صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4781 | الجمعة 09 أكتوبر 2015م الموافق 19 رمضان 1445هـ

قرية المالكية... حيث ورش صهر النحاس الدلمونية

ناقشنا في الحلقة السابقة، وجود عدد من المستوطنات الدلمونية على امتداد الساحل الغربي للبحرين. ومن خلال توزيع القبور وكثافتها، يمكن الاستنتاج أن الكثافة السكانية على هذا الساحل تتركز في المنطقة الممتدة بين كرزكان والمالكية؛ حيث تزداد كثافة القبور في هذه المنطقة، وبالخصوص المنطقة الواقعة غرب كرزكان. وتشير نتائج التنقيبات إلى أن هذه المنطقة بدأ الاستيطان فيها منذ الحقب القديمة السابقة لحقبة دلمون، إلا أن الاستيطان ازداد كثافة، ووصل لأقصى درجاته، فيما بين 2050 - 1750 ق. م. والمرجح، أن هذه الكثافة السكانية لا بد وأن تقترن بزيادة النشاط التجاري في المنطقة؛ وبالتالي لابد أن الساحل الغربي لعب دوراً نشطاً في هذه التجارة وربما كان أحد مرافئ دلمون الرئيسية.

يذكر أن نتائج التنقيبات الآثارية أوضحت وجود أكثر من مرفأ رئيسي لدلمون، وربما يكون أهمها على الساحل الشمالي للبحرين، ما بين القلعة ومروزان، والذي خدم المدن الدلمونية التي نشأت في المنطقة الشمالية. ويضاف له ميناء آخر، كان يخدم مدينة سار الدلمونية، وما جاورها من مستوطنات أخرى، وقد رجحنا في سلسلة مقالات سابقة، حول فاران وجاراتها، أن هذا المرفأ كان ساحل فاران القديمة. أما فيما يخص مستوطنات الساحل الغربي، فقد دلت نتائج التنقيب الآثارية، في موقع الناصرية في قرية المالكية، على وجود مستوطنة دلمونية أساسية، وبها ورش لصهر النحاس، إضافة لمرفأ خاص كان يتبع لها. وهذا الميناء هو ساحل المالكية.

المستوطنة الدلمونية في المالكية

سبق الحديث عن وجود العديد من المستوطنات الدلمونية على طول الساحل الغربي للبحرين. هذا وقد تم العثور على آثار تدل على وجود تلك المستوطنات، وبالإضافة لذلك، تم اكتشاف مستوطنة دلمونية عن طريق الصدفة، وذلك في مزرعة الناصرية في قرية المالكية.

تقع مزرعة الناصرية في الجانب الجنوب غربي من قرية المالكية، وتبعد عن الساحل الغربي لجزيرة البحرين قرابة 200م. وفي العام 1986م، وبطريق الصدفة، تم اكتشاف موقع دلموني مهم في هذه المزرعة وذلك أثناء عملية حرث الأرض؛ حيث تم إكتشاف قطعاً من الفخار وسبائك من النحاس. وبعد معاينة الموقع ودراسته، اتضح أن الموقع يتكون من مستوطنة ومعامل لصهر النحاس، وأن الساحل المجاور لها يمثل مرفأ يخدم هذه المستوطنة، وربما بقية المستوطنات الأخرى المجاورة. للأسف، فإن التقارير الأولية حول الموقع لم يتم نشرها، وقد نشر صويلح، تقريراً مختصراً حول الموقع وذلك في كتابه «التسلسل الحضاري لمملكة البحرين» (صويلح 2009، ص 319 - 321).

وقد أوضحت نتائج التنقيب، التي قام بها فريق بحريني بقيادة عبد الكريم العرادي، عن اكتشاف أساسات لمجموعة من البيوت، تشكل في مجموعها معالم مستوطنة سكنية. كما عثر على كمية كبيرة من الكسر الفخارية مشابهة لتلك التي عثر عليها في المدينة الثانية بموقع قلعة البحرين، كما عثر على ختم دلموني من النوع المتأخر. ومن المرجح أن هذه المستوطنة تعود للحقبة 2000 - 1800 ق. م. (صويلح 2009، ص 319 - 320). كذلك، فقد عثرت بعثة التنقيب على آثار أخرى في الموقع تشير لوجود ورش لصهر النحاس تعود لنفس حقبة المستوطنة.

ورش صهر النحاس

عثرت بعثة التنقيب في موقع الناصرية على غرف صغيرة بها حفر. بعض تلك الحفر تم مسح جوانبها بالجص والرماد والرمل، وبعضها وضع بداخلها أوعية فخارية. كذلك، فقد لوحظ وجود قنوات أرضية ضيقة مرتبطة بالحفر. وقد رجح فريق التنقيب بأن هذه الغرف عبارة عن ورش استخدمت لصهر النحاس؛ حيث عثر على مجموعة من السبائك النحاسية على شكل نصف كرة بمحاذاة بعض الورش. كما عثر الفريق في المجسات الاختبارية على أعداد كبيرة من الحجارة الكروية الشكل وبأحجام مختلفة، ولا يستبعد أن تكون تلك الحجارة استخدمت كأوزان للنحاس (صويلح 2009، ص 319 - 320).

عملية صهر النحاس

إن عملية صهر النحاس، وتنقيته من الشوائب، تحتاج لدرجة حرارة عالية، ونار مستمرة في الاشتعال، ولكي نحصل على ذلك، يجب توفير مصدر يضخ الأكسجين للنار بصورة مستمرة. وقد تم توفير ذلك من خلال تصميم منفاخ خاص، عبارة عن وعاء فخاري تتم تغطيته بجلد، وفي أسفل الوعاء توجد فتحة تتصل بقناة ضيقة، وهذه القناة تتصل بأنبوب مصنوع من الطين، وبتحريك الغطاء الجلدي، يمر الهواء بصورة مستمرة للنار عبر الأنبوب، ومثل هذا المنفاخ، كان مستعملاً في مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط (Papadopoulos 1992)، (Davey 1979). أما في ما يخص مكان صهر النحاس نفسه، فهناك أكثر من طريقة له، ويمكن تحديد طريقة الصهر عن طريق تحليل شكل سبائك النحاس الناتجة من عملية الصهر. هذا وقد قام Hojlund بدراسة سبائك النحاس والتي وجدت على أشكال وأحجام مختلفة، أما وزنها فقد تراوح ما بين 0.4 - 2.45 كجم، وكان الشكل العام لها عبارة عن نصف كرة.

من خلال دراسة شكل السبائك النحاسية، تم الترجيح أن عملية صهر النحاس كانت تتم باستخدام بوتقة، وهي من الطرق التي كانت شائعة في مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط (Lombard 1999, p. 92). وفي هذه الطريقة، يتكون مكان صهر النحاس من حفرة تكون جوانبها ممسوحة بالجص والرماد والرمل، ولهذه الحفرة فتحة جانبية تتصل بالمنفاخ، والذي هو عبارة عن أنبوب من الطين متصل بقناة أرضية ضيقة، والقناة متصلة بوعاء فخاري له فتحة في أسفله، وتتم تغطية الوعاء بجلد (نموذج طريقة صهر النحاس، معروض في متحف موقع قلعة البحرين). أما عملية الصهر فتبدأ، بوضع النحاس الخام في البوتقة وتوضع البوتقة في الحفرة، ويتم غمر الحفرة بالفحم، وتشعل النار، ويتم ضخ الهواء لها عن طريق المنفاخ. ويترسب النحاس المصفى في أسف البوتقة، أما الشوائب فتكون في الطبقة العلوية.

مرفأ مستوطنة المالكية

إن العثور على مستوطنة تحتوي على ورش لصهر النحاس، يرجح أن هذه المستوطنة تعمل في استيراد النحاس الخام، سواء من حضارة وادي السند أو من حضارة مگن، ومن ثم يتم صهره وتنقيته من الشوائب، وبعدها يتم تصديره. إن صح هذا الترجيح، فإنه ولابد أن يكون هناك مرفأ قريب من هذه المستوطنة، وأفضل موقع لهذا المرفأ هو ساحل المالكية الذي يبعد قرابة 200م عن هذه المستوطنة. هذا، وقد كشفت نتائج عمليات التنقيب في هذا الساحل، عن وجود لبقايا لرصيف بحري مبني بحجارة بحرية، ويمتد على شكل لسان، من الساحل إلى أقرب نقطة من البحر العميق. كذلك، عثر على جانبي الرصيف، على العديد من الكسر الفخارية الدلمونية الشبيهة بتلك القطع التي تم اكتشافها في المستوطنة. وقد رجح فريق التنقيب بأن بقايا الرصيف البحري تعود لمرفأ استخدم من قبل أهالي المستوطنة كمنفذ بحري لاستيراد النحاس وتصديره مصنعاً أو على شكل سبائك. وأيضاً لاستيراد وتصدير مختلف البضائع التي يحتاج إليها سكانها (صويلح 2009، ص 320 - 321). يذكر أنه تم العثور على ورش شبيهة بهذه الورش الخاصة بصهر النحاس، وتعود لنفس الحقبة التاريخية، وذلك في موقع قلعة البحرين (Hojlund and Andersen 1994, p. 467).

الخلاصة

في الحقبة 2050 – 1750 ق. م. حدث توسع كبير في دولة دلمون، وقد تم إنشاء العديد من المستوطنات الدلمونية في البحرين، ولكل مجموعة مستوطنات مرفؤها الخاص. وقد تناولنا هنا إحدى مستوطنات الساحل الغربي للبحرين، وهي المستوطنة الدلمونية في المالكية، والتي تحتوي على ورش عمل لصهر النحاس، ولهذه المستوطنة مرفأ خاص بها. وعلى نفس الساحل، هناك مستوطنات دلمونية أخرى، عملت بمهن مختلفة، سوف نتطرق لها في الحلقات القادمة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1033866.html