العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ

إيرلندا الشمالية... مثال «المصالحات» الناجح بين قوسين و«جدران» المخاوف في المدينة المقسومة

هكذا بدأوا... وجدير بنا أن نفعل

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، زرت جمهورية إيرلندا الشمالية، للاطلاع على إحدى التجارب العالمية في المصالحة التي توصف بـ «النجاح»، في سياق ورشة ضمن برنامج زمالة «جون سميث» للشرق الأوسط. هناك التقيت مع عدد من المنظمات التنموية التي تتركز أنشطتها في مجال المصالحة.
فيما رحت أمشي بمحاذاة جدار «بلفاست» الذي يمتدّ على طول الطريق السريع المعروف بـ «سبرينج مارتين»، فاصلاً أحياء الكاثوليك عن البروتستانت، تناهى إلى ذهني شريط طويل، بكلّ تلك الدعاوى الطيّبة في بلدي، التي نادت بالحذو حذو هذه التجربة، وضرورة اتخاذها مثالاً في المصالحة.
هذا جدار يبلغ طوله نحو 5.5 كيلومترات، فيما يتفاوت ارتفاعه بين 18 و24 قدماً. لم يكن جداراً واحداً، بل مجموعة جدران من الحديد والطوب الصلب، سميت مجازاً «جدران السلام». تتناثر على جانبيها، أحياء الإيرلنديين القوميين «كاثوليك»، وأولئك الإيرلنديين من الأصول البريطانية «بروتستانت». لا يخرق هذه الجدران المصمتة الباهرة، سوى بعض البوّابات التي تمنع من أن تكون العزلة كاملة، والتي عادة ما يتمّ إبقاؤها مغلقة طيلة فترات الليل.
سألت نفسي: لكن كيف تكون هذه تجربة في المصالحة! وماذا عن هذه الجدران! وكيف يحصل أن تكون نموذجاً مقترحاً للاقتداء به في البحرين!
حال عودتي من إيرلندا، عكفت على الاطلاع على المزيد من الدراسات التي تضع تجربة إيرلندا الشمالية تحت مجهر البحث.
هذه إحدى الخلاصات التي يمكنني الحديث عنها بإسهاب: إن تجارب المصالحة لا تولد ناجزة، مكتملة. إذ المهم أن تبدأ، الآن وفوراً، ثم تتراكم. يوماً ما ستسقط هذه الجدران، تماماً كما سقطت جدران شبيهة «برلين». وقد كانت أكبر، وأكثر إحكاماً وعزلة.
إن عملية المصالحة هي أقرب شبهاً، إلى تلك البوّابات التي تخرق الطمأنينة الصّلبة لجدران السلام وسط مدينة «بلفاست». تسمح بنفاد الناس... والضوء، لكن ليس كلّه. حين يجري تحطيمها في المستقبل، ستكون المصالحة حتماً، قد أنجزت كمالها الخاص. إنها تنتهي كاملة، لكن حين تبدأ، فهي ليست أكثر من تلك البوّابات المرنة المطلّة على الجانبين.
عزلة... إلى ما بعد الموت!
برزت المصالحة، كفرع في الدراسات الاجتماعية خلال الفترة التي تلت الحرب الباردة (1991). حين انتقلت الصراعات العنيفة من صراعات بين الدول... وعلى الدول، إلى صراعات داخلية داخل الدولة الواحدة، مع ما رافق ذلك من بروز للاختلافات الإثنية أو الطائفية. كانت أوضح الأمثلة على ذلك، حرب البوسنة (1992)، ولاحقاً راوندا (1990، 1993).
نتيجة لذلك، برزت الحاجة إلى الدخول في عمليات المصالحة، بعد إنجاز نوع من التسويات السياسية. ثم توالت بعد ذلك، تغذية هذا المفهوم، وإشباعه بالبحث، طبقاً للتجارب التي ظهرت، وبينها تجربة المصالحة في إيرلندا 1998.
إحدى الحكايات التي تروى عن جذور الصراع في إيرلندا والتي تبين عمق الانقسام، تلك الحكاية التي تتحدث عن إحدى المقابر القديمة. كان قد جرى الاتفاق على دفن الموتى من طائفتي الكاثوليك والبروتستانت في المقبرة التي تقع على سفح جبل منحدر، على أن الجزء العلوي خصص لموتى الكاثوليك، والآخر السفلي للموتى من الطائفة البروتستانتية. ارتفعت دعاوى من طرف بعض رجال الدين، مخافة أن يتسبب الانحدار الشديد للمقبرة من انزلاق جثامين البروتستانت واختلاطهم، تبعاً لتعاقب الأزمنة، مع إخوتهم الكاثوليك. بالإلحاح، تفاقمت هذه المخاوف، ما أدى إلى رفعها إلى المجلس البلدي للمنطقة كي يبت فيها. وقد جاءت رؤية المجلس مطابقة: «إن ذلك أمر مهم فعلاً، وتنبغي معالجته». وقام بجمع التمويل اللازم لبناء جدار تحت الأرض لمنع هذا الانزلاق! لم يكن كافياً أن يعيش أبناء وبنات الطائفتين، بمعزل عن بعضهم البعض في حياتهم الدنيوية. كان يجب - هكذا رأت الكنيسة معززة ببصمة الدولة - تمديد هذا العزل، لكي يلحق بهم، كوصمة أبدية، حتى إلى ما بعد الممات... إلى القبر!
جذر الخلاف العميق
دخلت المسيحية إلى إيرلندا مع مطلع القرن الخامس الميلادي، حين جاءها القديس الروماني البريطاني باتريك (ولد في 17 مارس/ آذار 461) الذي ينتمي للكنيسة الكاثوليكية، متخذاً منها مركزاً لنشر الديانة المسيحية في بريطانيا وأوروبا. وقد أعقبه، بعد نحو قرن من الزمان، مجيء الإنجليز (1167م)، حيث قاموا بضم إيرلندا إلى التاج البريطاني، كواحدة من المستعمرات. كانت وقتذاك، قد ترعرعت الكنيسة الكاثوليكية، ومدّت نفوذها الكاسح متغلغلة في مختلف مناحي حياة الإيرلنديين. يمكن التأريخ من هنا إلى نقطة الصدام بين الإيرلنديين، خصوصاً مع قيام بريطانيا العظمى بتعيين هنري الثامن (28 يونيو/ حزيران 1491 - 28 يناير/ كانون الثاني 1547)، ملك إنجلترا منذ 21 أبريل/ نيسان 1509 وحتى وفاته، والذي يتحدر من خلفية بروتستانتية، لوردا على إيرلندا الكاثوليكية ثم ملكها بعد ذلك.
باستمرار ظلّ حكم الأقليات للأكثريات موضوعاً للنبذ. لكن ذلك لم يكن المشكل الرئيس في الحالة الإيرلندية. إننا أمام شكل من الحكم يأتي من تناقض رئيس داخل رحم المسيحية. كما يأتي من رحم المؤسسة الاستعمارية التي مثلتها بريطانيا العظمى، وتطلعاتها إلى التواجد فيما وراء البحار. إنه في النهاية، حكم أقلّي بروتستاني استعماريّ لشعب مستقلّ ذي هوية كاثوليكية. كان هذا وجه التناقض الأبرز الذي يمكن أن يشكل أرضية لفهم الخلاف. فاقمه قيام هنري الثامن بإعلان الكنيسة البروتستانية، الكنيسة الوحيدة المعترف بها في إيرلندا، وتدشين حملات الاستيطان الكبيرة عبر جلب مستوطنين من بريطانيا واسكتلندا إلى إيرلندا‪.‬ ما تسبب ذلك، في اندلاع الثورة الإيرلندية التي بدأت بأجندة سلمية إلا أنها سرعان ما شابها العنف.
فاتورة الحساب... على الهوية!
كان لمقتل عدد من المستوطنين ردة فعل من التاج البريطاني، شاملة. فقد قام الجنود البريطانيون بإحراق العديد من المدن وحظر الممارسة العلنية للكاثوليكية وقتل القساوسة الكاثوليك. لم تكد تمضي سنوات حتى انخفضت نسبة ملكية الكاثوليك للأراضي من 60 في المئة من العدد الإجمالي إلى 8 في المئة فقط. تلت هذه الحملة البريطانية القاسية، تطبيق العقوبات الجزائية التي منعت الكاثوليك من حمل السلاح ومسك مناصب في الدولة وممارسة العمل القانوني والتصويت، كما حدّت من فرصهم في مجالي التعليم والتوظيف.
كانت فاتورة الحساب يجري دفعها على الهوية. ثمة حادثة طريفة تروى هنا، لامرأة عجوز، كانت عندما تُسأَل في نقاط التفتيش ما إذا كانت كاثوليكية أم بروتستانتية؟ لا تتوانى عن الرد بأنها «يهودية» لتنجو بحياتها!
لكن كل هذه الإجراءات، لم تكن كافية لكبح تطلعات الأكثرية الكاثوليكية. ففي العام 1916 عادت الاضطرابات بقوة، التي قادها من عرفوا بـ «الراديكاليين»، وتنامت الدعوات لاستعادة استقلال إيرلندا. ولكنها فشلت وتم إعدام معظم قادتها.
دق ذلك ناقوس الخطر، لدى السلطات البريطانية، وقامت ببعض الإصلاحات الشكلية التي لم تمنع من استمرار الشد والجذب. في ضوء التفكير بإيجاد حل للأزمة، برز في العام 1920 قرار تقسيم إيرلندا إلى جنوبية وشمالية. هكذا، فقد أسندت المقاطعات ذات الأغلبية البروتستانتية، وهي 6 مقاطعات إلى حكم بريطانيا العظمى، وبذلك ولدت ما يعرف اليوم بـ «إيرلندا الشمالية». فيما ظلت بقية المقاطعات، نحو 26 مقاطعة، تحت حكم جمهورية إيرلندا.
وجد الكاثوليك أنفسهم عالقين في بلد منقسم، منبوذين وغير معترف بهم، كانوا معزولين سياسياً وبلا صوت. أما البروتستانت، فعلى رغم كل الامتيازات السياسية والاقتصادية والسكنية التي ظلوا يتمتعون بها فقد ظلوا تحت سطوة هاجس دائم، من أن يتخلى عنهم الحكم البريطاني. استمرّ هذا الهاجس في التفاقم، وسط انقسام اجتماعي وسياسي. ثم حانت لحظة الانفجار 1968.

العدد 3934 - الجمعة 14 يونيو 2013م الموافق 05 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً