العدد 4165 - الجمعة 31 يناير 2014م الموافق 30 ربيع الاول 1435هـ

التاريخ المفقود: بين الروايات السردية والآثار المخفية

خريطة توضح توزيع العيون الطبيعية ونظام القنوات في البحرين
خريطة توضح توزيع العيون الطبيعية ونظام القنوات في البحرين

سبق أن ذكرنا في الفصل السابق أن الحقبة الهلنستية تعتبر الفترة الأكثر ضبابية من حيث أدلة الاستيطان. وتعتبر هذه الفترة من أهم الفترات التي يحدد على أساسها بداية نشأة القرى التي ظهرت في صدر الإسلام. ففي حقبة صدر الإسلام هناك روايات تدل على قرى ومدينة ومسجد وسوق أو مركز تجاري. إلا أن الواقع الذي تدل عليه الآثار ليس بذلك الوضوح الذي يرسم صورة شبيهة بما في الروايات السردية. فهذه الآثار تمثل قطعاً متناثرة لأحجية، إلا أنه لا يمكننا العثور على كل القطع فهناك قطع مفقودة؛ وبذلك يتوجب علينا إعادة بناء الأحجية اعتماداً على حقائق تم ترجيح صحتها من قبل عددِ من الباحثين، هذه الحقائق المرجحة هي التي تكمل الأحجية التي تعطينا صورة للحياة في الحقبة الهلنستية، وفي الوقت نفسه توفر لنا الأساس الذي يبنى عليه وصف وضعية المجتمع البحرين في فترة صدر الإسلام وكيف نشأة القرى وتطورت. وليس بالضروري أن تكون الصورة التي تمت إعادة بنائها من بقايا الآثار متطابقة مع الروايات التاريخية الموازية؛ وبالتالي تظهر قضايا شائكة بسبب كثرة الفرضيات التي تحاول التوفيق بين الروايات التاريخية والأثر.

أنواع آثار الحقبة الهلنستية

توجد في البحرين ثلاثة أنواع من آثار الحقبة الهلنستية: مواقع استيطان، يمثلها بصورة حصرية المدينة الخامسة في موقع قلعة البحرين، بالإضافة لعدد من المقابر الهلنستية المتفرقة. ويضاف إلى ذلك أثر مهم وهو بقايا نظام القنوات التحت أرضية المرتبط بالعيون الطبيعية، والذي يرجح بناؤه في الحقبة الساسانية، قرابة القرن الرابع الميلادي، (Lightfoot 2000) (Larsen 1983، p. 85)، وهناك من يرجح أن نظام القنوات، في كل الجزيرة العربية، ظهر في الحقبة الأخمينية (ما بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد) (Schade 2011، p. 5).

وهنا، يجب التأكيد على حقيقة مهمة وهي كلما اختفت أو طمست أثار معينة ضاع معها جزء من التاريخ. يذكر أن غالبية آثار الحقبة الهلنستية تقع بين القرى الحالية، وقد تعرض جزء كبير منها لتطمس أو الإزالة؛ حيث إن غالبية نظام القنوات المائية تم دفنه أو البناء عليه، وتمت إزالة العديد من تلال المقابر الهلنستية، فعند ما ينظر الآن لتلال القبور الهلنستية المنتشرة بين قرى البحرين وخصوصاً على طول شارع البديع سنجد بعض التلال التي يحتوي كل تل منها على عدد من القبور متناثرة هنا وهناك بين القرى، إلا أن أعداد هذه التلال كان أضعاف ما هو موجود. وقد وصف Bibby هذه المقابر في العام 1954م: «بعد قرية جد حفص تبدأ الصحراء بالتداخل بين الأشجار والشارع (أي شارع البديع)، وفي الأميال الثلاثة التي تلي ذلك (أي بعد جدحفص) يبدو الطريق وكأنه محاط على جانبيه بشريط رملي عرضه نصف ميل، ويلاحظ في هذا الشريط الصحراوي عدد لا يحصى من تلال المدافن، ربما يصل عددها لأكثر من ألف. هذه التلال تختلف تماماً عن تلال مدافن العصر البرونزي (أي تلال المدافن الدلمونية)» (Andersen 2007، p. 227).

إلا أن غالبية تلك التلال تمت إزالتها وبناء منازل وطرق في مواقعها، على سبيل المثال كان يبلغ تلال قبور قرية المقشع ما بين 20 و30 تلاً ولكن تمت إزالة جزء منها عند ما تم شق الطريق من المنامة للبديع في العام 1936م (بوتس 2003: ج 2، ص 819). وعلى مدى السنوات اللاحقة تمت إزالة تلال أخرى، حتى أصبحت تلك المقابر الهلنستية مجرد قبور متفرقة هنا وهناك، وما يستخرج منها لا يمكن التعويل عليه في معرفة ثقافة الشعب المحلي في تلك الحقبة. وقد تساءل Salles عن تلك الثقافة المحلية التي يعتقد بوجودها والتي تدل على وجود أماكن استيطان ربما كانت مرتبطة بكل مقبرة هلنستية (Salles 1999).

العلاقة بين المقابر الهلنستية ونظام القنوات

تنتشر المقابر الهلنستية بالقرب من العديد من القرى أو المدن الحديثة، وقد تم تحديد قرابة تسعة عشر موقعاً لها، ويمكن توزيع هذه المقابر في مجموعات متقاربة، وربما تكون كل مجموعة منها تابعة لمكان استيطان بالقرب منها:

1 - المنامة (موقع سوق المقاصيص القديمة).

2 - أم الحصم، وأبوعشيرة، وبالقرب من مدينة عيسى.

3 – جزيرة النبيه صالح.

4 – جد حفص، والحجر، والمقشع، وكرانة.

5 – الشاخورة، وأبوصيبع، وباربار، والدراز وسار.

6 – عالي، وبوري، وبالقرب من مدينة حمد.

7 – كرزكان.

8 – دار كليب.

يفترض Salles أن كل مجموعة من هذه المجموعات من المقابر الهلنستية يفترض أن تكون تابعة لموقع استيطان (Salles 1986)، إلا أننا لا يمكننا العثور إلا على موقع استيطان واحد وهو رأس القلعة؛ لهذا السبب تم ترجيح وجود موقع استيطان لكل مجموعة اعتماداً على معطيات آثارية معينة (Salles 1986). حول هذا الترجيح، لا تختلف منهجية Salles عن Larsen الذي ربط بين هذه المقابر والزيادة السكانية في الحقبة الهلنستية مع ظهور نظام القنوات أو الأفلاج المسمى محلياً (افگب أي ثقب) (Larsen 1983، pp. 84-85). الخارطة المرفقة توضح توزيع العيون الطبيعية، وكذلك العيون المرتبطة بنظام القنوات في البحرين. وعندما نقارن بين مواقع هذه العيون مع مواقع المقابر الهلنستية، فإنه يمكننا أن نلاحظ وجود ارتباط كبير بين كثافة أعداد العيون الطبيعية وتواجد تلال المقابر هذه.

معبد تايلوس المفقود

أهم موقع استيطان في الحقبة الهلنستية في البحرين تمثله المدينة الخامسة في موقع قلعة البحرين، ولا يمكن أن نربط هذا الموقع بجميع المقابر الهلنستية، ولكن يمكن ربطه بالمقابر القريبة منه الممتدة من جدحفص وحتى كرانة. وهناك إشارات تدل على وجود مواقع استيطان أخرى، سنتطرق لها لاحقاً. وفي ما يخص هذه المدينة الخامسة فإنه يرجح وجود توابع لها. من تلك التوابع، معبد تم تأسيسه من قبل (هيسبوسينز Hyspaosines 141 ق.م – 115 ق.م) ملك كراسين أو مايسين (ناقشناه بالتفصيل في سلسلة مقالات الحقبة الهلنستية)؛ حيث عثر في أحد القبور الهلنستية في قرية الشاخورة على حجر تأسيس لمعبد يوناني في البحرين ونقش عليه كتابة يونانية ترجمتها كالتالي: «باسم الملك هيسبوسينز والملكة ثالاسيا والمرزبان كيفيسيدوروس مرزبان تايلوس والجزر المحيطة، يهدى هذا المعبد إلى ديوسكوري سافيورس (Gatier et al 2002)».

يلاحظ أن هذا النقش يمثل حجر الأساس لمعبد لم تحدد أبعاده؛ أقيم في تايلوس تكريماً للآلهة اليونانية ديوسكوري سافيورس Dioscuri Saviours. وهذه الآلهة في الميثيولوجيا اليونانية عبارة عن الأخوان كاستور وبولوكس وهما من ضمن الأشياء التي تحمي الملاحة في المنطقة وهذا يعطينا دلالة أن المعبد الذي أنشئ كان قريباً من مرسى للسفن. وأفضل مكان لذلك سيكون بالقرب من قلعة البحرين التي لا تبعد كثيراً عن الشاخورة حيث وجد هذا النقش، بالإضافة أن موقع قلعة البحرين هو من أقدم المراسي في البحرين (Gatier et al 2002).

العدد 4165 - الجمعة 31 يناير 2014م الموافق 30 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً