صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4914 | الجمعة 19 فبراير 2016م الموافق 18 رمضان 1445هـ

تأسيس دولة دلمون: متى؟ وأين؟

يشمل مصطلح «الحضارة» أن تكون هناك «دولة» ذات حدود زمانية وحدود مكانية بالإضافة إلى امتلاكها مظاهر «حضارية»، هذه المظاهر في السابق كانت تقتصر أساساً على أدوات معينة، منها نوعية الفخار وشكل الأختام، وقد تطرقنا إلى ذلك في سلسلة حلقات سابقة.

والحضارة التي تمتلك حدوداً زمانية ومكانية ومظاهر ثقافية وحضارية خاصة بها هي حضارة ذات هوية معينة. وهوية الحضارة تنمو منذ بداية تأسيس الحضارة وتنضج معها، وتنتشر معها. والمرجح، أن حضارة دلمون بدأت في البحرين بعد العام 2500 ق. م، إلا أن بداية التحول إلى حضارة حقيقية بدأت قرابة 2200 ق.م وهو تاريخ ظهور الملكية في دلمون وبداية نشأة الطبقية الاجتماعية فيها. إلا أن هذه الترجيحات تتعارض مع نتائج دراسات ربما أهملت ولم يتم النقاش فيها.

يذكر، أن الدراسات الحديثة للنصوص التي عثر عليها في مناطق مختلفة من حضارة وادي الرافدين وفي حقب زمنية مختلفة، والتي تعود إلى حقبة جمدة نصر(أي الحقبة 3200 - 2500 ق.م)، قد أشارت إلى وجود العلامة الدالة على اسم دلمون في العديد من النقوشات. إلا أنه، وباتفاق العديد من الباحثين في حضارة دلمون، فإن النصوص العائدة إلى حقبة جمدة نصر لا تمت بصلة إلى البحرين بل ترتبط بأرض أخرى أقيمت عليها حضارة دلمون الأولى، يُرجح أنها كانت في شرق الجزيرة العربية (Hojlund 2007, p. 123).

يذكر، أنه من ضمن العديد من اللقى الآثارية التي عثر عليها منذ بدء عمليات التنقيب في البحرين، يوجد بعض اللقى الآثارية المهمة التي تعود إلى حقبة جمدة نصر، وهذه اللقى الآثارية تشير بوضوح إلى وجود استيطان في جزر البحرين منذ بداية ذكر اسم دلمون في حضارة وادي الرافدين قرابة العام 3200 ق. م. إلا أن هذه الكشوفات قد أهمل ذكرها وخصوصاً بعد منتصف الثمانينات. إن مثل هذه اللقى، إذا ما تمت دراستها مجدداً، ترسم تاريخاً جديداً لدلمون، بل إنها، ربما، ترجح أن حضارة دلمون بدأت في البحرين قرابة العام 3200 ق. م، على رغم أن الرواية الرسمية تحدد أن حضارة دلمون بدأت في البحرين قرابة العام 2300 ق. م. يذكر أن تلك اللقى الآثارية، التي تعود إلى حقبة جمدة نصر، عثر عليها في ثلاثة مواقع أساسية في البحرين، هي: موقع معابد باربار، وموقع الحجر، وشرق كرزكان (Mortensen 1986)، (Rice 1971, 1988)، (Laursen 2013)

دلمون في الحقبة 2500 ق. م. – 2300 ق. م

تعتبر هذه الفترة من الفترات الغامضة في تاريخ دلمون؛ فهي لا تعتبر من فترات تأسيس دولة دلمون، أي بداية تكون دلمون كحضارة لها هوية محددة، وكذلك، لا يتم تحديد، على وجه الدقة، أن اسم دلمون الوارد في النصوص التي عثر عليها في وادي الرافدين، والتي تنتمي إلى هذه الحقبة، يقصد بها البحرين أو شرق الجزيرة العربية. إلا أن بعض الدراسات، كدراسة Potts، تشير إلى أن المقصود باسم دلمون في النصوص التي تعود لنهاية هذه الحقبة (أي 2300 ق. م.) هو البحرين (وليس شرق الجزيرة العربية)؛ حيث يعتبر Potts نصوص لجش الاقتصادية التي تعود إلى عهدي لوكال لندا (نحو 2370 ق. م.) وأور كاجينا (قرابة 2355 ق. م)، وكذلك النصوص الأكدية، كنص سارجون الأكدي (2334 ق. م)، نصوصاً لها علاقة بدلمون التي قامت في البحرين (بوتس 2003 ج1 ص 176 و ص 298 – 300).

هذا، وقد أثبتت الدراسات التي قام بها Laursen على الفخار الذي عثر عليه في القبور الدلمونية المبكرة، أن هذه القبور ظهرت قرابة العام 2250 ق. م. (Laursen 2009, 2011).

الأختام وبداية تأسيس دلمون

تعتبر الأختام من أهم الدلائل الآثارية التي تؤكد وجود نشاط تجاري متقدم للحضارة التي ينتمي إليها الختم، وفي البحرين، يرجح العديد من الباحثين أن أول الأختام التي استعملت فيها، هي الأختام التي تسمى، في الغالب، «أختام الخليج العربي»، إلا أن البعض يسميها «أختام دلمون المبكرة» (Porada 1971), (Naeem 1992, p.269 - 277). وقد عثر على قرابة 108 أختام، تنتمي إلى هذه الأنواع من الأختام، وهي موزعة على ثلاث مناطق جغرافية، هي: البحرين (93 ختم)، وبلاد الرافدين وبالخصوص من موقع أور (12 ختماً), وشرق الجزيرة العربية (3 أختام) (Laursen 2010). وفي العام 2010م، قام Laursen بدراسة مدى تجانس هذه الأختام، وذلك بالاستعانة ببرنامج خاص تمت تغذيته بأبعاد هذه الأختام, أي قطر الختم، وارتفاع القرص، وارتفاع الحدبة، وغيرها. ثم أضاف Laursen معايير أخرى، وهي التوزيع الجغرافي، الحقبة الزمنية لظهور الختم، وجود نقوشات سندية من عدمه، وغيرها. ومن خلال هذه الدراسة رجح Laursen، أن هذه الأختام متجانسة وصنعت في مكان واحد، يرجح أنه في البحرين، وقد استخدمت هذه الأختام من قبل الدلمونيين الأوائل، وهذه الأختام، وإن تم اقتباس فكرة تصنيعها بهذا الشكل من ثقافة أخرى، لم تصنع في أية منطقة أخرى في الخليج العربي.

هذا، وتقسم هذه الأختام إلى قسمين: الأختام التي عليها نقوش سندية وهي تضم 7 أختام من البحرين وجميع أختام بلاد الرافدين، وهذه تتشابه في الشكل وقد صنفها Laursen في مجموعة واحدة، وأمكن تحديد حقبة زمنية تقريبية لها وهي 2100 – 2050 ق. م. أما المجموعة الثانية فتضم بقية الأختام التي ليست عليها نقوش سندية والتي أمكن تحديد حقبة زمنية تقريبية لها وهي 2050 ق. م. - 1923 ق. م.

كذلك، يمكن الترجيح، من خلال هذه النتائج، أن التجارة في دلمون بدأت قرابة العام 2100 ق. م، وبالتالي تحديد تاريخ تأسيس دلمون في البحرين بتاريخ قريب من هذا التاريخ سيبدو منطقيّاً. إلا أن التنقيبات الآثارية كشفت عن وجود أختام أخرى في البحرين تعود إلى حقب مبكرة، ولكن للأسف لم يتم تسليط الضوء عليها.

الأختام الدلمونية المهملة

في البحرين عثر على العديد من الأختام منها ما تم تسليط الضوء عليه، ومنها ما تم إهمال البحث حولها، هذه الأختام يجب إعادة تسليط الضوء عليها، وخصوصاً في ضوء نتائج التنقيبات الحديثة التي ترجح أن تاريخ نشأة دلمون في البحرين سابق للترجيحات المسلم بها حاليّاً. ففي موقع الحجر، وبالتحديد في التل رقم 1، والقبر رقم 1 في هذا التل، عثر فريق التنقيب فيه على ختم يشابه أختام فترة جمدة نصر التي تعود إلى الحقبة 3200 – 3000 ق. م. (Rice 1971, 1988). إلا أن هناك من الباحثين من يرى أن هذا الختم ربما جلب إلى البحرين من الجنوب الرافدي في فترة متأخرة، أي الحقبة الكشية، وتم قطعه وإعادة استعماله (بوتس 2003، ج1، هامش ص 142).

كذلك، وفي موقع الحجر أيضاً، وربما من التل ذاته رقم 1، تم العثور على ختم موشور (أي على شكل منشور ثلاثي)، عليه رموز سندية، وهذا الختم شبيه تماماً من حيث الشكل والحجم والرموز التي عليه بختم موشور آخر عثر عليه في عمان، ويعود تاريخه إلى الفترة 2200 – 2160 ق. م. (During-Caspers 1995). أضف إلى ذلك، أنه عثر على ما يدل على وجود ورشة عمل محلية في قلعة البحرين لتصنيع مثل هذه الأختام الموشورية (Kjaerum 1994). بالطبع هذه النتائج تثير العديد من التساؤلات، وخصوصاً حول بدء تأسيس دلمون، وبداية التجارة فيها.

الخلاصة، لا نعلم بالتحديد متى نشأت دولة دلمون في البحرين، ربما منذ حقبة جمدة نصر، وهذا موضوع يحتاج إلى إعادة البحث فيه. أما المرجح فإن دلمون بدأت في البحرين بعد العام 2500 ق. م. أما العلاقات التجارية، وبناء دولة دلمون، فيرجح أنها بدأت قرابة العام 2200 ق. م. وهو أيضاً التاريخ المرجح لبدء الملكية ونشأة الطبقية الاجتماعية في دلمون. إلا أن هناك العديد من التناقضات التي ذكرنا بعضها، ومن ضمن التناقضات أيضاً أن تاريخ بداية الملكية في دلمون يتعارض مع نصوص تؤكد وجود ملوك في دلمون قبل هذا التاريخ بفترة طويلة، وهو ما سنتطرق إليه في الحلقة المقبلة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1081551.html