صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4930 | الأحد 06 مارس 2016م الموافق 19 رمضان 1445هـ

في مقال نشرته «الدوحة» قبل 30 عاماً...

الأنصاري يتناول عقدة التفوُّق المشرقية...والعواصم تُضاعف حضورَ الأعلام

يُضطر بعض المثقفين والمفكِّرين الكبار إلى تضمين رؤاهم ما يمكن أن يُفهم منه على أنه خوض في التقسيمات والتصنيفات، وخصوصاً تلك التي تمسُّ الثقافة، ومحاولة فهم تلك الجفوة وطلب الاعتزال بخيار أو من دون خيار: بخيار في انشغال جزء من الشرق بنجومية أسمائه، وتواصله مع الضفة والجانب الآخر من العالم، ومن دون خيار، ذلك أن الجغرافية - أي جغرافية - لا تأخذ رأي أحد... رأي شاعر... كاتب... مفكِّر عن المكان الذي يريد أن يُولَد فيه. عن شرق أو مشرق المشرق كما أسماه المفكر العربي البحريني محمد جابر الأنصاري، في مقال نشره قبل 30 عاماً، وتحديداً في مارس/ آذار 1986، في مجلة «الدوحة» القطرية التي كانت في أوج حضورها، وقبل أن تغلق أبوابها في العام 1987، وحمل عنوان «من أجل تفاعل بلا عقد بين المشرق والمغرب»، وتناول فيه عبر مقاربته عقدة التفوُّق المشرقية تجاه الثقافة المغربية، مسلِّطاً الضوء على واقع معاناة شبه الجزيرة العربية والخليج من الإهمال الأكثر وضوحاً ذلك الذي طالها من المغرب، فيما هي «مشرق الشمس» كما أسماها.

يثير الأنصاري في مقاله قدرة وحقيقة عواصم ومدن في صناعة وتثبيت أسماء وأعلام، لم يكن يُقدَّر لها أن تحظى بكل تلك المكانة لو أنها استسلمت وانكفأت على تجاربها في «الأرياف» و «الأحياء» وعواصم الهامش. إنه يقول بعبارة أخرى، إن عواصم ومدناً عملت على مضاعفة الحضور والأهمية لعدد من الأسماء والأعلام في الثقافة العربية، ولم تفعل ذلك بالنسبة إلى الذين اعتزلوا ريفهم وأحياءهم، وعواصمهم المنسيَّة؛ أو قُدِّر لهم أن يكونوا في ذلك الجزء من الجغرافية؛ على رغم أهميتهم الكبرى في مسار الثقافة والأدب العربيين.

كان ذلك قبل أن يشهد العالم كل هذه التحوُّلات المُتسارعة في مجال الاتصال المعرفي، والثورات المعرفية، والمنصَّات والوسائط؛ لذا يُقرأ المقال في سياقه الزمني؛ إذ لا تصلح تلك المقاربة اليوم بالتغيُّرات التي طرأت على موضوعات التنمية والاقتصاد الحر وفتح الأسواق، والقدرة على الانتشار والحضور في جهات العالم الأربع، وليس جهات المشرق والمغرب العربي فحسب، وبقاء «الريف الثقافي» حاضراً وإن بدرجة أقل من حيث عمق المدلول؛ إذ لم تَعُد مسألة العواصم التقليدية في الثقافة تلك بذلك الوهج إلا من حيث دلالاتها الرمزية، بتحوُّل بعض الدول المُهمَلة سابقاً إلى الواجهة بالدور الذي قامت به، وبالموارد التي توافرت لها، ليس بالضرورة على مستوى التأليف والنشر، ولكن من حيث درجة التأثير في حركية الثقافة العربية عموماً.

المقاربة التي قدَّمها الأنصاري، تنطلق من وجهة نظر كاتب ينتمي إلى المنطقة المُهمَلة، يُخرج المسألة من طابع المواجهة الحدِّية، مُعلِّلاً ذلك في كون «الإخوة في المغرب العربي ينصبُّ عتَبهم، أكثر ما ينصبُّ، على لا مبالاة أشقائهم في المشرق المركزي الأوسط، أي في مصر وبلاد الشام - بمعناها التاريخي - وربما العراق».

المنطلق هو موضوع الإغفال الذي تعرَّض له هذا الجزء من الجغرافية العربية، وهو إغفال إما بدواعي الانشغال بمزيد من تراكم ما تحقق من بنية فكرية وثقافية، من دون الحديث عن مسألة التهجين، والنقل، وفي بعض الأحيان المطابقة لما لدى الآخر، وإما لأن القارَّ من تلك النظرة لن يتجاوز الصفح عن الانشغال بالجزء المعني، وخصوصاً في فترة ما قبل تدفق النفط، والأثر الذي أحدثه فيما بعد في إيلاء الثقافة والفكر دوراً بغضِّ النظر عن جدِّيته ومركزيته في العملية التنموية عموماً. تلك مقدمة لابد منها لاستعراض وتقديم مقاربة الأنصاري.

رائحة النفط فيما بعد

ولعل رؤية مطابقة لما ذهبت إليه هذه الكتابة نجده في مقال الأنصاري بإشارته إلى أنه «في منطقة الجزيرة والخليج العربي، لنا عتَبنا أيضاً على أشقائنا مثقفي المشرق الأوسط، وخاصة في بيروت والقاهرة، فنحن هنا أيضاً - في مشرق المشرق! بقيت ثقافتنا وأدبنا وأدباؤنا وأمور بلادنا عموماً في حكم الإغفال، أو عدم الإلمام على الأقل لدى أكثر الأوساط الثقافية البيروتية والقاهرية المنشغلة بنفسها وبأضوائها وبنجومها وبتوجُّهاتها الأوروبية وسفراتها الغربية، وبتأنُّقها العصري، ومسْلكها المتفرنج شبه الأرستقراطي... وذلك منذ بدايات هذا القرن حتى الستينات عندما أصبح بترول الجزيرة والخليج له رائحة تُحرِّك قرائح أهل الأدب والصحافة والإعلام... إلخ»!

في البلاد التي يشير إليها الأنصاري، ثمة داخل فيها تم إهماله بتركُّز الإشعاع والتنوير في المدن الكبرى، ولم تكن القاهرة وبيروت باعتبارهما أهم عاصمتين للتأليف والنشر، بمنأى عن إغفال مساحات كبرى في داخلها. وإذ يتناول الأنصاري تلك الإشكالية/ الحقيقة كان مُحدَّداً في المقاربة التي قدَّمها في مقال «الدوحة»، ولم يتورَّط في حال من التعميم الذي كثيراً ما يأتي كردّ فعل لحالات نكران أكثر منه إهمالاً في مواضع شتى؛ إذ كتب في هذا الشأن «الحديث ينصبُّ هنا على عواصم التأليف والنشر وليس على تلك البلاد كلها لأن أطرافها الريفية وجهاتها القروية ظلت تشكو هي ذاتها كما نشكو نحن ويشكو أهل المغرب - نقول هذا لا يقلل من جهد الرواد من أدباء بيروت والقاهرة الذين اهتموا بمناطقنا العربية في مشرق ومغرب، بدافع عروبتهم وإسلامهم وحبهم لحقيقة البحث والعلم، عندما كانت الأهمية الوحيدة لمناطقنا كونها جزءاً من وطن العرب الكبير لا أكثر».

وفي تناوله لـ «عقدة التفوُّق المشرقية»، يوجِّه الأنصاري خطابه إلى مثقفي المغرب - وقتها - كي يروا أن تلك العقدة نفسها يعاني منها مشرق المشرق وأصل المشرق التاريخي «مثلما عانوا منها هُم»؛ الأمر الذي يتطلَّب إعادة صوغ مصطلح المشكلة بتعبير آخر غير «عقدة التفوُّق المشرقية ضد الثقافة المغربية»، والذي رأى فيه «مجرد تبسيط مكاني وجغرافي، ومن وجهة واحدة فقط، لمشكلة أكبر ومن نوع آخر وطبيعة مغايرة».

الريف الثقافي/ الرقابة

في الربع الأول من القرن العشرين وما تلاه، ظل جزء كبير من العالم العربي بمثابة ريف ثقافي؛ بمعنى أن ما يصله لا يتعدَّى قشر وسطح ما يمكن أن يتغلغل ويترسَّخ في عاصمتين كبريين: القاهرة وبيروت، وذلك هو ما يفتتح به الأنصاري ذلك المصطلح، حيث يضعها في إطارها المباشر والكلِّي الصريح كما يقول. ضمن تلكما العاصمتين، وعلى مستوى الأفراد، تظلان هما المنفذ لمن يطلب حضوراً وتكريساً وأضواء - قلَّت أو كثُرت - وهذا ما يدفعنا إلى الوقوف على جانب من تلك المقاربة بقوله: «من استطاع الوصول إلى أحد المركزين من أدباء الريف المغربي أو المشرقي، أو من أدباء الريف المصري والريف اللبناني الشامي ذاتهما، تمكَّن من التعريف بنفسه، ونشر إنتاجه، وتطوير مستواه الثقافي أيضاً، ومن لم يستطع - لظروف العزلة أو الاستعمار أو التخلُّف أو الفقر أو القمع - فإنه يبقى في الظل والعتمة، أو في دائرة ضيِّقة جداً من الضوء في بلده - إلى أن يصاب بالإعياء، فيلجأ إلى الصمت، أو ينتهي بما هو أسوأ من الصمت».

ويقف الأنصاري في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين على واقع الحصار والرقابة والمراقبة التي طالت الجزيرة العربية وإمارات الخليج وقتها، بمنع وصول مصادر الإشعاع والتنوير إلى محيطها، على الأقل ضمن تطلع وشغف وتحرك فردي ضمن مجموعات من المثقفين وقتها، قد ينضوون تحت مجموعة أو تشكُّل؛ لكنه ليس ضمن التوجُّه العام لسكَّان المنطقة أو حتى الأنظمة التي ينتمون إليها.

هنا يستند الأنصاري إلى المؤرخ الأدبي البحريني مبارك الخاطر؛ إذ يورد في المقالة موضوع المراجعة والاستعراض أن «صحف القاهرة ما كان ممكناً أن تصل إلى موانئ الخليج في العشرينات والثلاثينات، إلا إذا مرَّت عن طريق حكومة الهند الشرقية البريطانية في ميناء بومبي الهندي، ونالت الموافقة - (حتى مجلة العروة الوثقى للأفغاني ومحمد عبده كان يجب أن تسافر برَّاً وبحراً من باريس إلى بومبي قبل أن تصل البحرين والكويت ودبي والشارقة)».

زيارة بمباركة المُعتمَد البريطاني

في ظل حصار سهر عليه الاستعمار في منطقة تم احتواؤها ولا خيار لها، وبالضرورة في ظل تخلُّف يراد له أن يتأبَّد ويُقيم، يمكن لكل تلك الحقائق والوقائع أن تكون في الاعتبار لدى مثقفي العواصم العربية المشرقية الكبرى، في استقبالهم لهذا العتَب - وقتها - ففي ظل ذلك انجذاب كليّ لما تمخّض عنه الغرب من أضواء، والسعي إلى أن ينال بعض المثقفين حصتهم من تلك الأضواء. كان الاستعمار وقتها يعمل عمله كي يطفئ كل منفذ وجهة تنوير، بإحكامه الحصار، وحرصه على أن يكون التخلف ناجزاً وحاضراً في كل مظهر من مظاهر الحياة التي يتحكَّم بها.

في هذا الصدد يشير الأنصاري إلى أنه «كان يستحيل على أي أديب أو صحافي عربي زيارة بلد في المشرق أو المغرب بلا مباركة المُعتمَد البريطاني؛ أو المُفوَّض الفرنسي هنا وهناك».

استثناء ناله المؤرخ والرحالة اللبناني/ الأميركي أمين الريحاني في زيارته الشهيرة إلى الجزيرة العربية التي أنجز من خلالها كتابه «ملوك العرب»، لم يُغيِّر من واقع الأمر شيئاً في تعامل الأقوياء في ذلك الوقت مع المثقفين. ففي الوقت الذي يُشترط حصول المثقف على تأشيرة دخول إلى أي قطْر عربي ينتمي إليه تأخذ سلسلة من الإجراءات، توافرت للريحاني بحكم تابعيته الأميركية فرص لم تُتَح لسواه.

عن المفارقة تلك يكتب الأنصاري «ربما كان مجيء أمين الريحاني إلى الجزيرة والخليج في الثلاثينات استثناء عربياً لذلك، غير أن هذه الرحلة والمعلومات التي نتجت عنها، ما كانت ممكنة، لولا أن استعان الريحاني بأصدقاء أميركيين وبريطانيين كثيرين، وكان يحمل جواز سفر أميركياً».

وفي الاستشهادات العابرة، يعمِّق الأنصاري تناوله لموضوع «الريف الثقافي»، من دون أن يحصره في بلد دون آخر، في قناعة بأنه حالة عامة وقائمة من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، على رغم وجود عاصمتين ثقافيتين: القاهرة وبيروت، وفي التابعية من حيث الأثر والثقل: دمشق وبغداد «وحتى أدباء هاتين المدينتين ما كان مُتيسَّراً لهم نيْل الشهرة الكاملة في العالم العربي، والحصول على (التعميد) أو الاعتراف الثقافي الأكيد إلا بعد وصولهم واستقرارهم في القاهرة وبيروت».

العواصم وصناعة الرموز

بعواصم أربع، تتحدَّد صناعة الرموز والحضور، وامتداد ذلك الحضور تبعاً لأهمية ومركزية كل عاصمة وحاضرة عربية، وبعيداً عن حاضنتها يصبح من العسير على أي علَم من الأعلام أن يتوافر على حضور عميق واعتماد يمتدّ إلى مناهج التعليم، مورداً في هذا الصدد أسماء وأعلاماً في الثقافة العربية لم تحظَ بحضور لائق بمكانتها وموهبتها بسبب أنها في الأطراف من تلك المدن، على رغم أهميتها «لو أن الشاعرين العراقيين الزهاوي والرصافي قد عاشا في ذلك الوقت بصفة دائمة في القاهرة أو بيروت لكانت لهما شهرة أعظم مما تيسَّر لهما، فالاثنان لا يقلان شاعرية عن حافظ إبراهيم إن لم يتجاوزاه عمقاً وقوة؛ لكن حافظاً وجد في أضواء القاهرة معيناً كبيراً لشاعريته على امتداد العالم العربي». على رغم أن الزهاوي والرصافي أقرب إلى جغرافية الخليج من حيث اعتمادهما وحضورهما من حافظ وغيره.

وعلينا هنا أن نتذكَّر الكاتب الحضرمي علي أحمد باكثير، الذي لولا تنقلاته العديدة، واستقراره في القاهرة التي تحصَّل على جنسيتها ما كان له أن يحظى بجزء مما حظي به من حضور وانتشار في العالم العربي، لو ظل منغلقاً على مكانه وبيئته في مدينة سيئون بحضرموْت.

أسماء كبيرة مثل جبران خليل جبران وميخائيل نُعَيْمة وأمين الريحاني، ساهمت مركزية العواصم في تثبيت حضورهم وامتدادهم واعتمادهم في المراكز والأطراف، والريف الثقافي على مستوييه الداخلي والخارجي.

والشاعر السوري نزار قباني ليس بعيداً عن ذلك الاستشهاد والمقاربة التي يتناولها الأنصاري والذي يرى أننا لا نبالغ «إذا افترضنا أن الشاعر الشهير نزار قباني ما كانت ستُحقق له هذه الشهرة الذائعة الواسعة في العالم العربي من مشرق ومغرب، لو لم يغادر حيَّه الدمشقي العتيق، ويأتِ إلى بيروت، ويُقم بها، ويفتح دار نشر تحمل اسمه فيها (...)».

ولم يكن شاعر البحرين الكبير إبراهيم العريِّض بمنأى عن تلك المقارنات، وذلك الدفق من التساؤلات التي نثرها الأنصاري في مقاله «ثم ألا تعتقدون معي أن إبراهيم العريِّض، شاعر البحرين الكبير، لو كان شاعراً قاهرياً أو بيروتياً، مولداً أو إقامة، لنال من الشهرة العريضة والسريعة في عالمنا العربي ما ناله قبله حافظ إبراهيم أو خليل مطران أو محمود حسن إسماعيل».

البُعْد الثاني من الصورة

بكل ما ورَدَ من المُقاربة التي تم استعراضها، يقدِّم الأنصاري البعد الثاني من الصورة/ المقاربة التي حددها في أن نتاجات شرقية في أصل المشرق «ظلَّت بعيدة عن دائرة الضوء»، بل وأبعد من ذلك بالتجرؤ على عرضها المُخلِّ والمبتسر «لأنها تقع - مثلما وقعت ثقافتكم ونتاجاتكم المغربية - في طرف من الصورة، في جانب قصيٍّ معزول عنها حينئذ». كل ذلك لا يمكن فصله عن سوسيولوجية الثقافة العربية الحديثة.

في محصِّلة كل ذلك، علينا أن نعي بتواضع شئنا أو أبينا، كما يقول الأنصاري، إن «ثقافتنا العربية الحديثة، حتى في مراكزها المتقدمة المركزية الوسيطة، لم تصل بعد إلى مستوى الثقافة العالمية العلمية التي تتصف بالإحاطة والشمول والدقة في تغطية المساحات الجغرافية المختلفة».

جزء من تلك المقاربة التي كُتبت قبل 30 عاماً ستجد نفسها اليوم غير فاعلة في كثير من تطرّقاتها، بحكم المتغيرات. ذلك يطرح سؤال الرؤية النافذة التي لا تتعامل مع القائم باعتباره ثابتاً، ومع المُتحول باعتباره سمة. إنه الذهاب بأدوات استجلاء وفهم خارج سياق الزمن أيضاً لفهم وامتصاص الصدمات التي قد تُباغت في أي وقت!


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1087418.html