العدد 3941 - الجمعة 21 يونيو 2013م الموافق 12 شعبان 1434هـ

إيرلندا الشمالية: جرأة الأمل بعد خراب «بلفاست»... ومشوار الألف ميل من «الجمعة العظيمة»

هكذا بدأوا... وجدير بنا أن نفعل «2 - 2»

قد لا تكون فكرة جيّدة أن تتخلى عن حساسيتك إزاء الشارات الرمزية، في أماكن النزاعات خصوصاً. كان سائق التاكسي يقطع الطريق الطويلة من مطار «بلفاست» وسط إيرلندا، إلى مقر إقامتنا المؤقت في فندق «هوليدي ان»، وسط الأمطار الغزيرة. لفتتني كثرة الأعلام على جانبيّ الطريق، كانت تختلف في ألوانها ورسومها وكتاباتها، كما لو كانت أعلام أكثر من دولة. شعرت بأنها ترمز إلى صراع خفيّ بين هويات مختلفة.

كنا قد وصلنا إلى الفندق لتفريغ أمتعتنا، وغادرنا فوراً لبدء جولتنا، حين انتبهت، إلى الرسوم الملوّنة على المظلة التي كانت بحوزتي والتي سبق لي شراؤها من لندن. كانت تحمل نقشاً يمثل العلم البريطاني، بلونيه الفاقعين الأرزق والأحمر. ثم راح يتسلّل إليّ هاجس: أن حمل مظلّة تحوي رموز العلم البريطاني، وسط هذا التواجد المكثف لأعلام مختلفة في الدولة التي جئتها قد لايكون سلوكاً ذكيّاً.

رحت أعبر عن هذا الهاجس إلى منسقة البرنامج التي كانت تقف إلى جانبي وأشرت لها بمظلتي?.? النظرة المذعورة التي كانت على وجهها فور ملاحظة المظلة كانت كافية لكي تلخص لي كل المحذورات. وجدنا أنفسنا نغرق في موجة من الضحك، وعرضت عليّ أن نتمشى معاً تحت مظلتها.

دقت هذه الحادثة، أجراس الحذر لديّ، إزاء البلد الذي أزوره لأول مرّة. فعلى رغم مرور ما يزيد على العقد والنصف من توقيع ما عرف بـ «اتفاق الجمعة العظيمة» (1998) بين المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية، والذي أنهى عقوداً طويلة من الاقتتال الأهلي، إلا أن آثار الأزمة لما تزل قائمة. قبل أسبوعين فقط من زيارتنا، قتل حارس سجن خمسيني بالرصاص الحي، ادعت جماعة قومية تطالب بوحدة إيرلندا، أنها قامت بهذا الإجراء من أجل سلامة السجناء القوميين الذين يقبعون في السجن.

وبعد مغادرتنا بأسابيع أقرّ البرلمان عدم رفع العلم البريطاني الموجود في مبنى البرلمان إلا في مناسبات معينة. وقد نتجت عن ذلك بعض المناوشات أصيب في إثرها نحو 15 من رجال الشرطة. حيث رأى عدد من الاتحاديين الموالين إلى الحكم البريطاني أن إنزال العلم البريطاني يهدد هويتهم الثقافية.

فترة الأزمات

بدأت أحداث 1968 التي شكلت ذروة الصراع التاريخي على إيرلندا برد فعل عنيف من قبل الإيرلنديين البروتستانت من أصول بريطانية، إزاء مسيرة رفعت شعارات كانت تطالب بالحقوق المدنية للكاثوليك. وقد ردوا بمسيرة مضادة جددوا فيها التأكيد على ولائهم للتاج البريطاني. سرعان ما تطوّرت المسيرات والمسيرات المضادّة إلى اشتباكات عنيفة بين الطائفتين انتهت بتدخل الجيش البريطاني. تسبب الجيش البريطاني في قتل 13 شخصاً وجرح آخرين، لتنفجر بعد ذلك رحى العنف بلا هوادة.

«فترة الأزمات»، هي التسمية التي أطلقها السكان المحليون على الفترة التي تلت هذه الحادثة والتي دامت حوالي 30 عاماً. خلال ذلك، قتل نحو 3600 شخص، وجرح 47 ألفاً، فيما سجل حوالي 10 آلاف هجوم بالقنابل، و37 ألف حالة إطلاق رصاص و22 ألف حالة سطو مسلح، إضافة إلى أكثر من 2000 حالة استخدام لمواد حارقة. في العديد من الحالات كان القتلة يستخدمون التقسيم الطائفي للسكان الذي لاتزال آثاره باقية، لاستهداف الضحايا من الطائفة الأخرى. هناك حالات عديدة قتل فيها أشخاص ظنّاً بأنهم من طائفة معينة؛ لأنهم في منطقة بروتستانسية أو كاثوليكية واتضح فيما بعد على العكس من ذلك، أنهم من طائفة «القتلة» أنفسهم. طالت أعمال العنف البشعة المدنيين الأبرياء في الأسواق والشوارع وأماكن العمل. وسط موجة العنف العدمي، عبرت إحدى القسيسات في قداس الأحد عن اليأس الذي بدأ ينتشر في أوساط الناس. قالت، وهي تخلد ذكرى امرأة حامل قتلت أمام مرأى ابنها «لا أرى أي مخرج من هذه الأزمة إلا بمعجزة من الله».

التحليل التقليدي للاتحاديين، مؤيدي مشروع الاتحاد مع بريطانيا العظمى، يذهب إلى أن الحملة الأساسية للمطالبة بالحقوق المدنية للكاثوليك تتضمن في جوهرها أجندة قومية. كما تنطوي على رغبة دفينة في إقامة جمهورية تهدف إلى زعزعة استقرار الدولة. ويرى هؤلاء أن المطالب المرفوعة انتقالية صمّمت لإثارة النزاع فقط؛ إذ حتى لو تمت الاستجابة لها فستُثار مطالبات جديدة لتوليد مزيد من الاحتكاك والانقسام. كما تزعم بأن العناصر الجمهورية المشاركة في الاحتجاجات لم تكن تخفي نزعتها لاستخدام العنف، وكانت تبحث عن طرق لإضفاء الشرعية على أي حراك ضد إيرلندا الشمالية كدولة.

على المقلب الآخر، يذهب التحليل التقليدي للقوميين، مؤيدي الاستقلال وقيام إيرلندا واحدة، إلى أن غياب الحقوق المدنية، إضافة إلى تمركز السلطة بيد المنظمات الاتحادية البروتستانتية المتطرفة داخل أجهزة الدولة، أساس للمشكلة. ويرى القوميون أن دولة إيرلندا الشمالية تأسست بهيكلية تمييزية قسرية، لذلك فقد كان رد فعل أجهزة الدولة عنيفاً على برنامج للاحتجاج السياسي؛ لأن الدولة نفسها لا يمكن أن تستوعب الإصلاح. وقد شكل هذا الاستعصاء وقوداً لاستمرار جذوة الأزمة لثلاثة عقود.

الجمعة العظيمة

وضعت نهاية لأحداث العنف في إيرلندا الشمالية مع التوقيع على «اتفاقية الجمعة العظيمة» بعد حوالي 10 أعوام من انطلاق أولى المحاولات لإيقاف أعمال العنف، وتغيير نبرة الحوار بين القادة السياسيين. حصلت الاتفاقية التي تم توقيعها في أبريل/ نيسان 1998 على تأييد شعبي من 71 في المئة من السكان. يزعم كثيرون أن «فترة الأزمات» لم تنتهِ مع إقرار الاتفاقية، بدليل تكرار أعمال العنف في المرحلة التالية لها، لكنها كانت كافية لبث الأمل، وإطلاق خطوة في مشوار الألف ميل.

لم تكن «اتفاقية الجمعة العظيمة»، هي المحاولة الأولى لوقف العنف. ففي العام 1985 وقعت أيضاً الاتفاقية «الأنجلو - إيرلندية» بين إيرلندا وبريطانيا بزعامة مارغريت ثاتشر، ووصفت آنذاك بأنها «انتصار للعقل والاستنارة كونها تقدم حلاًّ حاسماً لإحلال السلام والأمن لشعب إيرلندا الشمالية». منحت الاتفاقية لأول مرة، منذ 60 عاماً، الفرصة لجمهورية إيرلندا للتدخل بصفة استشارية في شئون إيرلندا الشمالية عبر إقامة تعاون مشترك مع الحكومة البريطانية في المسائل الأمنية والقانونية والسياسية والمجالات ذات الهم المشترك.

تباينت الآراء بين القوميين والاتحاديين إزاء الاتفاقية، ففي حين انقسم القوميون إزاءها، إلى داعمين ورافضين، جاء رد الاتحاديين بالرفض القاطع لها. شعر الاتحاديون بأنهم تعرضوا لخيانة عظمى من بريطانيا عبر سماحها لجمهورية إيرلندا التدخل بشئونهم. قام نحو 100 ألف منهم بتنفيذ اعتصام أمام مبنى المجلس الوطني، وقدم 15 عضواً في البرلمان الاتحادي استقالته، ثم تلا ذلك إعلان الإضراب العام. على ذلك، فقد فشلت الاتفاقية «الأنجلو - إيرلندية» في إحلال السلام، لتستمرّ في إثرها حالات الشد والجذب، إلى أن تم بعد 13 عاماً، توقيع اتفاقية بلفاست المعروفة بـ «الجمعة العظيمة».

زمن يتغير... وسياسات!

ظروف عدّة ساهمت في جعل فرص نجاح اتفاقية «الجمعة العظيمة» في عمليّة خلق أرضية مشتركة لتحقيق السلام، تفوقت بها على الفرص التي حظيت بها الاتفاقيات السابقة لها: 1 - استنزاف القوميين الإيرلنديين نتيجة إطالة مدة الحرب، ووصول كثير منهم إلى قناعة أن قضيتهم لن تصل إلى أي مكان عن طريق العنف. 2 - التغيير الذي طرأ على الموازين الدولية مع انتهاء الحرب الباردة (1991)، وانطلاق عمليات السلام في غير مكان في العالم مما اتسمت أزماته بالتعقيد. وقد أثر ذلك في تفكير المؤسسات السياسية شبه المسلحة. ويقول خبير العلاقات الدولية ميشيل ?كو?كس في إقرار ذي دلالة «أن ينصحك أعداؤك بالتخلي عن الكفاح المسلح شيء، وأن ينصحك أشخاص يتمتعون بالهالة الأخلاقية الضخمة مثل ياسر عرفات، ونيلسون مانديلا شيء آخر تماماً». 3 - التغيير الاقتصادي في إيرلندا الذي أدى إلى زيادة فرص العمل، وإدراك النخب السياسية أن الوصول إلى حالة من الاستقرار قد يعطي دفعة قوية للنمو الاقتصادي ويساهم في نماء الطبقة الوسطى. 4 - انتخاب بيل كلينتون (من 1993 إلى عام 2001) رئيسا للولايات المتحدة الأميركية الذي أبدى اهتماما واضحا بشئون إيرلندا الشمالية وضرورة إحلال السلام فيها. 5 - انتخاب طوني بلير (من 1997 إلى عام 2007) رئيساً للوزراء في بريطانيا والذي كان يحمل الهم نفسه.

تطلب الاتفاق على أجندة المفاوضات أكثر من سنة من أجل إكمالها. فقد أخذت حوالي 700 يوم من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي. من الناحية التأسيسية، تخطت معاهدة «الجمعة العظيمة» توقعات الجميع، نتيجة للدعم الذي تلقته من قبل جميع الجهات السياسية. أكدت الاتفاقية أهمية الاستناد إلى مبدأ «الإرضاء الشعبي» عبر الاستفتاء في أية خطوة يتم اتخاذها بشأن مستقبل الوضع السياسي في إيرلندا الشمالية. تضمنت الاتفاقية إنشاء لجنة لحقوق الإنسان وإقامة مؤسسات ديمقراطية. انتخب مجلس تشريعي بواسطة الاقتراع النسبي وتمخض عنه قيام مجلس إيرلندا الشمالية التنفيذي. كان هذا بمثابة مجلس الوزراء حيث عقدت له صلاحية تعيين رئيس الوزراء.

كما تضمنت الاتفاقية أيضاً، الحقوق التي يحصل عليها الطرفان وتكافؤ الفرص بين الجميع دون تمييز طائفي، وكيفية التعامل مع ضحايا العنف وإنعاش الاقتصاد ودعم عملية البناء والتقدم. إضافة إلى ذلك، فقد تضمنت فصلاً حول قضية نزع الأسلحة وعلاج القضايا الأمنية وإصلاح المؤسسات العسكرية وإدامة الحوار لتفعيل الاتفاق وحماية النظام والعدالة.

خلف اتفاقية «الجمعة العظيمة» كان ثمة تاريخ من المرارات والدم والألم لما يزل يلقي بظلاله. لكنه منذ هذه اللحظة ليس سوى تاريخ. إن الخطوة في مشوار الألف ميل قد انطلقت! 

العدد 3941 - الجمعة 21 يونيو 2013م الموافق 12 شعبان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً