صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5122 | الأربعاء 14 سبتمبر 2016م الموافق 18 رمضان 1445هـ

سورية ومنـطق الصراع الإقليمي والدولي... هل كان بالإمكان تفادي هذه الأزمة الوجودية؟

الكاتب: منبر الحرية - comments@alwasatnews.com

يعتبر الشعبُ السوري حالياً أكثر شعوب الأرض التي تكتب وتغرد عن وطنها الأم، وتنشد له الأناشيد، وتذرف عليه الدموع الحارّة، وتتغنى بطبيعته وجغرافيته وحضارته وأصالته التاريخية وطيبة شعبه وعراقته. نعم، الآن وليس الأمس، وكأن مواطن هذا البلد قد بدأ للتو بالتعرف على وطنه كوطن نهائي لجميع أبنائه، وكقيمة وحضارة وأصالة إنسانية، وكتاريخ حضاري عريق ممتد زمنياً إلى ما يربو على 6000 سنة خلتْ.

لكن عن أي وطن نتحدث ويتحدثون بحسرة (وأيضاً) بأمل يمتزج مع الألم؟. عن وطن الواقع والحقيقة، وطن الحضارات والأبجدية والتعايش السلمي والانفتاح الواقعي، أم عن أوطان الخيال والحلم ورومانسية الفكر الأيديولوجي.. وطن الأرض أم وطن الفكر والمثال، أم أن لكل واحد منهم وطنه الخاص به.

الوطن الذي كنّا -مثل كثيرين- نجهل كثيراً من تفاصيله الوطنية الجغرافية والفكرية والتعددية الحضارية التي كان من المفترض أن نكون قد تعلمناها عملياً منذ الصغر، لا أن نبدأ التعرف عليها بعد أن اشتعلت النيران والحروب والصراعات الداخلية والخارجية. الوطن الذي ندعو له بالقيامة الوجودية والعودة للحضور والفاعلية، من رماد الأحزان والدمار والضياع!

ولكن عن أية فاعلية أو حضور نتحدث ونتأمل ونرتجي، حضور الذات الجريحة أو المقتولة أو اللاجئة، في ظل استمرارية مطرقة الموت والعنف المستديم، وحالة انعدام أية آفاق لحلول سياسية سلمية ما نزال نأمل أن تكون بعيدة عن عقلية القوة، وسلوكيات العنف الأعمى والإرهاب الدموي الفظيع المتفجّر جهادياً، والتي لا تبني حكماً أو سلطة حقيقية متوازنة وعاقلة مستديمة، ولا تقيم دولة صالحة للحضور العقلاني والإنساني كدولة مؤسسات وقانون وعدل وإنسانية وكرامة.

في العمق الفكري، مشروع الخلاص السياسي واضح وصريح لدى الجميع، والخطاب الفكري السياسي العقلاني المستند إلى هوية وطنية سورية أصيلة، قائم وموجود.. العقبة الوحيدة على طريق البدء بالحل تكمن فقط في انعدام إرادة الفاعلين الرئيسيين -من الدول الكبرى والمحاور الإقليمية المعنية بالصراع- على الالتزام بملف الحل السياسي وأجندته الواضحة، والعمل الجدي لإنهاء هذه الأزمة والمقتلة السورية المستمرة منذ خمس سنوات.

نعم هذا الشعب الأبي، الذي كنا نكتب ونغرّد له بأنه هو منطلق التغيير، وهو قاعدته، وأنه لا تطور حقيقي لهذا الشعب من دون تنمية حقيقية يشارك فيها هو بوعيه وإرادته، ويستفيد منها على صعيده الشخصي والفردي والمجتمعي والمؤسساتي.. وأنه لا تنمية فعالة ستتحرك بين مختلف جوانبه من دون بناء قدرات ومهارات «الفرد-المواطن» السوري الحر الآمن الكريم، وأنه لا بناء فعال ومنتج للفرد أولاً والبلد ثانياً بلا توعية وتربية ناسه على قيم الخير والحق والجمال، وتنظيم حياتهم وتربيتهم على المبادئ الوطنية العليا، وبث روح العمل والمبادأة والمبادرة والثقة فيهم جميعاً بلا أدلجة حزبية ولا هوية تاريخية (أو حتى عصرية) مغلقة.

طبعاً كل هذه التغريدات والدعوات والنداءات والالتماسات والآمال والتمنيات وو..إلخ، بقيت وتبقى مجرد دعوات واستغاثات أخلاقية قيمية في أودية مصالح الدول لا قرار لها، وفي ظل عوالم السياسة الوضعية والعقلية الميكيافيلية والنفعية الذرائعية التي يلتزمها أطراف الصراع ومن يدعمهم من الخلف. فالكلمة الأعلى في عوالم السياسة، تبقى لقوى الميدان، لمنطق الغلبة والقوة، القوة الباطشة كقانون ومعيار ثابت يراد فرضه على أي حلٍ سياسي مرتجى قادم، على الأقل في حسابات مراكز القوى المادية.

والواقع المعقد الآن، بات يتطلب الاعتراف بحقائق الأمور على الأرض كما هي، (بلا مواربة، وبلا تجميل)، ودراسة نقاط الضعف، ومواطن الاهتراء، وتشخيص المرض على حقيقته دونما تلاعب ولا تذاكي أو تشاطر، باعتبار أن هذا هو أول نقطة على سطر الحل، أو بداية الطريق نحو العلاج الصحيح والتعافي من الداء الداخلي قبل الخارجي المعروف والمحدد. داء ومرض السياسة الخاصّة، وحرمان المجتمع من الانفتاح الواعي والمسئول، من فرصة تطوره الطبيعي، والاختيار الحقيقي الصحيح، في حين كان يجري استبعاده عن ساحة الفعل والحضور المجتمعي المنتج بكل أبعادها العمومية، ومعاملته كإنسان لم يبلغ سن الرشد بعد.

وفي ظل هذا الاستعصاء، وهذا الاستقطاب، والتهديدات الدولية المدانة والمرفوضة بعمليات عسكرية موضعية أو شاملة، وتعقيد وضع البلد أكثر مما هو عليه الآن. نسأل بشكل عام ولا نخصّص في الموضوع السوري فقط، (فالمنطقة برمتها لها نفس التشخيص المرضي، وتعاني من نفس الداء والمرض العضال، وإن بدرجات متفاوتة كماً ونوعاً): هل من الممكن -بعد كل هذا الدمار والخراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي والنفسي الداخلي- أن نفكر ونعيد التأكيد ونحلم مجدداً بوجود إمكانية ما داخلية لانبثاق الحالة المدنية العربية الحقيقية (النابعة من قناعات الناس بها، وغير المفروضة بالقوة والضغط عليهم) في واقع الدولة والمؤسسات التي هي ملك كل الناس بكافة أطيافهم وقومياتهم وإثنياتهم واختلافاتهم الدينية وغير الدينية.

في الواقع، حتى نضمن تحقيق ذلك، مع أنه لا ضمانات جدية في عملية التغيير المجتمعي العربي الحافلة بالتناقضات الأولية والثانوية، لابد من إبراز أهمية الخطاب الديني العقلاني المعتدل، وعدم التركيز فقط على موضوعة التطرف والإرهاب الإسلامي، دون النظر إلى جوهر ولب الصراع القائم حالياً، المتسبب بالأزمة منذ لحظات تفجرها الأولى.. والمنطلق أساساً من تجذّر حالة ومناخ الفرض وعقلية الهيمنة والتسلط وليل الاستبداد الطويل.

وهذا الفكر والخطاب الديني المعتدل، المطلوب العمل على تحويله لحالة عامة عقلانية رشيدة، ما يزال حبيس الكتب والنظريات المجرّدة. أي أنه ما يزال غائباً أو مغيباً في هذه المرحلة من مراحل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي عن ساحة الفعل الحضاري.

إن مجتمعاتنا المتدينة عموماً، لن تشارك بقوة وفعالية في عملية البناء السياسي والتنمية الإنسانية والإنتاج الحقيقي من دون محرضات ومحفزات من داخل بنيتها الفكرية والمفاهيمية ونسيجها التاريخي الحاضر دائماً في وعيها أو لا وعيها. وهذه المحفزات الكامنة في النصوص والبنية الاعتقادية جاءت في عصور تاريخية قديمة، وكثير منها لم يعد صالحاً للحياة والعصر، مما يعني أنه لابد من جسر الهوة بين الاعتقاد القديم والسلوك المعاصر من خلال التجديد والنقد والتكيف والانسجام مع الحال المعاصرة، كي لا يعيش الفرد حالة التناقض بين ما يؤمن ويفكر، وبين ما يعمل في حياته.

وعندما نقول بأنه من الممكن البدء بالتجديد وتفسير وتأويل نصوص و«معرفيات» الدين الإسلامي (التاريخية الثابتة) كحالة أو كإمكانية عقلانية وتنويرية ومدنية في فكره وسبيله وتوجّهه العمومي (القائم على حفظ النفس والإنسان ورعايته كخليفة لله على الأرض، مطلوب منه العمل والإنتاج والإبداع والنهوض والتكامل النفسي والمعرفي والسلوكي)؛ عندما نقول بهذا كله، فنحن نستند أساساً على مقولات ورؤى نظرية ومفاهيمية ونصوص دينية نهائية تعتبر أن الحرية هي قيمة القيم، وهي خيار الناس وحقهم الأساسي الجوهري في الاقتناع والرفض في الإيمان والكفر، وهذا من أهم حالات الاختيار الذاتي الفردي: «فمن شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر»، «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء»؛ «الناس أدرى بشؤون دنياهم» …إلخ.

بهذا التفسير أو التأويل، يمكن البدء، ليس للإحتيال على قناعات الناس، بل لإفهامها حقائقها الفكرية على ضوء مستجدات وتحولات العصر وتغيرات الحياة.

إن قرننا الحالي هو قرن الوعي والاختيار، قرن الشعوب الحرة الكريمة، وليس قرن الإقصاء والتهميش والأنظمة، قرن الشعوب التواقة للخلاص من أمراضها والفرار من العقل الأيديولوجي المغلق إلى رحاب السياسة والحرية.

وهذه الشعوب الرافضة لأدلجة السياسة، وتديينها بالمعنى الحزبي الضيق، هي نفسها سترسم معالم المراحل المقبلة بتكاليف باهظة للأسف.. فالزمان الآن هو زمان الاحترام الكامل للحياة البشرية الفردية إلى حدود غير مسبوقة في التاريخ القديم والمعاصر. وهو أمر متمّم لما وصل إليه الإنسان من تفوق علمي وتقني وتنموي اقتصادي مالئ للوجود وشاغل للحياة، انطلاقاً من توفير مناخ سياسي يقوم على قاعدة الديمقراطية، ودولة المواطنة المدنية، كأساس لأي تطور وتقدم وازدهار حقيقي مستقبلي منتظر ومأمول.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1159137.html