صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5219 | الثلثاء 20 ديسمبر 2016م الموافق 19 رمضان 1445هـ

قصة قصيرة... النّادل الذي باع يده

سبعون عاماً وهو يخدم الزبائن بيد واحدة؛ ما يعني تلقائياً بلا كثيرِ تفكير بأن يده الأخرى مخبأة بالشكل اللازم المتفق عليه وراء ظهره. في الأول ("الأول" دائماً معرف بـ "الـ" لأنه يأتي ناضجاً كما سيارة امرأة ذهبية (قصدت المرأة لا السيّارة) متوقّفة في الأتوستراد لأن رغبة شاقّة في البكاء داهمتها بالضبط في لحظة تقاطع أغنيتي جاز وسوول من مذياع سيارتها)، في الأول كان شابّ العظام والهيئة والخاطر ولا شيء كان يمكن أن يعكّر صفو طقسه حتّى شتيمة فاحشة من مالك المقهى. كان في الحقيقة يُرى وهو يلتقط الشّتيمة في الهواء من يدها في اللحظة المناسبة حيث كانت ستسقط على البلاط المبلّل بماء الصحون المُندلق من المغسلة الهائجة للمقهى. يمسكها من كلتا يديها ويجعل من نفسه بهلواناً من ثاني أكسيد الشّفقة والسلوان الحارّ من أجلها، ماسحاً بمئزره دمعتين مٌتحمّلتي الحرارة من عينيها المخدّرتين ويخبرها بأن ثمن البنّ آخذ في الارتفاع على عكس ثمن الموسيقى والدّليل أن الألحان الفاخرة لا توجد في محلات الأقراص المضغوطة بل في قبو بصنبور معطوب ينخر أرضيته، وفي خرير الماء القليل الذي يحاول أن ينفذ من بلاعة ماء حمام جدّةٍ يتساقط شعرها البرتقالي بكثرة ويسدّ البلاّعة (يمكن أن تكون بلاّعة الماء في الحمام كناية غير موفّقة عن بلاّعة الألم في الحياة). تتخيّل هي الشّعر البرتقالي وتتذكّر تلقائياً لون لثّة مالك المقهى وتكره فجأة حكمة الموسيقى، ثم تهجُره.

الآن، لم يعد شاباً وظهره تقوّس بحنان لن نحبّه، وصار يبكي في المغسلة عندما يشتمه ابن مالك المقهى (المالك مات)، يبكي كشقوق نافذة مغلقة غسلتها ربّة بيت ثم فتحتها في اليوم الموالي. يبكي وأحياناً يستحم في نفس المغسلة بعد أن يغلق البلاعة ويصفّ كؤوس القهوة على صدره ليلعب بها لعبةَ السيّارات السّريعة الناضجة على أساس أن صدره ورجلاه شوارع مهذّبة لسياراته.

انشغل باللعب ولم يزعجه أحد، بقية الندل غادروا المقهى بعد نهاية الدّوام إلى دوام آخر، وهو لم يكن يملك إلا سبعة أحفاد سامين لا يجدر أن يكون لهم جدّ نادل، وبينما هو كذلك، انتبه إلى يده التي خلف ظهره، حاول أن يرجعها إلى الأمام لكن بلا جدوى، عنّفها وصفعها لتُطيعه ولكنها بقيت هناك في الوراء كما اعتادت على طول حبل سبعين عاماً.

نشّف جسده وفتح البلاّعة ومسح الآثار لئلا يكتشف ابن مالك المقهى أنه يبيت فيه، وبسهولة قطع يده بسكين نظيفة ثم التقط لها صورة ووضعها على موقع ناجح على الانترنت متخصص في "بيع وشراء المُستعملات". فعل ذلك بلطف كبير تجاه نفسه بعد سبعين عاماً من الجفاء، ثم جلس إلى نفسه في الطاولة الرابعة وشرب شيئاً (نَعَم شيئاً) على حسابه.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1192303.html