العدد 4324 - الأربعاء 09 يوليو 2014م الموافق 11 رمضان 1435هـ

الإنسان والفئران!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سأبدأ بالفئران وأنتهي بالإنسان. قبل شهر أو يزيد مَنحتنا جامعة مينيسوتا في مينوبوليس بالولايات المتحدة الأميركية (تأسست سنة 1851) فتحاً علمياً جديداً بتوصلها (بعد دراسة مُعمَّقة) إلى نتيجة تفيد بأن الفئران تشعر بالندم أيضاً!

عالِم الأعصاب بالجامعة دافيد ريديش تحدث عن أن إحساس الإنسان لا يكون فقط من خلال استنطاق الفرد للتعبير عن خيبة أمله والمشاعر التي تتوقد عنده نتيجة ذلك، بل «بمراقبة مظاهر سلوكه وتصرفاته النفسية والعصبية» وهو ما حدث مع الفئران.

آلية الدراسة قامت بتحديد ما سُمِّي بـ «القشرة الأمامية المدارية» في الفئران. وهي المنطقة «المرتبطة بالسلوك الاجتماعي والتحكم في المشاعر»، فضلاً عن تلقيها لمعلومات الشَّم، حيث قام الباحثون بزرع أقطاب كهربائية فيها على أربعة فئران.

لاحظ الباحثون، أن الفأر الذي يُخطئ في تحديد خياراته، بحيث لا يجد ما كان يتمناه فيها تنشط الخلايا في «المنطقة المدارية الأمامية» لديه. ومن ذلك المنطلق اعتمد الباحثون على إحساس الفئران بالندم حين يُخطئون في تقديراتهم وخياراتهم، وهو أمر غريب فعلاً!

الحقيقة، أن هذا الأمر يدفعنا لإعادة التفكير في الفروقات «الأكيدة» ما بين الإنسان والحيوان، والتي عُلِّمناها منذ الصغر. نعم فهي ربما تبقى حقيقية وثابتة (وهي كذلك كأصل) لكن ما هو ليس بحقيقي هو قدرة البشر على تغيير خياراتهم الخاطئة إلى أخرى صحيحة بعد ندمهم.

وعندما لا يحدث ذلك الندم، ولا يبدأ في تحوُّل اختيار الأشياء من سلبية إلى أخرى إيجابية، يبدأ الأطباء بتوصيف تلك الحالة، بأنها مرض نفسي يتراوح ما بين الشيزوفرينيا، أو إدمان التعاطي للمخدِّر والمشروبات الكحولية كما يقول العلماء النفسانيون.

مَنْ يجهل القنبلتين الذريتين اللتين ألقِيَتا على مدينتَيْ هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين؟ ففي السادس من أغسطس/ آب 1945، التَهَمَت القنبلة الأولى هيروشيما فقُتِلَ 66 ألفاً وجُرِحَ 69 ألفاً آخرين. بعدها بيومين التَهَمَت القنبلة الثانية ناكازاكي فمات 75 ألفاً. بالتأكيد، التقديرات ليست واحدة لكنها في المجمل لا تقل عن 140 ألف قتيل!

المشكلة أنه ورغم فداحة تلك الأرقام إلاَّ أن بول تيبتس، وهو الطيار الذي سَيَّرَ طائرة الـ (بي 29) التي رَمَت القنبلة الذرية على هيروشيما أصَرَّ حتى آخر يوم في حياته «أنه غير نادم أبداً» على فِعلتِه تلك، «وأنه ينام الليل من دُون أرَق». ولأنه عارفٌ بذنبه فقد أوصى أن لا يُوضَع لقبره شاهد كي لا يتحوَّل قبره إلى مقصدٍ لكارهيه وكارهي فعلته المشينة.

شكل آخر من عدم الندم هو ما عبَّر عنه الزعيم السابق للخمير الحمر بول بوت، فخلال حكم الخمير الحمر PCK لكمبوديا بزعامة بول بوت وخيو سامبان، قُتِلَ مليونا كمبودي في أقل من أربعة أعوام. لكن، وعندما أجرت مجلة «فار ايسترن ايكونوميك ريفيو» مقابلة مع بوت قال «لستُ نادماً» على المجازر التي ارتُكِبَت بل تمادى ليقول: «لم يكن لدينا خيار»!

بوش الإبن وطوني بلير دمَّرا العراق منذ العشرين من مارس 2003، لكنهما يقولان اليوم أنهما ليسا نادميْن! كرّرا هذا الأمر أكثر من مرة. مليونا أرملة وأربعة ملايين يتيم ومثلهما من المهجرين، مع تقسيم البلد وضرب استقراره الأهلي قد لا يشكل فرصة لهؤلاء لأن يعتذروا!

طبعاً يجب أن لا ننسى ريتشارد بيرل أحد مهندسي الحرب أيضاً، فقد قال أمام الصحافية سوزان غولدنبرغ «ليس هناك شيء يُعتَذَر عنه. إنني غير نادم على أي شيء»! لا أدري ماذا سيُعلق زوّار 4500 قبرٍ في المقبرة الوطنية في أرلينغتون على هذا الكلام! إنه أمر مفزع.

في القضايا الأخرى غير السياسية حيث آحاد الناس، وجدتُ أن نزعة «عدم الندم» حاضرة أيضاً عند بعض البشر. في حادثة الشابة الباكستانية فرزانة بارفين (25 عاماً) التي رَجَمَها عشرون رجلاً بينهم والدها وأخوها وهي حامل بحجة زواجها من رجل تحبه، لم يُبدِ والدها «أي ندم» على فعلته كما جاء في محضر الشرطة. هذا الأمر وجدته أيضاً في أكثر من حادثة مشابهة.

حتى في المسائل التي من المفتَرض أن تفضي إلى قتال آلاف البشر لبعضهم نتيجة إهانة المقدسات التي يُدين بها ملايين من الناس، يمتنع البعض عن إبداء الندم. هل تذكرون مارك باسيلي يوسف وفيلمه المسيء لنبي الإسلام (ص) وما أثاره من احتجاجات عارمة في العالم الإسلامي وماذا قال لصحيفة «نيويورك تايمز»؟ قال الكلمة نفسها: إنني غير نادم!

هنا، يتفكر المرء في أحوال هؤلاء وهو يقرأ عجزهم عن قول: نادمون على جرائم بيِّنة، وفي الوقت نفسه قدرة الفئران على الشعور بالندم الذي هو في الأساس شعور طبيعي، كي يُقوَّم العمل اللاحق.

ففي حالات كتلك التي مرَّت علينا، يظهر لنا مدى عجز الضمير في أن يتحرك ويُترجِم تأنيبه أمام سلطة الأنا الجبَّارة، التي لا تستجيب إلاَّ للغرائز. وأمام هذه الغَلَبَة السلبية، يتحكم في المجتمعات عادة نظام فاسد لا أخلاقي، كونه لا يعبأ أبداً بسلطة الضمير.

قد يتصوَّر البعض أن هذا أمر مُبالَغ فيه. وربما اعتقدوا بذلك، كونه حالة غير مرئية وليست مباشرة، لكن الحقيقة تقول عكس ذلك. ففي كل المجتمعات التي عاشت أوضاعاً قاهرة، وسلطة سياسية غاشمة، كان الأساس فيها هو غياب سلطة الضمير، لصالح «الأنا»، وبالتالي الإصرار على فعل الخطأ والجرم وعدم الشعور بالندم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4324 - الأربعاء 09 يوليو 2014م الموافق 11 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 9:34 ص

      أنا

      لي تجارب شخصيا مع الفئران ولا أعتقد بأن الدراسة التي أجريت كانت دقيقة , فالفئران لا تندم على شيئ قامت , به الله يستر نهم.

    • زائر 5 | 5:58 ص

      وهناك مثال كبير

      وهو عبيد الله بن زياد الذي أصر حتى آحر يوم في حياته لأنه غير نادم على قتل الإمام الحسين (ع)
      وهؤلاء هم الذين قلوبهم كالحجارة بل هي أشد قسوة

    • زائر 4 | 4:30 ص

      القذافي

      مقولة معمر القذافي لازالت ترن في الآذان: من انتم؟؟؟

    • زائر 3 | 3:54 ص

      إنه الكِبَر

      لو كُنا نفهم لغة الفئران لربما سمعناها تقول لستُ نادماً أيضاً!!
      هؤلاء الجبابِرة يقولون بأنهم ليسوا نادمين و لكن مظاهر سلوكهم وتصرفاتهم النفسية تقول غير ذلك!! و أتوقع أنه لو تم إجراء إختبارات نفسيه و عصبيه لهم لأثبتت ذلك..

    • زائر 2 | 2:31 ص

      هي الرحمة اذا نزعت من بني البشر اصبحوا في حالة اسوأ من الحيوانات

      نزع الرحمة او انتزاع الرحمة هي أسوأ ما يواجه بني البشر لأنه وبعد نزع الرحمة من قلب هذا الانسان فإنه يصبح اسوأ من الحيوانات المفترسة

    • زائر 1 | 11:04 م

      متابع

      بعض المتدينين يقولون جملة لطيفة : أعوذ بالله من كلمة ( أنا ) ، . . . . شكرا على المقال ، . . . . نتمنى من الأستاذ محمد أن يكتب مقالات تتناول ما يمكن أن نستفيده من حضارة الغرب ، تربويا ثقافيا فكريا أسريا وكل شيء ، وكذلك ما علينا تجنبه من حضارتهم الكبيرة ، مقال ( حاجتنا إلى الخيال لا الجنون ) كان رائعا في هذا المجال .

اقرأ ايضاً