العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ

الماغوط... وهو الخائف الوَجِل سَبَّبَ قلقاً لكثيرين

في «شرق عدن... غرب الله»...

محمد الماغوط
محمد الماغوط

أعوام ثمانية، مرّت على رحيل الشاعر والمسرحي السوري محمد الماغوط. رحل عن العالم في الثالث من أبريل/ نيسان 2006.

أبدأ بهذا كي أعبر وأنتهي منه: كأن محمد الماغوط... هو الخائف الوَجِل الذي سبَّبَ قلقاً لكثيرين. كأنه يعمل على طمأنينة المهمّشين ليفصح عمّا لا يستطيعون قوله؛ ليشاركهم بعض ذلك الخوف والقلق. كأنه - للمرة الثانية - الخائف الذي يجد طمأنينته في الذهاب إلى الحدود البعيدة من الهجاء والتهكُّم!

ربما لم يعرف تاريخ الشعر العربي الحديث، تجربة شعرية بتلك العفوية والحيوية في الوقت نفسه، كما عرفها في تجربة الماغوط. عفوية ليست في الكلام البسيط، وما يبدو أنه مباشر؛ بل بالقدرة على صوغ كل ذلك بكل ذلك التداعي الذي وَسَمَ كتاباته، وصولاً إلى الصدْمة. خليط من أجناس هو نصه. مقالاته هي الأخرى تكاد تتاخم الشعر. أو تكاد لا لا تجد فاصلاً بينها وبين الشعر، وتلك لوحدها تجربة تكاد تكون فارقة في التجربة العربية الحديثة.

على حدّ علمي، وعلى رغم سنوات مرَّت على إصدار «شرق عدن... غرب الله» للشاعر والمسرحي السوري الراحل محمد الماغوط، إلا أنه لم تتم قراءته أو استعراضه، هنا. أبسط الأسباب، والمباشر منها، أن مضمونه، موجع ومبْكٍ/ مضحكٌ في الوقت نفسه. موجع للذين تتهكّم عليهم تلك الكتابة: وهم الذين رسموا، ويرسمون خريطة وامتداد ذلك الوجع في الخريطة العربية خصوصاً، وما بعدها عموماً. موجع أيضاً للضحايا، بتقديمهم في الصورة التي هم عليها، لا كما يريدون أن يهربوا من تلك الصورة في كثير من الأحيان. ومبْكٍ/ موجعٌ لأنه لا يكتفي برسم ذلك الوجع. إنه يعيد إحياءه والتذكير به وكأنه بدأ للتو. يأتي طازجاً، ومتجدِّداً، كجرح من العمق بمكان بحيث من الصعب أن يُخفي الأثر الذي يدل عليه. يظل هناك. كتابة بتلك النوعية من الجرأة والحكمة والتهكّم لابد أن له أكلافاً لن تكون عابرة، قياساً بالزمن الذي دُشِّن فيه الكتاب؛ حيث لم تبدأ لعبة المشاريع الساذجة ذات الاستعمال لمرة واحدة وأبدية! عبر مشاريع ترميم الخراب في السياسات!

سبق ذلك الإصدار «سأخون وطني»، وهو عنوان يتجاوز الصدمة. وللمضمون حكاية أخرى. يظل شاعراً إشكالياً بامتياز.

التصالح مع الخوف الشخصي

على المستوى الشخصي، ظل الماغوط، على رغم حساسية ومباشرة بعض الموضوعات التي يطرقها، وحدّيتها واستفزازها لمن تعنيهم تلك الكتابة، والشجاعة التي تبديها، متصالحاً مع خوفه (الشخصي) وحرصه على الحياة. يريد أن يختبرها ويتحايل عليها بجرأة أخرى: أن يكتب ما لم يكتبه سواه. أن يرى بعين لا كأي عين. أن يلتقط بكل حواسه الفكرة والمشهد كأنْ لم يفعل أحد غيره ذلك.

لم يُعرف عن الماغوط جرأته ومباشرته لمعارضة النظام في بلاده. ولا نريد أن نقول إنه جبان في المعارضة تلك؛ ولكنه نأى بنفسه عنها. وجد في الكتابة والنصوص الحادة على مستوى الشعر والمقالات والمسرح تعويضاً أو تحايلاً على تلك المباشرة. كان ثمة فضاء يسمح بذلك ويتيحه؛ ليس للمباشرين للمعارضة تلك.

«بدأتُ وحيداً، وانتهيت وحيداً كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة». تلك كلمته في ما يتعلق بموقفه من التيارات والمدارس في الكتابة؛ ولكن الكلمة نفسها لا تنفصل عن النأي بنفسه عن الانتماء للتيارات السياسية ذات المواقف المباشرة من أنظمة بلادها والأحزاب التي تتعاطى الشأن السياسي الذي لا يخلو من صدام وأكلاف!

ليست الأنظمة وحدها التي كانت معنية بالكتابة تلك، بكل ملامحها والمواصفات التي أشرنا إليها، حتى الكيانات التي كانت تُكمل دورها، باختطافها للحقيقة، والتحدّث باسم الله، معنية بها.

هل تذكرون هذه الجملة في مسرحية «شقائق النعمان»: «عمرها ماكانت مشكلتنا مع الله، مشكلتنا مع اللي يعتبرون نفسهم بعد الله».

في الكتاب موضوع المراجعة يمارس الماغوط التنوير والفعل السياسي والنقد للسياسات بلغة فيها هجاء مفتوح على الاحتمال والتأويل وكذلك المباشرة. ولا يخلو الكتاب من خدش للحياء يمارسه ضمن بناء النص وتركيبه، ولا يؤمن بالحيلة الثابتة، أن يوقظ الرقيب داخله أثناء الكتابة، وخصوصاً وهو على خط المواجهة والاستفزاز فيما يُقدّم.

هجاء ونقد لكل السياسات على هذا الكوكب. السياسات التي تتخذ من الانسان لعبة في الرهان على كل شيء باستثناء الرهان عليه. من الدول التي استوت ديمقراطياتها، إلى تلك التي ترى الديمقراطية «فتنة كبرى»، وطريق مختصرة لجحيمين: جحيم الأرض، وجحيم الله في السماء! يأتي السياسة من باب التهكّم. ويأتي التهكم من باب السياسة. كأنه ولد ووجد ويكتب ليتهكم. أصعب منحى في الكتابة أن تُوجع وتنبّه إلى المفارقات والخلل والانكشاف باللغة تلك. بعد أن يُعدِّد: الفلاحون، العمّال، الطلاب، الموظفون، العروس، الحامل، المرشحون، السياسيون، المدعوون، الجيوش، الأغنياء، الفقراء، الثوّار، العميل، الخائن، اللص، المهرّب، المُزوِّر، سماسرة الأغذية الفاسدة والمخلّفات الكيماوية، وتجارة الأعضاء البشرية والجغرافية والتاريخية والقومية «لا يتحدثون إلا عن الوطن وهموم المواطن، والمقاومة والاحتلال وعار الاحتلال، فعن ماذا نتحدث نحن الكتّاب والشعراء، عن الحمّى القلاعية وجنون البقر؟». سورية كانت على رغم ما يختزنه وما تمتلئ به كتاباته على تنوّعها بالنقد الصادم لفرط تناقضاتها، والفساد (العرْف)، ظل يجد فيها قدرته على الحياة، وقدرته على ممارسة المسيء لها. ظلت خياره على رغم كل ذلك «... ومع ذلك لن أرحل، ولن أبحر مكاني قيْد أنملة، كما يحلم يهود الداخل والخارج، وسأتشبّث بالأسلاك الشائكة والحدود المكهربة ولو تفحّمْتُ عليها».

التأريخ للألم البشري

قال عنه الياس فركوح: «قبالتي جبل السائح في مرمريتا ينتظر الحمامة وغصن الزيتون، وأنا أحمل عالم محمد الماغوط تحت إبطي. وإذا عدْتُ من عالمه - وأنا لا أبرحه - رأيتني مُعلَّقاً بين غمامتين. الأولى قصيدة والثانية بحر الأهوار، وهي تفيض من كل الجوانب دماً ودموعاً وحبْراً».

الدم والدموع والحبر، لم يكُ ذلك كله إلا ضرباً من «التأريخ» للعذابات من دون أن يحصرها في قطْر ينتمي إليه. إنه شاعر ينتمي إلى العالم، بكل ما يضج فيه من نقائض. التأريخ للألم البشري، يقدم الصورة الأشمل والأعمق له. وإن امتاز الشرق الذي تنتمي إليه بلاده بالفائض من ذلك الألم، ويُعطي نموذجاً ومقاربة شعرية لم تعد تملك جرأته وحساسيته تجارب في المحيط، موضوع تلك المقاربة بالدرجة الأولى.

«الكل يركض وراء الشهرة، المال، الحب، الجنس، الرياضة، الفروسية، الطعام، وأنا أركض وراء الفقراء، وهذا من سوء حظي وحظهم. وحدهمُ الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد».

كمٌّ من الإحباط... وربما سيل من اليأس يطلع على قارئ الماغوط. كل ذلك بشكل متدافع وموّار، لا انقطاع نَفَس فيه، لكنك لا تملك إلا أن تنسجم من القدرة على صوغ ذلك الألم في صور ومشاهد وإيحاءات وعوالم وحالات يبدعها. عوالم يركّبها، ويعيد خلخلتها، ليواصل البناء عليها من جديد.

يعرف القارئ تمام المعرفة أنه بقراءته للماغوط لن يخرج مرفّهاً. سيخرج محمَّلاً بشيء من ذلك الألم واليأس؛ لكنه ليس اليأس الذي يقوده إلى البحث عن الهروب. يضعه أمام مواجهة معه. يدعوه أحياناً إلى شرب فنجان من القهوة معه! يحدث ذلك كثيراً في قراءتي له.

تجربة سجنه لم تكن بتلك الفظاعة والزمن الممتد كي نقول هي المخزون لديه في جانب من تلك الصياغات والأشكال الإبداعية التي يجترحها. ربما يكون ذلك صحيحاً في جانب منه. الأقرب إلى ذلك المخزون ربما هجرته المبكرة. بعدها موت زوجته سنية صالح، وبعدها موت الأب والأم مع فارق زمني بسيط، هجرة ابنتيه، الأولى إلى الولايات المتحدة الأميركية، والأخرى إلى العاصمة البريطانية (لندن). الأصدقاء الذين ترصّدهم الموت واحداً تلو الآخر. الأمكنة التي لم تعد مكتملة ولا تبعث على الإغراء بعيداً عنهم. كل ذلك مزيج من مخزون ظل يمْتح منه، والأهم من ذلك قدرته على الحياة وسط ذلك الكمّ من الألم والحزن والمرارات والعزلة، وتقديمها كما هي وأحياناً القفز على النادر من فرحها والحبور، مقدّماً إياه في النقيض من الصورة.

قراءة أدائه في الحياة

كأنه يقرأ أداءه في يوميات الحياة. يقرأها كتابة، بكل الدقة والمهارة وروعة القبض عليها، أحياناً في غفلة منها، مقابل سهره الدائم وصحوه. لا يرى في استقراره إلا الاقتراب من الخلل إن لم يكن هو الخلل نفسه. في حركة دائمة. القلق هو ما يجعله يتنقّل بين الأشكال الإبداعية التي لفتت انتباه قرّاء العربية وقراء اللغات التي ترجمت أعماله إليها. من المقالة والشعر والمسرح والرواية والدراما والسيناريو. «المبدع كالنهر الجاري... متى استقر... تعفَّنَ». كأنه لن يقبل بصيغة غير صيغة النهر في جريانه وحركته وتجدّده الدائم.

يحضر المبدع (من دون الأنا) في أكثر من موضع، تلك التي تتصدّر تقديم نفسه إلى العالم من خلالها، أو حواره مع العالم الذي هو أحد سكّانه المحشورين في جغرافية الشرق.

«المبدع في الشرق عامة... قِطٌّ جائع في حانوت للمعلبات». ليلتقط القارئ ما يريد التقاطه من وراء ذلك الجوع. ليس صراخ المعدة والطِوى، إنه الجوع إلى الكرامة والعدالة والحرية والقيمة والاعتبار.

- «الكل يريد أن يرضع كفايته من صدري: الطيور، الأشجار، الحُجّاج، القراصنة، المشردون، العابرون. هل أنا حليمة السعدية؟».

- «لم أستطع تدريب إنسان عربي واحد على صعود الباص من الخلف والنزول من الأمام فكيف بتدريبه على الثورة».

- يا إلهي، كل الأوطان تنام وتنام، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ، إلا الوطن العربي فيستيقظ ويستيقظ، وفي اللحظة الحاسمة ينام!

- «أيها العرب، استحلفكم بما تبقى في هذه الأمة من طفولة وحب وصداقة وأشجار وطيور وسُحُب وأنهار وفراشات، استحلفكم بتحية أعلامها عند الصباح، وإطراقة جبينها عند المساء، لقد جرَّبتم الإرهاب سنين وقروناً طويلة وها أنتم ترون إلى أين أودى بشعوبكم. جربوا الحرية يوماً واحداً لتروا كم هي شعوبكم كبيرة وكم هي إسرائيل صغيرة».

- «لقد أصبح البشر كصناديق البريد المُقفلة، متجاورين ولكن لا أحد يعرف ما في داخل الآخر».

- «ما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولد الإنسان عربياً».

- «وقد يكون هذا زمن التشييع والتطبيع والتركيع، زمن الأرقام لا الاوهام والأحلام ولكنه ليس زماني. سأمحو ركبتي بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو تيار أو مرحلة. ثم أنا الذي لم أركع وأنا في الابتدائية أمام جدار من أجل جدول الضرب وأنا على خطأ. فهل أركع أمام العالم أجمع بعد هذه السنين وأنا على حق؟».

- «في ظروف الطغيان ليست البطولة أن تجلس على ظهور الدبابات بل أن تقف أمامها».

- «قراراتنا وطنية لكن قطع الغيار من الخارج».

- «ومع ذلك، ما إن يغيب أحدنا عن هذا الوطن أسبوعاً أو أسبوعين حتى ينام والدموع تغطي وسادته حنيناً وشوقاً إليه. ما العمل يا سيدي؟ لا أستطيع البقاء فيه دقيقة واحدة ولا أستطيع الحياة خارجه دقيقة واحدة. هل أقضي بقية حياتي في قاعة الترانزيت؟».

- «أيتها الزهرة المطرودة من غابتها، أيتها العضة العميقة في قلب الربيع، حبك لا ينسى أبدًا كالإهانة... كجراح الحسين».

- «الوحدة الحقيقية القائمة بين العرب هي وحدة الألم والدموع».

- «مراقبة الألم من وراء الزجاج شيء مضحك... كالأطرش الذي يسمع موسيقى».

- «لا تنْحنِ لأحد مهما كان الأمر ضرورياً، فقد لا تواتيك الفرصة لتنتصب مرة أخرى».

- «أنا فقير يا جميلة... حياتي حبْر ومغلَّفات وليل بلا نجوم... شبابي بارد كالوحل... عتيق كالطفولة».

- «الفرح كما أتخيله... صعب المنال جداً... كالطفولة بالنسبة إلى شيخ يدب على عكازه».

العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً