العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ

هيْبة نصِّ المكان الأول... أن تترك الأمر للصورة

«المحرق... وردة البحر» لعبدالله الخان

عمارة قديمة في المحرق
عمارة قديمة في المحرق

أصعب ما يمكن أن يواجهه الفنان والكاتب، هو أن يكتب عن مدينته... قريته... المكان الأول الذي تشكَّل فيه وعيه على الدنيا. لكتابةٍ/ نص مثل ذاك، هيبة لن تتجاوزها - ربما - بترك الكلام للصورة؛ أو ليكن عليها لا عنها! بعض الصور لا تستطيع الكتابة بالنيابة عنها.

صعبة الكتابة تلك لأنك تتوهّم أنك ترى المكان بوضوح. الوضوح نفسه هو ما يفعل فعله في الإرباك. أبسط ذلك الإرباك: من أين تبدأ؟ ربما لا يهمّ كيف تبدأ. الكيفية ستأتي بعد ذلك إذا عرفت من أين. البدايات ثقيلة كالعادة، بعكس النهايات. في النهايات تزداد حدّة الحيوية والنشاط. مع الوصول تبدأ الخمود.

الصورة أبلغ ما يقدّم المكان

في الكتابة عن المكان إضافة إلى الصعوبة، ستفتقد الجرأة حتى وأنت تمارس فعل الكتابة. الجرأة بمعنى: كيف تقدم المكان كما تراه أنت لا كما هو. تقديم المكان كما هو لا يضيف شيئاً. كل ما عملته أنك نقلته من حيّزه الكبير والممتد والمتطاول أحياناً، إلى حيّز فعلكَ أنت: الورق، الكتابة، النص عموماً. النص ليس شرطاً أن يكون بالحرف. من أجمله، الصورة، اللون، وحتى الصوت: الموسيقى.

يأتي الكتاب التوثيقي للمصور الفوتوغرافي الرائد، عبدالله الخان في هذا السياق. كتاب سيرة المكان من خلال الصورة: جزيرة المحرق.

«المحرق... وردة البحر»، ذلك هو العنوان الذي حمله. يتتبّع نص الصورة في الكتاب جزيرة المحرق، لخمسين عاماً، تمتد من العام 1945 وصولاً إلى العام 2006. والد المصور (محمد الخان)، كان له حضوره أيضاً في ذلك النص.

الكتاب جاء، إضافة إلى العربية، باللغتين الإنجليزية والفرنسية، في الكلام عليها؛ لا عنها. ومرة أخرى، لا أحد يتجرأ على الكلام عنها في هذا المقام. قالت كل ما تراه وما لا تراه. أنت تتكلم على الصورة هنا، ليس فقط للذين لم يكونوا من بشر المكان أو حتى أثاثه، بل للذين يعملون بهدوء ومكر أيضاً لإزالة ومحو ما يدل عليه! ثمة إزالة ومحو يحدثان. هو محو مع سبْق الإصرار والترصّد لذاكرة جمعية.

أعدَّ الكتاب القاص والروائي والفوتوغرافي حسين المحروس، الذي اشترك مع الخان في أكثر من عمل ونشاط، بحكم العلاقة الرائعة والارتباط النادر في هذا الزمن بين المبدعين.

فريق آخر ساهم في إخراج الكتاب/ نص الصورة إلى النور تمثل في حسن مهدي، رفقة المحروس من حيث التصميم، وتولِّي الأول التنفيذ. الترجمة إلى الإنجليزية تولّتْها فاطمة الحلواجي، بإمكاناتها الملفتة، وهي امرأة كثيرة في نشاطها الملفت. أما الترجمة الفرنسية فتولّتها السفارة هنا، في البحرين.

نص الصورة... إزاحة الكلام

الكلام على الصورة قليل في الكتاب. لأن صورة وحدها، كثيرة. بمعنى اكتنازها وغناها، وحساسية لحظتها. لا يترك الخان للكلام الذي نعرف مساحة، تتولى الصورة ذلك، بالمكان والوجوه والمواد والمهن والطريق إلى ترتيب الحياة. إنه نص الصورة الذي يمارس إزاحة الكلام عليها.

العناوين ملفتة... لن أبخس حق أحد لو قلت، إن المحروس أمام وقبل تلك العناوين اشتغالاً. الأمر نفسه يربطنا بخامة اللغة التي كُتب بها العنوان. وذلك مدخل رحب للصورة أيضاً، هو الكلام عليها الذي أشرت إليه، لا عنها. ولا يملك الرحابة تلك إلى المُؤَدِّيات إلا الشعر. بعض تلك العناوين لابد أن يكون مباشراً، وذلك باب أقلَّ رحابة، ولن تحزن لأن نص الصورة سيفي بالغرض.

ترد في الفهرس العناوين الآتية: أمكنة... بيوت... وما بقي من السيرة، المقاهي الشعبية... الشاي أحاديث، مصايف المحرق... جنَّة الماء، أصوات المحرق... أصوات الناس، آثار الذين مرُّوا من هنا، المهن... الحِرَف... الأيادي، التعليم... جهة المعرفة، عادات... أزياء... أنتيك، موسيقى... غناء... إذاعة، النخيل... فواكه... رائحة اللوز، جسور المحرق معابر حياة، مطار البحرين... متعة السفر، شخصيات... سيرة صورة، نوادي... رياضة، المحرق من الجو، وعلامات.

المدخل إلى الصورة

«المحرق جزيرة تشبه حدْوَة الحصان، وتشبه وردة البحر، تحيطها مياه البحر مثلما تحيطها روايات تسميتها. قيل إن اسمها أخذ من صفة في الشاعر العربي الجاهلي امرؤ القيس وهي «المحرق»، وقيل إنها اسم صنم يُدعى محرّق والمحرق، عبدتْه قبائل عربية، وقيل هي اسم ملك، وقيل ليس شيء من ذلك».

ذلك مدخل آخر بالكلام. بعيداً عن الصورة. يكمل الكلام الذي ستقوله الصورة فيما بعد. لا برزخ بينهما.

من صورة لبلدية المحرق التقطت في العام 1980، مروراً ببيوت: علي بن موسى، وسلمان حسين بن مطر، وبيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي، ومنزل المرحوم محمد بن عبدالرحمن الخان، الذي بناه عبدالله جبر الدوسري في العام 1930، واشتراه محمد الخان في العام 1944، ثم استملكته الحكومة لتوسعة الشارع العام في العام 1985، هنالك أيضاً بيت سلمان بن حسين بن مطر، والمرحوم يوسف عبدالرحمن فخرو، ومجلس الشيخ علي بن خليفة بن دعيج، ومنزل يوسف الدوي، وبيت الشيخ خليفة بن حمد بن عيسى بن علي، وبيت عبدالنور محمد البستكي، الذي بني في العام 1946، في حي البنعلي، وبيت عبدالله أحمد مراد، تطوافاً بمواد دخلت في بناء العمارات القديمة في المحرق، شأنها شأن بقية مناطق البحرين، ومساجد عديدة في حالة بو ماهر، ومسجد محمد شاهين الجلاهمة التقطت في العام 2000، وليس انتهاء بالمقاهي: مقهى السيد عبدالقادر العلوي، وموضوعات مرتبطة بالمكان والحرف فيه، والذين زاولوا تلك الحرف، من بينهم الذين امتهنوا الغوص لصيد اللؤلؤ، يعود بعضها إلى العام 1964، وصناعة الحلوى التي اشتهرت بها جزيرة المحرق، حتى يومنا هذا، ورصد أمكنة التنوير الأولى (المدارس)، ومركز الإشعاع وقتها، مدرسة الهداية الخليفية، والطلبة في العام 1948.

كي لا تكون الذاكرة ناقصة

عقود من كتابة سيرة المكان والوجوه، والوقت أيضاً بالصورة. كيف يمكن للوقت أن يُكتب؟ بالقبض على زمن الذين صنعهم أو صنعوه، يبدو لا فرق يمكن رؤيته هنا، وإن رُئيَ يظل هو... هو الاشتغال الذي مارسه عبدالله الخان على كل ذلك كي لا تتسرّب التفاصيل. كي لا تكون الذاكرة ناقصة. المكان الذي تنقصه الذاكرة مريض... ويشيخ. الزمن الذي تنقصه الذاكرة كذلك. تلك هي القيمة والمعنى الذي وعى له وعليه، منذ أن تعهّد الخان حساسيته. الصورة... اللقطة لا تكون ذات قيمة من دون تلك الحساسية.

يُراد للكلام هنا أيضاً ألاَّ يكون كثيراً بعد الامتلاء في الصورة. كل شيء هناك. التفاصيل تكاد تتسع ولا تضيق في هذا المقام. هكذا تقدم الصورة نفسها؛ أو هكذا يقدم موضوع الصورة نفسه، بالمكان والوجوه والسكك والمساجد والعريش والحجر والطين ومفتتح العمر والكهولة والمقاهي.

الصورة... رائحة الحواس

بعض الصور تملك القدرة على إثارة بعض الحواس التي تبدو مركونة أو خاملة. بعض الصور تبصرها أكثر من غيرها. لا علاقة لحدّة البصر هنا. ثمة بصر آخر تمنحك إياه الصورة، بالقدرة على تحطيم صنمية ما تعوّدت. ما تعودت من أشكال. ربما ما تعودت من سطح الأشياء. لن تنجو من حواس كثيرة تطلع أمام بعض النصوص/ الصور، مثلها مثل النصوص/ الكلام، وقد تتجاوزها. ستشم رائحة الحجر، والاعتكاف في الأمكنة، والخطوات التي كانت مسرعة، والفراغ الذي تمتلئ به المقاهي، أو يمتلئ بها.

الكتاب تغطّي نصوص صوره «فرجان المحرق»: البنعلي، المعاودة، المرّي الحدَّادة، الصنقل، الحيايج، بن هندي، الشيوخ، فخرو، خرابة السادة (سومادو)، الستيشن، البنّائين، القصاصيب، الخارو، بن مطر، بن خاطر، الجزازيف، المحميد، بوخميس، السادة، المحمود، المسلّم، الذواودة، الزياينة، الفاضل، العمامرة، الجودر، القمرة، الحسن، الصاغة، البوبشيت، الجامع، اليوشع.

صانع الحلوى محمد يوسف الحلواجي العام 1956
صانع الحلوى محمد يوسف الحلواجي العام 1956
مقهى عبدالقادر في سوق المحرق العام 1960
مقهى عبدالقادر في سوق المحرق العام 1960
من اليمين: عبدالله فليفل، خليل بوزبون، سامي أمين، مريم الدوسري، خليفة بوعجالة والحايكي
من اليمين: عبدالله فليفل، خليل بوزبون، سامي أمين، مريم الدوسري، خليفة بوعجالة والحايكي
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
مصايف عراد العام 1958
مصايف عراد العام 1958

العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً