صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5241 | الأربعاء 11 يناير 2017م الموافق 19 رمضان 1445هـ

التربية والتعليم والتلاعب بالعقول

الكاتب: يوسف مكي (كاتب بحريني) - comments@alwasatnews.com

كانت التربية فيما مضى، أيام اليونان والرومان، وكذلك أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، كما في أوروبا العصور الوسطى، تقوم على علاقة بين معلم ومتعلم، أو متلقٍ وما بينهما كتاب. مع الاهتمام بالدرجة الأولى بالكتاب أو مادة الكتاب، بينما يتم التعامل مع المتعلم وبغض النظر عن سنه وكأنه يستوعب ما يقال له. فالمتعلم الطفل يعامل باعتباره رجلا يستوعب كل ما يتم شرحه من قبل المعلم، ولا يؤبه لسنه وقدراته الاستيعابية ولا لنفسيته وميوله او قدراته. فالمهم في التعليم والتربية هو المادة وليس التلميذ، المهم مايقال وليس لمن يقال.

وسارت التربية على هذا المنوال لعدة قرون، حتى مجيء التربية الحديثة التي أعطت المتعلم/ التلميذ الدور الأساسي في عملية التعليم، وأصبح المتعلم العنصر المهم في عناصر العملية التربوية في المدارس. كما بات الاهتمام بالتلميذ يحتل أولوية في تأليف المناهج، وفي سياسات التربية والتعليم في كل البلدان تقريبا.

أما هذا الاهتمام بالتلميذ بدلا من الكتاب، فله أسباب كثيرة من بينها تنمية مواهب وقدرات التلاميذ؛ لكي يصبحوا قادرين في مرحلة النضج على الدخول إلى معركة الحياة، وهم مؤهلون بالعلم والمعرفة الكافيين، والاستفادة من إمكاناتهم المعرفية والعلمية والمهنية في بناء مجتمعاتهم، وقد أصبحوا رجالا يعتمد عليهم. هذا ما هو معلن على الأقل في كل النظم التربوية والتعليمية.

ولكن هناك سبب غير معلن وجوهري وراء الاهتمام بالمتعلم، وهو الذي يقف وراء العملية التربوية برمتها. ألا وهو السبب الأيديولوجي. فالتربية والتعليم والروضة والمدرسة والمعهد والجامعة هي إحدى تجلياته، ووفقا لبيير بوردو عالم الاجتماع الفرنسي تعتبر المدرسة والجامعة وغيرها من المؤسسات التعليمية من بين الأجهزة الأيديولوجية للدولة الحديثة. وبالتالي لابد من السيطرة عليها بإحكام، والاهتمام بأهم عنصر فيها وفقا لهذه الرؤية وهو التلميذ، بهدف صوغه وهندسته عقليا ووجدانيا ونفسيا وحتى جسديا بما يتلاءم والأنظمة السياسية والاجتماعية بحسب البلدان.

إذاً التربية الحديثة، وفي القلب منها المتعلم، ليست مسألة معرفية أو تربوية حيادية أو بريئة، أبداً؛ بل هي عملية مدروسة ومخططة بدقة وهي سياسية المحتوى، وفي الغالب خفية تحمل في طياتها ما يعرف بالمنهج الخفي في التعليم، أو تطويع العقول والنفوس وهو المقصود أساسا، وليس شيئا آخر.

والاهتمام بالتلميذ في التربية الحديثة، يتخذ بدوره أشكالا ومضامين مختلفة، وذلك بحسب أيديولوجيا البلدان، ومصالح القوى الاجتماعية المهيمنة فيها. فتارة يتم الاهتمام بالتلميذ من حيث قدراته العقلية، من باب تصنيف التلاميذ من حيث مستويات الذكاء، كالمتفوقين وغير المتفوقين، والأذكياء وغير الأذكياء، والموهوبين وغير الموهوبين مثلا، أو التصنيف بحسب الميول والاهتمامات. وتارة -وهذا هو الأهم- تأليف وصوغ وتقديم ما يتم تدريسه من قبيل الكتاب وغير الكتاب من وسائل تعليمية بطريقة يتم تزويد التلاميذ بها ومن ثم صناعتهم وصوغ عقولهم ونفسياتهم بما تراه السلطة السياسية، وبما يخدم مصالحها البعيدة قبل القريبة؛ ولكن بصورة غير مباشرة وعبر الزمن وبطريقة ناعمة عبر وسائط لا تثير أي ضوضاء ولا يترتب عليها أي تساؤل. وسائط أي أيديولوجية لا يتم التفكير فيها عادة، أو تكون ما تحت الوعي ليس فقط للمتعلمين بل حتى للمجتمع.

فمحتوى المنهج في مختلف المجالات المعرفية لا يقدم للطلبة بصورة علمية خالصة، ولا تقدم حقائق العلم بصورة مطلقة؛ بل بانتقاء حذر واختيار الحقائق بما يتناسب وأيديولوجيا النظام، بحيث تشكل تلك الحقائق عنصرا فاعلا ومفيدا ضمن النسق الأيديولوجي العام، ولا تمثل تهديدا لها -أيديولوجيا- ولا تقع خارج رؤيته للعالم بأي شكل من الأشكال.

وربما يتجلى ذلك الاختيار للحقائق العلمية أكثر ما يتجلى في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم الاجتماع والآداب، والانثروبولوجيا والعلوم الدينية، وحتى في مجال اللغة، كما يتجلى في اختيار المفاهيم والمصطلحات والمعارف وحتى التعابير المناسبة واستبعاد غير المناسبة. ذلك أن العلوم الاجتماعية والإنسانية لكونها مرتبطة ومعنية بشئون المجتمع مباشرة، وبخلاف العلوم البحتة؛ فإن السلطة المعنية بالتربية والتعليم تقوم بعملية اختيار، وتقنين دقيق ومناسب لهذه العلوم، من خلال تثبيت ما تراه مناسبا لها في هذه العلوم وما هو غير مناسب، وبالتالي ما يجب على التلاميذ دراسته وما لا يجب، وقد تم اختياره وغربلته وفلترته بعناية فائقة؛ أي تقديم التربية والتعليم من وجهة نظر القائمين عليها، وليس من وجهة نظر المعلمين أو الطلبة / المتعلمين.

ومما سبق، فليس غريبا أن يتم الاهتمام بعنصر التلميذ في التعليم في الأزمنة الحديثة، ولكنه اهتمام مقصود لشيء ليس له علاقة بذوات التلاميذ، بل بذوات المعنيين بصوغ سياسات التعليم. أو بالأصح الاهتمام بالتلاميذ بهدف السيطرة غير المباشرة على عقولهم ونفوسهم وتوجهاتهم المستقبلية عبر وسائل سيطرة ناعمة لكنها خطرة جدا.

هنا تمارس التربية دور المتلاعب بالعقول، دون أن يبدو في الظاهر أنها تتلاعب بعقول الطلبة؛ بل تظهر بأنها تؤهلهم وتزودهم بالمعارف والعلوم لتهيئهم إلى حياة المستقبل ضمن عملية طويلة ومعقدة وملتبسة، يساهم فيها الكثير من الأطراف، مثل المعلم، ومؤلفي الكتب الدراسية، والاختصاصيين والمسئولين عن التربية، ومَنْ فوقَهم ومَنْ تحتَهم بالإضافة إلى القوانين الناظمة للعملية التربوية في مختلف مراحلها، والثقافة المجتمعية العامة.

من هنا تأتي أهمية المؤسسة التعليمية منذ المراحل الأولى حتى التعليم العالي، كمؤسسة من مؤسسات الدولة الخطيرة، والتي لابد من إحكام السيطرة عليها عبر الاهتمام بالتلاعب الخفي بعقول النشء / الطلاب بأسلوب ناعم وغير عنيف، وعبر مرحلة زمنية طويلة نسبيا، حتى يتم التطبيع والتطويع عقليا ونفسيا وروحيا لأهداف واستراتيجيات السياسة التعليمية العليا في هذا البلد أو ذاك.

نخلص إلى القول أن التحول الذي جرى في أنظمة التعليم من طبيعة المادة المدروسة إلى التلميذ في التعليم الحديث ليس هدفه التلميذ بذاته ولذاته، إنما بهدف تأطيره وفق رؤية محددة وشاملة بما يخدم مصالح الجهات المعنية بشئون التربية والتعليم، وبما يخدم أيديولوجيا النظام السياسي هنا أو هناك. إذاً المهم في التربية الحديثة هو التلميذ، ولكن ليس لذاته بل لأسباب تقع خارجه ولمصلحة غير مصلحته. وهنا الخطورة. فهي التربية، لاشك في انها تعطي جموع المتعلمين شيئا وتؤهلهم بشكل أو بآخر، وتخلق لهم فرص حياة أفضل مما لو كانوا غير متعلمين، لكنها في المقابل تسلبهم أشياء كثيرة مثل الشخصية المستقلة، والتفكير النقدي والعقلية الشكوكية، والقدرة على تحليل الواقع، وفي أحيان كثيرة تضللهم بأمور الواقع بدلا من تنويرهم، وتتلاعب بعقولهم باسم العلم وتعميم وتقديم المعارف. تربية وتعليم تقدم في كل مكان باسم الانسان ومن أجل الانسان، لكنها من حيث الجوهر تضلله وتكبله في كل مكان.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1199956.html