صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5042 | الأحد 26 يونيو 2016م الموافق 18 رمضان 1445هـ

الشيخ أحمد بن سعود السيابي

الكاتب: محمد عبدالله محمد - Mohd.Abdulla@alwasatnews.com

قبل فترة حَظيت بلقاءٍ «ثَرِي» مع قامة من قامات التاريخ والشريعة. إنه الشيخ أحمد بن سعود السيابي، أمين عام مكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشئون الدينية بسلطنة عُمان الشقيقة. تكرَّم الرجل فَمَنَحني ساعة ونصف من وقته. وقد كان ذلك الزمن بحق يُساوي حزمة من الكتب، كونك تنهَل من فيضٍ إجابات كلما وجَّهْتَ لها راحة السؤال تبلَّلت بدراية غزيرة فَغَار الظمأ وحل الارتواء.

أهم ما لفتني في سعادة الشيخ السيابي (بعد تواضعه الجم وخلقه الرفيع ونقاء سريرته) أنه حائز أهم ثلاثة أمور: التاريخ السياسي والجغرافي للمنطقة منذ العصور الغابرة حتى المتأخرة، ثم علوم الشريعة عقيدة وأصولاً وفقهاً وسيرة، وأخيراً قدرته على ربط كل تلك الأشياء ليقدِّم لك صورة واضحة لتساؤلاتك، ببيان ولغة علمية متماسكة، يرفدها قوة الاستحضار ودقة الاستشهاد. وقد ساعدني ذلك كثيراً في أن أسبر الكثير من غور ما أكتبه في هذه الفترة.

تحدث عن التاريخ وعن الصراعات التي جرت في هذه المنطقة خلال العصور الماضية. وقد كان الشيخ محيطاً بتفاصيل الأحداث والقوى الفاعلة فيها من دول ومجتمعات وقبائل وأفراد، حتى ليتراءى لك أنك تشاهد مقطعاً زمنيّاً متحركاً. كما جرى الحديث عن الأديان والمذاهب وما أجمل أن تتحدث مع عُماني في هذا المجال. فهو غير مسكون بشيء اسمه «التبشير المذهبي» لذلك لا تستطيع إلاّ أن تُكبِرهم عليه. وقد تكشَّف لي أن هذا الأمر ليس أمراً طارئاً بل هو متجذِّر فيهم.

وهنا، من المهم أن أذكر حادثة هنا تؤكد ذلك،، وهي أنه وفي العام 1995، وخلال زيارة وفد برئاسة المُفتي العام لسلطنة عُمان سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، لحضور افتتاح مسجد في زنجبار حيث الجزيرة الخضراء هناك، جاء نائب الرئيس التنزاني (آنذاك) عمر علي جمعة، فقال شهادةً في كلمته أثناء الافتتاح «إن العمانيين حَكَمونا على مدى قرون (312 عاماً)، ولو أرادوا أن يُحوِّلونا عن مذاهبنا إلى مذهبهم الإباضي لاستطاعوا؛ كونهم حكاماً، لكنهم لم يفعلوا، بل وزادوا على ذلك، بأن بنوا لنا المساجد ووقفوا لها الأوقاف.

لذلك كانت مدرسة العمانيين الدينية ومازالت حتى اليوم تتَّسم بأنها سياسة عَرْض وحسب، لا تبشير فيها ولا تضليل للآخر ولا تكفير ولا تخطئة له، وإلاّ لَكَانت قطاعات واسعة من سكان كينيا وتنزانيا وأوغندا وجيبوتي وإريتيريا وإثيوبيا والصومال ومدغشقر ومالاوي وجزر القمر وموريشوس وأطراف من إيران وباكستان والخليج تدين بمذهبهم عندما سيطرت دولة اليعاربة على الشرق والغرب وهي في أوج قوتها التي قَهَرَت حتى البرتغاليين أعتى القوى آنذلك، لكنَّ ذلك لم يحصل.

ولِمَن رامَ الإنصاف فإن المدرسة الدينية العُمانية وعند التعمُّق فيها سيرى أنها مدرسة «توفيقية» بين كل هذه المذاهب الإسلامية، فتراها حالة وسطية. فهم يأخذون في مصادرهم الأصلية بالكتاب والسُّنَّة، في الوقت الذي يأخذون بالإجماع ولهم فيه تفصيل، إذْ ومن باب التجوّز يرون الإجماع القولي فيه لا الإجماع السكوتي كحجة قطعية، ويأخذون بالعقل بِجَمعه مع النص، لا إهمال ولا تقديس له، فالنص يحكم والعقل يفهم. كما يأخذون بالاستصحاب والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، لذلك فهم يجمعون بين أهل الرأي وأهل الحديث مع مَيْلولة «خفيفة» نحو أهل الرأي.

وربما كان اعتماد المدرسة الدينية العُمانية منذ القِدَم على مبدأ «الانتخاب الشورَوِي» قد أعطاها فسحة من التحرُّر؛ كي لا تقع في متاهة الموقف من الأفراد بقدر ما هو الموقف من القضية أساسها، لذلك وعلى سبيل المثال كان منهجهم في قبول الحديث «إذا لم يُعارض القرآن الكريم فهو مقبول، وإن عارض القرآن رواه مَنْ رواه» فكان تركيزهم على المَتْن وليس على السَّنَد.

وفي جانب آخر من الصورة التاريخية العُمانية فإن الحقيقة تأخذ بنا إلى الإقرار بأن عُمان تمتلك جزءًا أساسيّاً من تاريخ هذه المنطقة من العالم، منذ أن عمَّرها العرب البائدة وَوُلِّيَ عليها عُمان بن قحطان، والتي باتت تُنسَب إليه، كما نُسِبَت مناطق أخرى بأسماء أفراد حلُّو فيها كإشبيل بن عيص، وسام بن نوح، ويمن بن قحطان بن هود، ويثرب بن عبيد بن مهلائيل وغيرهم.

بل يُمكن أن يُشار هنا إلى أن العرب العُمانيين كانوا قد شكَّلوا أول حكم مَلَكِي عربي موحَّد بالمفهوم السياسي خلال تاريخ العرب في تلك الفترة حتى ظهور الإسلام (إلى مَلِكَيْ عُمان جيْفَر وعبدُ ابنَيْ الجُلَنْدى)، عندما كانت جوارها مُقسَّمة إلى أقيال (حسب وصف الشيخ السيابي) تحكمها دويلات صغيرة هنا وهناك، فضلاً عن أن عروبتها كانت دافعاً نحو الصراع بينها وبين الأجنبي على هوية المنطقة ومحاولة ضبط النفوذ معه.

وفي مرحلة مّا، كانت عُمان تتصل من جزيرة سقطرى ولغاية مناطق متقدمة من الخليج العربي. ثم وخلال حقب تالية تمدَّدت أكثر حين وصلت إلى شرق إفريقيا وحتى جوادر في جنوب شرق آسيا. لذلك، تشكِّل محتويات الوثائق العمانية صورة واضحة للمنطقة في غير عصر، نظراً إلى ما كانت عليه الصورة السيا / دينية في لحظة ما من التاريخ. وهو مشهد أساس لقياس تاريخنا وفهمه.

في خاتمة الحديث أقول إنه ربما شاءت الأقدار وتناظرت الأشياء بأن تحتضن عُمان أرض التاريخ والدِّين عقولاً بِسِعَة ذلك تاريخها وعمقها الديني، كما في حالة الشيخ أحمد السيابي وكوكبة من العلماء والمؤرخين في ذلك البلد الطيب.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1131276.html