذلك فإن علي خليفة منذ الديوان الأول يعلن «أنا حرفي يعذبني ويسحقني، ويلقي بالضنى روحي على كفي، أخاطبكم أحبائي، وفي حلقي مياه البحر، والمسمار في جوفي» ففي كل سطر من هذه الأسطر هناك تعامل مع آلة الشعر «أخاطبكم ، حلقي جوفي، المسمار» كل هذا يصوغ فكرة علاقة الشعر بوصفه عذابا للشاعر وفي نفس الوقت عنصر حماية لهذا الشاعر أيضا هذا المعنى ليس عند علي خليفة وحده بل هو إرث المرحلة إرث الشعر العربي كله، وهذا مفهوم ما أسميه بميثلوجيا الشعر أعني أن هناك علاقة بين ميثلوجيا الإنسان والشعر وحتى قاسم كان عنده نفس المعنى «في كل يوم أحس بألف إنسان يموت بأعماقي» وقد كرر الشاعر فكرة هذا العذاب الذي يمور في داخله ولكنه في نفس الوقت يحميه هذا التضاد الذي أحاول أن أستدل عليه مستهدفا عبره ما وصلت إليه رؤية شانتال، وقاسم كتب نفس المعنى في الأبجدية المعروفة «ألف الأمر يختلف فلأبجدية التي نعيشها جديدة، فنحن لا نكتب فوق الماء، لكننا نخط بالدماء في مقاطع القصيدة، فالشاعر الشجاع يعترف، فيغمس الريشة في الجراح، ويصرع الرياح ويركب العذاب عبر الرحلة البعيدة» وكتب قصائد كثيرة تعبر عن نفس ما عبر عنه علي خليفة متوازية أحيانا متفارقة أحيانا واختلفت تجربة الشاعرين بقوة في فترات مختلفة.


الميثلوجيا لم تعد قناعا

ورصد غلوم التحول الشعري عند عبدالله خليفة متابعا «لكن حدث شيء معاكس لتجربة علي قياسا بالنسبة للتجربة الشعرية كلها في البحرين فهذا الشاعر الذي بدأت عنده فكرة العذاب المرتهنة بالشعر والحماية، بدأ يتحسس عذابه وحمايته من الحياة العادية اليومية الممضة، ولذلك راح إلى حياة البحر وحياة الأمهات، وانتظار البيوت والطرق والمدينة، ولم يذهب أبدا إلى أقنعة التاريخ والميثلوجيا، فقد سكت هذا الشاعر سنين إلى أن جاء بديوان «حورية العاشق، ولا يتشابه الشجر» ففي هذين الديوانين بدأت تظهر أقنعة الشاعر علي عبد الله خليفة لكنها ظهرت على عكس هي عند قاسم الذي منذ البشارة كتب قالت شهرزاد وبنلوب وعدة شخصيات اتخذ منها أقنعة لعذاباته أما علي خليفة فقد كانت السيرة معاكسة تماما ولذلك حين جاءت قصيدة «أرنبة البياض، وحورية العاشق» وجدتها حالة متفردة في الحركة الشعرية في السنوات الأخيرة، وخاصة قصيدة «أرنبة البياض» وأنا أتفق مع الناقد الفرنسي الذي وقف طويلا مع هذه القصيدة فهي بالفعل من علامات الحركة الشعرية في العقود الأخيرة في البحرين، والمهم في هذا السياق أن الميثلوجيا هنا لم تعد قناعا بل أصبحت واقعا بمفاهيم كثيرة تبدلت حول فكرة الأقنعة في الشعر ولذلك عندما استخدمها علي خليفة كانت معذبة له أكثر مما كانت تعذّبه تفاصيل الحياة الواقعية اليومية.

العدد 2477 - الخميس 18 يونيو 2009م الموافق 24 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً