صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4729 | الثلثاء 18 أغسطس 2015م الموافق 18 رمضان 1445هـ

في دوافع تحوُّل السياسة الأميركية تجاه إيران

الكاتب: يوسف مكي - comments@alwasatnews.com

لقد اكتسبت إيران فيما مضى قوتها السياسية من موقعها الجغرافي، ومن الثروة النفطية التي تمتلكها. وقد جاء التحول الأخير ضمن تحولات دولية ملحوظة، لعل أبرز ملامحها، تطبيع العلاقات الأميركية مع كوبا الاشتراكية ورفع الحصار عنها.

لم يكن مفاجئاً للذين تابعوا سير مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، في الشهور الأخيرة، توقيع الاتفاق النووي مع إيران. فقد بدا واضحاً تصميم إدارة الرئيس باراك أوباما، على التوصل إلى صيغة اتفاق معها حول هذا الملف، وقد أعاد ذلك إلى الذاكرة مشهد المفاوضات بين أميركا وكوريا الشمالية أثناء عهد الرئيس بيل كلينتون، والتي انتهت بتوقيع اتفاق مماثل للاتفاق الذي جرى توقيعه مؤخراً مع طهران.

لماذا تحركت الإدارة الأميركية في هذا الوقت بالذات، بقوة دفع غير مسبوقة، من أجل إنهاء أزمة الملف الإيراني رغم المعارضة الشديدة لحلفائها في المنطقة، ووجود معارضة قوية لتوقيع الاتفاقية في الداخل الأميركي؟

سؤال طرحه كثير من المتابعين لمجرى السياسة الأميركية التقليدية في العقود الأخيرة. وطرحت إجابات عدة، لكن الغائب في تلك الإجابات هو وضعها في سياق المتغيرات الدولية، والتحولات في موازين القوة.

لقد اكتسبت إيران فيما مضى قوتها السياسية من موقعها الجغرافي، ومن الثروة النفطية التي تمتلكها، وقد جاء التحوّل الأخير ضمن تحولات دولية ملحوظة، لم يكن الاتفاق على هذا الملف بدايتها، فقد سبقته تحولات كونية، لعل أبرز ملامحها تطبيع العلاقات الأميركية مع كوبا الاشتراكية، ورفع الحصار عنها. وأيضاً تنفيذ الرئيس أوباما وُعوده بالانسحاب العسكري من أفغانستان والعراق. والأهم من ذلك كله في التصريحات هو تكرار الاعتراف من قبل عدد من المسئولين الأميركيين بأن الكون يتجه إلى عالم متعدد الأقطاب.

وفيما يتعلق بإيران، موضوع حديثنا، فإن أهميتها بالنسبة للغرب منذ نهاية الحرب الكونية الثانية واستعار الحرب الباردة تكمن في أنها الطريق الآمنة شرقاً إلى عموم آسيا، وقد منحها ذلك لقب «طريق الحرير».

إنها أيضاً النقطة العازلة بين الجليد الروسي، وما جرى التعارف عليه مجازا بالدب القطبي، وبين المياه الدافئة في الخليج العربي، حيث يوجد أضخم احتياطي للنفط فوق كوكبنا الأرضي. كما أن لها أهمية جيوسياسية، كونها من جهة، تقع في القلب من القوس المطوق للاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا الاتحادية حالياً، والمكون من باكستان وأفغانستان وإيران والعراق وتركيا. ومن جهة أخرى، فإنها تجاور من جهة الشرق، الوطن العربي بثقله التاريخي والسياسي والاقتصادي. وقد أكدت العقود السبعة الماضية تأثير ذلك في رسم السياسات الأميركية بالمنطقة، ابتداء من مشروع «آيزنهاور» لملء الفراغ، إلى حلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية التي انطلقت في مطالع الخمسينيات من القرن الماضي.

وكانت إيران طيلة حكم الشاه قطباً رئيساً من أقطاب التحالف الأميركي بالمنطقة، إضافةً إلى أنها من الدول الرئيسة المنتجة للنفط. ومنذ مطالع هذا القرن، أثبتت القيادة الإيرانية للأميركيين، أن بالإمكان الاعتماد عليها في الأزمات الكبرى، كالاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق. وفي كلا الاحتلالين، لعبت القوى الصديقة لإيران في البلدين دوراً أساسياً في إنجاح العمليات السياسية التي أعقبت الاحتلال. كما أن للتنسيق الإيراني المباشر مع الأميركيين دوراً كبيراً مساعداً في تسهيل عملية الاحتلال.

لقد ضعف دور إيران في حسابات صناع القرار الأميركي بعد قيام الثورة الإسلامية فيها. وقد تزامن ذلك مع التدخل العسكري السوفياتي في مطالع الثمانينيات، حيث غرق جيشه في ذلك المستنقع، وهيأ مستلزمات سقوطه وسقوط الجمهوريات التابعة والحليفة له في نهاية ذلك العقد.

ومنذ ذلك الحين، تربعت الإدارة الأميركية على عرش الهيمنة الدولية من غير منازع، وحسم الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في حينه الأمر، بعد حرب الخليج العام 1990، بأن القرن العشرين أمسى قرناً أميركياً، وأن أميركا مصممة على أن يكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً أيضاً.

لقد انتهت مرحلة الثنائية القطبية، وانتقل العالم إلى مرحلة القطب الأوحد. لكن شهر العسل الأميركي لم يستمر طويلاً؛ فالأسباب التي أدت إلى شيخوخة الاتحاد السوفياتي، كمُنت في سياسات أميركا أيضاً. لقد وسعت الإدارة الأميركية من حضورها العسكري، في عهد الرئيس بوش وكلينتون وبوش الثاني؛ ليعم هذا الحضور مجمل الكرة الأرضية. ودخلت في حروب كثيرة، في راوندا والصومال والبوسنة وبنما، وقامت باحتلال أفغانستان والعراق، ولم يكن لها بعد اكتمال حضورها سوى النقصان؛ فقد كان هذا التوسع على حساب اقتصادها، وبالضد من المصالح المباشرة لدافعي الضرائب. فكانت ترجمة ذلك انهيارات اقتصادية كبرى، بدأت بأزمة الرهن العقاري، متسببةً في أزمة اقتصادية عالمية، عمت أركان كوكبنا الأرضي.

أما غريمها السابق، الذي تحوّل إلى روسيا الاتحادية، فكان من حسن طالعه أن فترة سبوته لم تستمر طويلاً. لقد استيقظ الدب القطبي مجدداً بعد عقد من سقوط إمبراطوريته، وعادت روسيا الاتحادية مجدداً بقوة إلى المسرح الدولي، مؤكدةً حضورها القوي خلال ما عُرف بالربيع العربي. وتجسّد ذلك باستخدامها المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن الدولي.

وتم ذلك بالتزامن مع الصعود الكاسح للاقتصاد الصيني، وتشكيل منظومات دولية جديدة، اقتصادية وعسكرية مناوئة للسياسية الأميركية؛ كمنظومة «البريكس» و»شنهغاي». ومع هذه العودة، برزت مجدداً مناخات الحرب الباردة. ووفقاً للتصريحات الأميركية الأخيرة على لسان وزير الخارجية جون كيري، فإن روسيا الاتحادية تمثل حالياً أخطر تهديد حقيقي على أمن الولايات المتحدة.

جميع هذه العوامل، تمثل أسباباً وجيهة للقرار الأميركي بحل أزمة الملف النووي الإيراني؛ ولتتأكد مقولة رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل، أنه ليس هناك في العلاقات الدولية صداقات دائمة، وأن ما يحكم العلاقات بين الدول هي المصالح المشتركة.

هناك رغبة أميركية جامحة لإعادة الاعتبار للجغرافيا الإيرانية، بما يتطلبه ذلك من مدٍّ للجسور وتطبيع للعلاقات السياسية مع طهران. وكان حسم قضية الملف النووي الإيراني، هو أول خطوة نحو تحقيق علاقات طبيعية وجديدة بين أميركا والجمهورية الإسلامية، وهكذا جاء توقيع الاتفاق منسجماً مع سياق التحولات في العلاقات الدولية.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1017801.html