صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5059 | الأربعاء 13 يوليو 2016م الموافق 19 رمضان 1445هـ

لم أرَ إنساناً مثله!

الكاتب: محمد عبدالله محمد - Mohd.Abdulla@alwasatnews.com

في قطعة قماش صغيرة، لُفَّت جثة نحيفة لرجل قصير القامة. وعلى رغم لحية مسترسلة نَبَتَتْ على ذقنه وخَدَّيْه، إلاّ أن ندوب الحياة طَبَعَت قسوتها عليه، دون أن يُرَى أيّ أثر لحياة كحياة أبناء الذوات، بل حتى كعَيْشِ كفاية. وربما الحال الوحيد الذي لم يُعهَد أن يُرَى فيه دونه، هو قبعته الشعبية، التي كان يعتمر بها طوال يومه عندما كان على قيد الحياة. لقد شاهد المراقبون خلف الجثة المسجَّاة عشرات الآلاف من الناس الذين أدوا صلاة الميت عليه في مدينة كراتشي.

ومن بين مَنْ أدوا الصلاة عليه، الرئيس الباكستاني ممنون حسين، وقائد الجيش الجنرال راحيل شريف، ورئيس مجلس الشيوخ الباكستاني رضا رباني، ورئيس الحكومة لإقليم السند قائم علي شاه، ورئيس القوات الجوية المارشال سهيل أمان، ورئيس القوات البحرية الأدميرال ذكا الله، ومحافظ إقليم السند عشرت العباد خان، ورئيس الحكومة لإقليم البنجاب محمد شهباز شريف! تُرَى هذه الجنازة الرسمية أقيمت لِمَن؟ وهذا التمثيل الرسمي من أعلى قمة الهرم وهذه الحشود جاءت لِمَن؟!

إنهم جاؤوا جميعاً لتوديع رجل كهل (92 عاماً) اسمه عبدالستار إدهي أو كما يُسمَّى في باكستان بـ «القدِّيس الحي»، وهو فعلاً كذلك. فقد كان إدهي أهم وأشهر رجال الأعمال الخيرية في بلاده. لقد أسّس 330 مركز طوارئ طبيا في باكستان تعمل على مدار الساعة، ومعها 1500 سيارة و3 طائرات إسعاف، ومعاهد لتدريب الممرضات وبنوك للدم ومستشفيَيْن للدرن والسرطان، ومراكز أمومة وتنظيم الأسرة، ودُوْر للمعاقين والأطفال المشردين وحديثي الولادة المنبوذين؛ بسبب إعاقة ذهنية أو جسدية أو بُغْض اجتماعي وهو يقول: «لا تقتلوا طفلاً بريئاً، اتركوه لنا». كان أباً للأيتام حين ألجأهم إليه، وجاورهم بمدارس ابتدائية وثانوية ليتعلموا. وأسكَن النساء المعتدى على شرفهن في بيوت خاصة محمية ساترة، وجعل المدمنين يتعافَوْن من أدوائهم، وكلها خدمات مجانية.

وهنا يجدر بنا أن نشير إلى شهرة الرجل لم تتأتَّ من هذه الأعمال الخيرية فقط، بل من طبيعة شخصيته وحياته المتقشفة والزاهدة جداً، على رغم استطاعته العيش متنعماً في الأحمرَيْن والأخضريْن والأصفريْن والنقديْن والأصبغيْن والأفضليْن والنسيميْن، وكل مظاهر الثروة. لقد كان إدهي يقضي يومه بلباسه المتواضع بين الفقراء يُلقِمهم ويضمّهم، ويمسح على رؤوس الأيتام والمشرَّدين، ويعود المرضى. لم يكن يتحدث للناس عن الزهد والتقوى ونصرة الضعيف ثم يركب سيارة فارهة، أو يتشح برداء الأثرياء، على رغم أنه كان قادراً على فعل ذلك، لكنه لم يفعل، بل هو لم يُورِّث شيئاً لعائلته! نعم ولا أيّ شيء، لا عقار ولا منزل ولا سيارة ولا نقود.

لقد وهب كل ما يملك إلى الفقراء والمعدمين والمسنّين والمنبوذين والمعنفات. حتى جسده أوصى بأن يتم التبرع بأعضائه بعد وفاته، لكن هذه الأمنية لم تتحقق له، بعد أن أصِيْبَ بداء الفشل الكلوي، ما أدى إلى انهيار وظائف كافة أعضائه وتهالكها، وهو ما حال دون أن يتم التبرع بها.

وعندما أصيبَ بداء الفشل الكلوي قبل 3 أعوام، كان قادراً على العلاج في أرقى المستشفيات في العالم. وقد عرضت عليه الحكومة الباكستانية أنها ستنقله في موكب جوي مُجلل كي يتعالج في الخارج لكنه رفض وقال: «أرغب في العلاج بمستشفى عام في بلدي»! كان يُريد أن يبعث برسالة للجميع: المسئولين والتجار ورجال الدين والمثقفين بأنه ليس أفضل من أقلّ فقير في بلاده، فليس من العدل أن نبني للناس خدمات صحية متواضعة ثم نذهب للعلاج المتقدم في الخارج.

وللعلم فإن إدهي لم ينخرط في هذه الأعمال الخيرية في نهايات عمره، وبعد أن استشعر الموت فأراد تبييض صحيفة أعماله، بل هو دخلها منذ أن كان شاباً، هاجراً تجارة أبيه في الأقمشة، التي كانت ستمنحه العيش الرغيد.

كان الرجل أممياً بحق. لقد وصلت مساعداته إلى جارتيه أفغانستان وإيران وإلى بنغلاديش وسيرلانكا وإندونيسيا ولبنان (خلال عدوان إسرائيل عليه سنة 2006م) وكرواتيا، بل وحتى للولايات المتحدة الأميركية. لم يقل بأن في أفغانستان بشتون أو هزارة أو طاجيك. ولم يقل بأن في إيران ولبنان شيعة، أو في بنغلاديش أحناف، أو في سيرلانكا بوذيين وهندوس، أو في إندونيسيا شوافع وصوفية، أو في كرواتيا والولايات المتحدة مسيحيين. كان رجلاً عظيماً، لذلك سمّاه رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف بأنه «خادم عظيم للإنسانية» وأصبحت جنازته واحدة من أكبر الجنازات في تاريخ باكستان.

اليوم، والرجل عند مَلِيْكٍ مقتدر، نذكره بفعله. هذا الفِعْل الذي لم تكن لتوفيه حقه جائزة نوبل التي رُشِّحَ لها فأعرَضَ القائمون عليها عن اسمه، فهي أصغر من مكانته، أما جائزته الحقيقية فهي عمله الناصع ومحبة مئات الملايين له في باكستان وفي وجنوب شرق وغرب آسيا بل وفي العالم كله. فمثل عبدالستار قليلون بل آحاد، إن لم يكن لا صنو مماثلا له. وكما قال أحد مريديه ومَنْ عاش لصيقاً به: «لم أر إنساناً مثله».


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1137184.html