صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4830 | الجمعة 27 نوفمبر 2015م الموافق 19 رمضان 1445هـ

سر القمر!

ما لونه بين البصيرة والبصر؟ ملامح ضوئية تبحر في سفر طويل، وجهه الدائري ورحلة اكتماله وفصول السحاب والوحدة وتفرده بدوار البحر والريح ولون الفضة في السواد.

بين مسار بحث طويل في أطراف مستنقع أفعى متخثر، توقف القمر، إذ رأى جزءاً في فراغات الماء من مكنونه الضوئي. ها قد وصلت، أخيراً، أستطيع أن أسدل الدقل وأنزل أشرعتي، علها تريني بقايا وجهي المليء بأحلام العشاق في زمن الأمنيات العالقة. تعبت من رغبتي في الاستقرار، تعبت وأنا أراقب الحب السابح في صحاري الأيام، وقد يكون هذا مطافي الأخير.

وبين تراكمات التعب ودهاء الأفعى وزينة مساعديها، وقع القمر. خطط هو وتخطط هي لتقتنص فريستها وتنتشي في حالة انتصار. ملكة الشوك... صيدها كان ثميناً، ستواريه بمكرها عن كل البشر. كيف وقع؟ انتصار السجّان لم يأت من قوته ولا من ضعفك، لكنه جاء صرخة للروح لأنك لا تعرف من أنت، ما قوتك وما ضعفك، ولذا أصبحت لقمة سائغة مهما علا شأنك، وأصبح داخلك معتقلاً لروحك. وهناك في خلد الروح تضاعفت العتمة وازدادت غربة جمعت خنوع السجين وسلطة السجان.

عبر السنين تشوه سطح مستنقع الأفعى أكثر فأكثر، وبقي القمر رهينة الأفعى بين أربطة الشوك والسلب والتعتيم. ذبل القمر وأعتم لونه فكلما تأملها باحثاً عن وجوده فيها، ازداد تشوهاً. أضحى ضعيفاً، وتحول استقراره إلى سبات. هل ينتظر رحمة من أفعى، مصابة بداء العظمة، نابية الأفكار مسممة الكلمات. تمادى الغمام وبدأ الضوء بلا بصيص. انتهكته الأفعى بصراخها، وسبابها، واتهاماتها، ورقابتها، وتوبيخها، وكل أساليب السجانين التي تزهو بها.

بدأ القمر في سفر البحث عن لحظة البحث نفسها. ليبقى السؤال هو الجواب، كيف أرجع لروحي التي أضعتها، وماذا سأجد بين صفحاتي القديمة؟ أين ذهب الأمل عن نفسي؟. هل تعيدني صحوة من سؤال ذكرياتي عن ماهية الذات السجينة؟. لما بدا هذا السؤال بعيداً في صداه، محدوداً في مداه؟ هل هذا كل شيء؟ وهل تبقى هذه دائرة انتمائي؟ ألا من طريق يأخذني لشيء مغاير؟

تضيق الدوائر وننتهي في هذا العالم المشوب قبل انقضاء فترة الحياة؟ ما سر خلقي وما جدوى وجودي؟ هل أنا حجر معلق، ينتهي دوري بهدوء أوفره لنذير الظلم والشؤم هذا؟ ولما يزعجها بحثي عن ذاتي؟ فتتهمني بانفلاتي وأنانيتي وبعدم تقديري لما أنا عليه من نعمة استقراري وبأن ما أحياه هو معجزة لم أكن حتى لأحلم بها؟ ما المعجزة في هذا؟ وما النعمة فيما أنا عليه؟

حالة كسوف تليها كسوف، باتت في موكب إنغماسها بجمالها وألوانها وانتصاراتها تلوذ إليها لتجمع مزيداً من شباك تجريده. هذه نقطة مسار أخيرة، فإما أن يبقى مسجوناً في بقايا ذاكرته المقسّمة، ويقنع بأن هذا الشحوب هو لونه، ثم يبلسم نفسه بالسم الراهن في شراكته مع الأفعى ويبقى في المستنقع ليقبل أن تختزل حياتها في ومضة وجهه في انعكاس ذيلها العظيم. هي تعرف أن كل ما عليها أن تفعله هو أن تبقيه معلقاً بسلاسل سجنه الداخلي. تعلقه حولها يعطيها قوة لتنمو. ضوؤه يصنع حياتها على مدار الفصول وما عليها إلا أن تنمو وتكبر وتنتعش، فتمضي للبحث عن خطط جديدة والحفر بين ثنايا المكر عن الجرذان والجيف مما تقتنص، وتتغذى لترمي لوثها من بقايا القاذورات تكثيفاً لغطاء يغمر ماء المستنقع.

حجب انعكاس ضوئه غاية تبرر البقاء، ومبرر البقاء حق لها تدافع عنه بكل السبل وتبقى مقتنعة أن أهم أهدافها هو ذاتها. فتتمتم وتجهر «أحبه كثيراً وكل ما أفعله بدافع الحب، مصلحته أن يظل معي، أنا أحق به، هو ملكي ولا حق لغيري أن يراه ولا حق له أن يرى بعين غيري».

في لحظة زهو، غفلت في إعجابها، غارقة في وهم السيطرة التامة، مرت نسمة هواء جديدة، أزاحت شيئاً من ركامات سطح البركة فلمح القمر ذلك الضوء، وراح يبحث عنه. ارتفع صوت نبضه، وبدا مترنحاً بين الخوف من السلام لمن عاش عمره في حروب، وبين يقين خفي حين تراءى له أنه يحتاج أكثر.

قدر قد يكون بداية أو نهاية. ذبذبات نبضه المشتاقة تلتحم بطيف يجمع رياح عاصفة. تولد تيار عاصف مر كما الإعصار، فنسف الوكر وفرق تشابك الطفيليات عن سطح المستنقع. أزاح القذارة جانباً وفتح بقعة نادت ضوء القمر. شعاع قوي، ارتباك بين صحوة وحلم. موجة من الشك في حضرة الخوف من الحقيقة، حقيقة الذات الرائعة المروعة. إدراك الجوهر المخبأ في رحلة العاصفة، دفع بين أزيز الصمت وومضة المفاجئة. أين تهرب؟ فتلك الريح اجتاحتك هنا. كي يكون لها معنى، استيقظ، اكسر قيدك فقد خلقت نورانياً، لا لأجلك، فحقك في تحقيق ذاتك هو حق الهدف من وجودك.

لا تقبل أقل مما تستحق، فهناك محيطات عظام أدركهم كي ترى كم أنت جميل! اقطع سلاسل الوهم هذه وتمرد، حطم الأكاذيب المنسوجة بخيوط السموم وجدار زيف الحب هذا، ففي لحظة ما وتحديداً عند حاجة الغريق للنفس الأخير، يولد التغيير. تحرر، فرحلة تجذب البحر والريح، تنتظرك، وينتظرها كل البشر.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1050427.html