العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ

أن تكون عاطفياً في تعاملك مع الإهانة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الإهانات وجدت مذ اكتشف الإنسان في زمنه ووعيه الأول أن عليه أن يكابد ويشقى كي يستقر. ووجد في ذلك أول الأمر نوعاً أو شبيهاً بالإهانة؛ ليقتنع بعدها أن من الإهانة ألاّ يكابد ويشقى كي يحقق استقراره، ضمن بيئة متوحّشة لا تعرف للنظام والأخلاق والحدود أي ضوابط أو كوابح. حدث ذلك بعد مئات القرون.

وعي الإنسان بالإهانة كان مبكّراً، مثلما هو وعيه بالعاطفة ودورها وأثرها. في زمن بدائي لم يتمكّن الإنسان من الانسجام مع الإهانة، كما لم ولن يتمكّن - في الوقت نفسه - أن يكون بمعزل ومنأى عن العاطفة. وبعد كل تلك البدائية؛ بات من الهلوسة أن تطمئن جهة إلى أن الإهانة حق من حقوقها في الممارسة ضدّ من هم أقل قوّة وإمكانات. للاثنين أثرهما في تحسّس وجوده. الإهانة تمس جزءاً مهمّاً من ذلك الوجود. والعاطفة توازنٌ حيناً، وحيناً آخر تأخذ بصاحبها إلى مهالك وضياع لم يحسب حسابهما.

الإهانة لا تصنع نفساً أو روحاً أو قيمة لأي مخلوق؛ بدءاً بالبهائم، وليس انتهاء بالإنسان. حتى إهانة الأشياء ينهي قيمتها وانتفاع الإنسان منها وتسخيره لها. ينهي قيمتها بالإسراف وعدم الالتفات إلى قيمتها وأهميتها ولو في الأدنى والبسيط من تفاصيل احتياجاته ضمن وجودها في بيئته. الإنسان ليس شيئاً كي ينطوي على إهانات تتكرّر من حوله وتكاد تكون جزءاً من تفاصيله. هل يعود إنساناً بركونه لكل ذلك؟ هو شبح إنسان. والشبح لا فاعلية ولا أثر له. هو في دائرة التصوّر والتخيّل والتوهّم. تلك دائرةٌ مخلوقاتها لا علاقة لها بحركة الحياة، ولا علاقة لها حتى بجمودها في كثير من الأحيان، عندما يكون الإنسان في منأى وانفصال وقطيعة معها.

هذا الانسجام المرئيّ وغير المرئيّ في العالم، يحتفظ في ثناياه بعاطفة تُقيم توازنه وانضباطه في حال الانفعال والشطط والتهوّر الذي يكاد يَسِمُ أداء مخلوقاته أو معظمهم؛ لكي أكون أكثر تحديداً.

العاطفة تكاد تكون في حالات كثيرة بمثابة الرافعة حين يدلهمّ تهوّر يهوي بما أُنجز، ويمحق ما تحقق، ويلغي ما تراكم. رافعة تنأى بكل ذلك، وتنتشل المُستهدف فيه من شفا انهياره، إلى سمو المكان وتفرّده، تحصيناً ودرءاً له.

لكن يُراد لبعض منا، في كثير من اضطراب خيارات من يتوهّم أنه يتحكّم في الزمان والمكان، أن يكون على وئام مع الإهانة، وأن يبدأ بتحيتها وإذا لم يكن مشغولاً بإهانات إضافية أو تحت الطلب، عليه دعوتها إلى فنجان قهوة، وأن يحفظ أو يتذكّر الساذج من النكات، والعميق والملتزم والخليع؛ كي يجبر خاطر الإهانة، وعليه ألاّ ينسى أن يودّعها إلى المدخل الذي أتتْ منه!

مثل ذلك الوئام «المَرَضي» مع الإهانة يُراد له أن يكون تحت مسمّى عاطفة. وليس انتهاباً لروح المتوائم غصْباً واستلالاً لقيمته. عاطفة كتلك «كما يتم تصنيفها»، هي الدليل على أنّ طرفها يستحق كل نازلة وقارعة وصارخة وفاجعة تحلّ به؛ لأنه ليس أهلاً لأن يكون عضواً في نادي البشر، والكائنات التي تشترك معه في بعض الخواص، وحضور حاسّة الانتباه والتمييز.

ببسيط العبارة: العاطفة دم الروح. ولن تكون الإهانة بأي حال من الأحوال على صلة بأي منهما (الدم والروح). الممتهن للإهانة منزوع الروح، ومنزوعها لا يمكن أن يُضخ في عروقه دم. لا يمكن أن تحضر ولو من باب الصدْفة عاطفة في وعاء محيطه وامتداده وعمقه ومحتواه توحّش. تلك أبسط عبارة لوصف وضع شاذ يمكن أن يقف عليه أي إنسان يملك الأدنى من الوعي والتمييز.

نحن بطبعنا شعوب عاطفية. العاطفة على امتداد حضور الإهانة وتكريسها واستتْبابها، واعتبارها جزءاً من المسئولية، من المفترض ألاّ تكون لصيقة بالطبْع والعادة. لا مجال هنا لمجاملة خسف يحيط بالحياة. الإهانة خسف لآدمية الإنسان. خسفٌ وتشويه وتضييق على رحابة الحياة، وحضور العاطفة بمثابة نسيان ساذج. بمثابة إذْن وتصريح غير معلن ومكتوب ومُصرّح به لممارسة مزيد من تلك الإهانة والتفنّن فيها.

العاطفة جامعة للحواس، وهي التي - ضمن حدودها الواعية والحصيفة - باستطاعتها التمييز بين المصطنع فيما تستقبل وتتأثر به، وبين الذي ينبّه العاطفة ويستثيرها ويجعلها في حال انتباه أكثر تركيزاً، وأعمق حضوراً.

ترتع الإهانة وتتمدّد وتتأصّل حين لا تجد من يردعها ويكبح شهوتها ويعرّفها بوهن غطرستها بالمواجهة، وإقامة المائل الذي ارتأته. وأي ركون إلى ممارسة كتلك تعاطف مرَضي معها وطلب المزيد منها.

تصير الإهانة عُرْفاً وجزءاً من عمليات التواصل في بيئات لا تحترم الإنسان أساساً، وهي بشكل أو آخر لا تحترم إنسانيتها. في بيئات تكاد فيها العاطفة معدومة؛ بمعنى العاطفة في حالها ومِلاكها الطبيعي، لا التي تحاول جهات أن تطبّعها، وخصوصاً إذا توافرت لها أسباب القوّة وملحقاتها.

لا أحد يملك سلطة أن يتحكّم في عاطفة أحد. والعاطفة تحتاج في كثير من الأحيان إلى صدمات كي تعود إلى رشْدها. صدمات تعيد لها حاسّة التمييز بين ما يجب أن تسايره وبين ما يجب أن تصدّه وتمنعه ولا تكون على وفاق معه. الأخطر في كل ذلك، أن تكون العاطفة حاضرة مع من يهينها ويبتذل قيمة صاحبها. أن تتعاطف مع ممارسها وأن ترى في فعله رحمة بها. تلك ذروة ما بعد الموت؛ أو على أقل تقدير، تلك دعوة مفتوحة لمزيد من الامتهان وتسقيط الإنسان. الإنسان الذي هو غائب عن قيمته، فيصير نهباً لسواه؛ وقتئذ، يكون عبئاً على الموت أيضاً!

الإهانة: بيان حقيقة صاحبها. تصحّر من العاطفة يعاني منه. العاطفة: قلب آخر أمام قلب لا أمام عدم وأقل من حجَر.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:09 ص

      انه استمراء للعبودية أخ جعفر ..

      شكراً على مقالكم الراقي يا اخ جعفر ، ونحن معكم في أنّ بعض الامراض النفسية التي تصيب بعض الناس تبرز اعراضها في نزعة عدوانية تتمثل في الرغبة الشديدة في اهانه الاخرين الذين هم اقل قوة وامكانيان منهم ! وقد سمعنا وفرأنا الكثير من هذه الحوادث . لكن الغريب في سلوك البعض ان لديه استعداداً نفسياً لاهانته! بل ويتلذذ بذلك ويفتخر بالشخص الذي اهانه ! واذا طالب بشي فطلبه لا يتعدى تحسين مستوى الأهانة وبالتالي تحسين نوع العبودية

اقرأ ايضاً