العدد 4320 - السبت 05 يوليو 2014م الموافق 07 رمضان 1435هـ

الخليج بين العصرنة والتقاليد

نشأ مفهوم الدولة القومية (الوطنية) نتيجة للصراع الذي حدث بين الكنيسة والحركة الاجتماعية – السياسية في أوروبا وانتصار الثورة الفرنسية والاستقلال الأميركي عن التاج البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر. وجاء مفهوم الدولة القومية نتيجة للتطور الرأسمالي الصناعي ليحل محل مفهوم الملك ورعاياه والمفاهيم الأخرى التي تعتمد على مفهوم حق الفتح والحكم لمن غلب.


والدولة الوطنية هي تحقيق الإجماع والرضا بين أطراف متضاربة ضمن مجموعة من الناس يعيشون في أماكن متقاربة ماطرة بحدود معينة. ومن أجل تحقيق الرضا والإجماع السياسي تسعى هذه المجموعة البشرية لإيجاد ثقافة مشتركة تضمن العيش المشترك الذي يقبل بالتنوع في الآراء والأفكار. والمحور الأساس في الدولة الوطنية هو كما أشرنا "الإجماع"، أي تحقيق قدر مقبول من الهوية المشتركة والروح الوطنية لتوجيه العناصر المتضاربة في المجتمع باتجاه التعاون العقلاني والإيجابي من خلال أنظمة ومؤسسات محكومة بعقد (اتفاقية) اجتماعي يطلق عليه اسم "الدستور". والعقد الاجتماعي يعني أن السيادة حق للشعب، غير قابل للسلب أو المصادرة ولا يحق لأي جهة، حتى ولو كانت حكومة منتخبة أن تدعي لنفسها نصيبا من السيادة أو أن تشرع قانونا معينا لمنح نفسها صلاحيات "استثنائية" دائمة أو مؤقتة إذا كان في ذلك القانون تغاض لآراء الناس أو استبدال سيادة الشعب بسيادة شخص أو فئة معينة. فالحكومة أساسا تمارس فعل السيادة نيابة عن الجهة التي عينتها والتي يمكنها محاسبة الحكومة على أفعالها والتي تستطيع إزالة الحكومة في حال انتهاجها نهجا مخالفا لما تم الاتفاق عليه عند التعيين.


فالدولة إذن تعني الإطار السياسي العام والثابت الذي يظم الأنظمة والمؤسسات (بما في ذلك الحكومة) التي تنظم مجموعة من الناس عبر منح عدد من أفرادها صلاحيات محددة دستوريا لرعاية المصالح العامة للجميع. وتقوم هذه الدولة على أعمدة وظيفية، مثل الشرطة، الجيش، الخدمة المدنية، الوزارات، المؤسسات العامة، البرلمان، وجميع المرافق الضرورية لإقامة كيان سياسي. ومن المفترض أن ت كون هذه المؤسسات مناطق محايدة ولا تنحاز لفئة في المجتمع على حساب فئة أخرى. ومن أجل أن يؤدي المواطن واجباته تجاه الدولة ويحفظ أمنها تلتزم هذه المؤسسات بحقوق المواطن في المساواة أمام القانون (المتهم برئ حتى تثبت إدانته) وعدم التمييز الاقتصادي، وتكافؤ الفرص، وتوفير الأمن الشخصي، وعدم تعريض الأشخاص للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة، وتوفير التعليم والصحة وإمكانية الوصول للمناصب القيادية بوسائل سلمية (ديمقراطية).


لو نظرنا إلى هذه المفاهيم من وجهة نظر إسلامية نراها تتوافق مع ما ذكره القرآن الكريم والسنة المطهرة. كما نرى أن الكثير من المفاهيم قد نادي بها الإسلام ولو أن التعابير قد تختلف. فمثلا مفهوم فصل السلطة القضائية عن السلطات الأخرى نرى له تطبيق عملي في قصة اليهودي الذي سرق سيف الإمام علي (ع)، وعندما أراد الإمام سيفه وقف هو واليهودي أمام القاضي الذي حكم بملكية اليهودي للسيف، مما حدى باليهودي أن يعلن إسلامه لما رآه من سواسية الناس أمام القانون. وكذلك نرى مفهوم الديمقراطية في "وأمرهم شورى بينهم". أما مفاهيم حقوق الإنسان فلا يجهل أحد ما سطره الذكر الحكيم والسنة المطهرة من احترام للإنسان (المرأة والرجل) وتكريمه وإعطاءه الحق الكامل في تحديد مصيره.
وقد تصدى علماء الإسلام لهذه المفاهيم من أبواب متعددة للإجابة على مدى توافق هذه الأفكار الناتجة عن تجارب إنسانية مع ما جاء به الدين الإسلامي. والمطارحات لازالت مستمرة منذ سقوط الدولة العثمانية إلى انتصار الثورة الإسلامية في إيران وحتى يومنا الحالي. ومن النقاط المتطارحة هي مسألة موقع الخلافة أو الولاية الإسلامية في النظام الذي يعتمد على سلطة الشعب، ومسألة عالمية الإسلام في مقابل محدودية الدولة الوطنية (القومية)، ومسألة المرجعية الفكرية العليا التي تحدد القيم والسلوك العام، ومسألة التشريع والاجتهاد ومسألة التعددية وغيرها. إلا أن مختلف التجارب الإسلامية وغير الإسلامية التي تتخذ من الشعب سندا لشرعيتها تلتقي حول المبادئ الأساسية لإقامة الدولة الحديثة المتمثلة في ضرورة انتخاب السلطات التشريعية والتنفيذية وخضوع الجميع للقانون.


منطقة الخليج استراتيجية في العالم. في الماضي عندما كانت بريطانيا القوة العظمى في العالم، وجدت في منطقة الخليج أهمية جغرافية ومحطة رئيسية لشركة الهند الشرقية. ومن أجل رعاية هذه المصالح التجارية سيطرت على السواحل الخليجية وقضت على القرصنة لضمان سلامة حركة السفن وأجبرت القبائل على تسليم جميع شئونها الخارجية والعسكرية للمقيم السياسي في الخليج وتدخلت في الشئون الداخلية لضمان سيطرتها الكلية. وكان شعارها الأول والأخير هو الحفاظ على الوضع القائم ومقاومة أي نوع من التحديث السياسي. وعندما اهتز العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية شرعت بريطانيا في تنفيذ الإصلاحات الإدارية كتكوين البلدية والشرطة وبعض الدوائر التنفيذية. إلا أن بريطانيا وقفت موقفا سلبيا امام تجاه الحركات الوطنية الداعية لإقامة أنظمة ديمقراطية بحجج متعددة كمواجهة المد الناصري في الخمسينات.


وفي الثلاثينات من القرن الحالي بدأ الوجود الأمريكي يظهر على الساحة بعد اكتشاف النفط الذي لم تلتفت بريطانيا لتواجده إلا بعد أن حصل الأمريكان على امتيازات التنقيب والإنتاج. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتهمش القوة العظمى البريطانية وتفسح المجال أمام القوة العظمى الأمريكية. النفط الخليجي اليوم يمثل ثلثي الاحتياط العالمي ويمد ثلث احتياجات أوروبا بينما يمد ستين في المائة من احتياجات اليابان. وبمعنى آخر فإن منطقة الخليج أصبحت جزء أساسي وتكاملي مع الاقتصاد الرأسمالي الصناعي العالمي. في الوقت نفسه لا يوجد في تركيبة الدولة الخليجية أي من العناصر الأساسية التي تقوم عليها هذه الدول الصناعية العالمية.


مما تقدم يمكن فهم طبيعة التفكير السائد في الدوائر الحاكمة التي رعتها السياسة البريطانية القديمة. فبريطانيا كانت تحكم مناطق واسعة من العالم بمفهوم حق الفتح الذي يعطي الحق لمن تغلب بالقوة على مجتمع معين أن يحكم ذلك المجتمع ويتصرف في ثرواته ومصالحه. هذا المفهوم لم يعد مقبولا بعد الحرب العالمية الأولى وقيام عصبة الأمم. بعد تأسيس عصبة الأمم تم استبدال مفهوم حق "الفتح" بمفهوم "الانتداب" الذي هو في حقيقته تطويرا بسيطا للمفهوم الذي سبقه. ويعني الانتداب أن تقوم إحدى الدول العظمى بإدارة شئون الحكم في بلد معين "برخصة دولية" حتى يتطور المجتمع المحكوم ويصبح قادرا على إدارة نفسه. ولكن الشعوب اكتشفت المعنى الاستعماري الحقيقي لهذا المفهوم وقاومته وتخلصت منه. القوى العالمية (بريطانيا وفرنسا) من جانبها حاولت تدارك الأمر وسلمت الحكم لنخب متغربة عن مجتمعها وموالية لها.


المشكلة في الخليج تكمن في قلة السكان وكبر حجم المساحة الجغرافية والموقع الاستراتيجي والثروة النفطية الهائلة (بعد اكتشاف النفط)، وهذا مما ساعد في الحفاظ على شكلية النخب الحاكمة. إن ضمان الأمن الخارجي للدول الخليجية من قبل الدول العظمى خلق وضعا سياسيا لا يمكن مقارنته مع اي منطقة أخرى في العالم، وبالتالي فإن التسلط والمحسوبية والطائفية تقوم مقام الكفاءة، والرعايا والتوابع تحل محل المواطنة.


إن المجتمع الخليجي، بالإضافة لبيئته السياسة، فانه مجتمع استهلاكي، يستهلك ولا ينتج، يستورد معظم احتياجاته الأساسية، يعتمد على اليد الأجنبية في تسيير شئونه، والعائلة الخليجية تعتمد على الخدامة في ترتيب المنزل وفي إعداد الطعام وتربية الأطفال، والخليجي قد يقضي أوقاتا كثيرة أمام الفيديو والتلفزيون يشاهد ما يجري في العالم دون أن يكون له دور يذكر، وفي مقابل ما يحصل عليه من تسهيلات مادية فان حقوقه السياسية شبه معدومة، وما يحصل عليه المواطنون يدخل ضمن ثقافة المنحة والهدية من الحاكم، بينما لا يهم العالم الرأسمالي المسيطر على عالم اليوم سوى تدفق النفط بالأسعار والكميات التي يبتغيها، وبالتالي فان البترول قد يكون نقمة أكثر منه نعمة على أهل الخليج.

العدد 4320 - السبت 05 يوليو 2014م الموافق 07 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً