صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5313 | الجمعة 24 مارس 2017م الموافق 19 رمضان 1445هـ

دافنبورت: الحركات التحرُّرية قادرة على الحياة حين تتنبأ بالقمع الذي ستواجهه

رصْد وتتبُّع انهيار الحركات الاجتماعية، والتي هي في شكل من أشكالها، وفي منحى من مناحيها، شكل من أشكال تحصين مجموعات، تنتمي إلى فكر واحد، أو امتداد واحد، تتعرض في فترة من فترات وجودها إلى استهداف مباشر، يحتاج هو الآخر إلى آليات وأدوات تعمل على تحييد المؤرخ والراصد؛ وخصوصاً إذا كان ينتمي إلى المجموعة العرقية نفسها، كما حصل مع أستاذ العلوم السياسية الأميركي كريستيان دافنبورت في كتابه «كيف تموت الحركات الاجتماعية... القمع وإلغاء تعبئة جمهورية إفريقيا الجديدة»، الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج في ديسمبر/كانون الأول 2014، والذي بذل جهداً في النأي بقراءته وبحثه في حركة ديترويت، عن الاصطفاف والعاطفة التي كثيراً ما تنزع دسم الصرامة في البحوث الاجتماعية التي تتناول الحركات الاجتماعية والسياسية، تلك التي تُعنى بالانفصال في بيئة تكاد تكون من الصعب والمحال على أي منها النجاح، ليس باعتبارها أقلية فحسب، بل باعتبار أن آليات تحجيمها وإضعافها متوافرة وبكفاءة عالية.

يخبرنا دافنبورت بأن الحركات الاجتماعية؛ والتحررية منها، هي أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة إذا استطاعت التنبؤ بدقة بأنواع القمع الذي ستواجهه ومستوياته؛ وبدوره، أي التقييم؛ يتيح لها إعداد نفسها من خلال العمل على تطوير خطط للطوارئ؛ وتكتيكات لمواجهة الحركات المضادة لها.

في تعدُّد مفردات اللغة ترد كلمة تخمد وتموت ضمن المترادفات في اللغة الإنجليزية نقلاً إلى العربية؛ ولأن الحركات التحررية الاجتماعية تمر في كثير من الأحيان بطور الخمود، ونادراً ما تموت، وكثيراً ما تحمل أسباب انهيارها واضمحلالها ومن ثم موتها؛ ربما كانت معالجة العنوان مستقرة ضمن «تخمد» لا «تموت»، لكن بحسب الأطروحة والمعالجة والتحليل ومحاولة اكتشاف الحركات الاجتماعية من الداخل؛ أكثر من التعاطي معها كحالة عامة وعابرة وتطفو على السطح؛ يكون عنوان كتاب دافنبورت؛ هو الأدق في توافر أسباب موتها بشكل ذاتي وآلي، ولأن الحركات؛ والمعنية هنا استكمالاً للعنوان بالضرورة: «الحركات التحررية الاجتماعية»؛ تمر بطور الخمود لا الموت في كثير منها؛ بحكم الفارق بين الخمود والموت حتى على مستوى الدلالة العابرة؛ تشهد كثير من الحركات تلك تراجعاً وانكفاء؛ وقد يمتد ذلك الانكفاء لسنوات؛ ولكنها تعيد تشكيل وتكوين نفسها وطاقاتها وكوادرها وحتى مواردها، بخروجها من ذلك الانكفاء؛ متى ما وفرت هي أسباب ذلك.

في معالجة دافنبورت، يبدو الأمر منسجماً مع العنوان في حرْفيته؛ واستدعاء معناه المباشر، لأن ما كانت تعرف بجمهورية إفريقيا الجديدة، وما يتضح من بداياتها والأطوار التي مرّت بها، والنهايات التي وصلت إليها، كان الموت لتلك الحركة مناسباً ومنطقياً باضمحلالها وتلاشيها الكلي، على مستوى التنظيم الحركي وما يتطلّبه، وضمن فترة زمنية ممعنة في القمع والتمييز والعنصرية لم تعد قائمة اليوم في صورتها الوقحة والصريحة، والمقنّنة.

يخلص دافنبورت إلى أن القمع الذي مارسته الدولة الأميركية ضد حركة ديترويت المطالبة بالانفصال، ساهم مساهمة كبيرة في تفكُّكها، ومن ثم اضمحلالها وتلاشيها.

الحركة التي حلمت بالجمهورية

صدر كتاب دافنبورت في ديسمبر/كانون الأول 2014، عن مطبعة جامعة كامبريدج ويتناول فيه تسريح الحركات وفضّها؛ أو إلغاء تعبئتها، ويتتبّع فيه، من خلال التحليل العميق الناحيتين النظرية والمفاهيمية - الثرية بالمعلومات ولادة وموت جمهورية إفريقيا الجديدة؛ وترد (أحيانا «أفريكا»)، متمثلة في الحركة القومية السوداء؛ التي انطلقت من ديترويت الأميركية في أواخر ستينات القرن الماضي؛ ولم تك هي الحركة اليتيمة التي يبدو أنها ماتت وذهبت طي النسيان. أميركا شهدت العام 2013 مطالبة 15 ولاية أميركية بالانفصال عن الوطن الأم؛ وتم الترتيب لجمع تواقيع وصلت في بعض الولايات إلى عشرات الآلاف من التواقيع؛ ولم يقتصر الوضع هذه المرة على السود بل امتد ليشمل مطالبات لمواطني تكساس؛ وبعض الولايات التي يشكّل فيها اللاتين نسبة كبيرة؛ على رغم الظروف المختلفة كلياً عن مطالبات ستينات القرن الماضي؛ وإن كانت المطالبة التي أطلّت برأسها في ذلك الوقت جاءت بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية؛ ووصول بعض الولايات إلى حافة الانهيار والإفلاس؛ في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي ضربت أميركا في العام 2008، وانهيار عدد من المؤسسات المالية والصناعية الكبرى، ولم تكن ديترويت منذ العام 2014 وحتى اليوم في معزل عمّا آلت إليه الأمور.

مستويات القمع

يضيء دافنبورت في قراءته الكيفية التي بلغها القمع ومستوياته؛ ذلك الذي تولت الإشراف على مسئوليته ورعايته الدولة، في مواجهة حركة الاحتجاج في ديترويت؛ وديناميات الحركة الداخلية، والفاعليات التي حدثت في سبيل مواجهتها؛ ببروز شكل من أشكال الاتحاد والتراص من أجل تحقيق هدف زوال الحركة وإنهائها.

تأسّست جمهورية إفريقيا الجديدة (ضمن طموح لعنوان أوّلي للحركة التحررية الاحتجاجية في ديترويت؛ وصولاً بها إلى واقع قائم)؛ لتحقيق أربعة أهداف أساسية وضعت في الاعتبار: الحكم الذاتي الإقليمي في الولايات الجنوبية، والتعويضات عن فترة مُظلمة وقاهرة في زمن العبودية؛ وهيكل حكم منفصل عن الدولة التي يُراد لها أن تكون أماً بالقسر والقهر؛ والمشاركة الديمقراطية من قبل الأميركيين من أصل إفريقي في المسائل والقضايا السياسية داخل الأراضي المحررة تلك.

اعتمدت الحركة على تيار الأفكار السائد، والأساليب اللاعنفية، تلك التي تأسست عبر مراحل؛ من بينها مطالبة المسلمين بالانفصال بعيداً من العنف؛ من مالكولم إكس؛ وصولاً إلى دعوات لاعنفية توجّت ببروز نجم لوثر كنغ؛ ولكنها من جانب آخر لم تنجُ من نقيض ذلك؛ إذ عزّزت التشدّد وأنتجت ضمن الحراك جناحاً مسلحاً كان يرى العنف هو الخيار المنطقي والأسرع. بغض النظر عن أي تدخل خارجي، كان من المرجّح أن تكون «جمهورية إفريقيا الجديدة» في طريقها إلى الانحلال والتفكّك بسبب عدم التوافق بين أهدافها الطموحة وقدراتها المحدودة. ومع ذلك، ما تمكّن دافنبورت من إثباته هو الطريقة في تفاقم القمع الذي رعته الدولة؛ والذي ساهم بصورة جلية في ضعف الحركة؛ وتبيان الأسباب الكامنة وراء حلِّها؛ بتبنّيها الجناح المسلّح.

الزوال الذاتي

ضمن أدبيات وافرة ومتسعة تناولت معارضة ومناهضة القمع؛ تظهر وشائج وعلاقات تشير إلى أنه يمكن للدول أن تقتل الحركات. ولكن الحركات الاجتماعية (التحررية) نفسها يمكنها أيضاً أن تتراجع وضمن مجموعة متنوعة في تلك البنية والتشكيل؛ باتخاذها طرقاً وأساليب تسهم في زوالها، من خلال فشلها في عدم الحفاظ على المشاركة المتوائمة والمنسجمة، والاقتتال الداخلي، وعدم الوفاء بالوعود التي أطلقتها ونادت بها.

دافنبورت يبرهن؛ في ما يتعلق بالحقائق تلك، والعوامل التي أدّت إلى ما حدث بالنسبة إلى حركة ديترويت؛ على وجه التحديد، بأنه نشأ عنهما بالضرورة تعزيز إلغاء التعبئة؛ أو ما يمكن أن نطلق عليه التسريح؛ من خلال تفكّك المنظومة التي نشأت؛ وتعرضت في مساراتها إلى حالات من التآكل والاهتراء من الداخل ومن ثم التلاشي والاضمحلال. يتضح العامل الأول من خلال فشل الحركات في «إعادة تقييم»، أدائها؛ والذي يعطي مؤشراً إلى محاولات الناشطين في ترتيبهم الإجراءات والاستعداد للقمع. الحركات الاجتماعية؛ والتحررية منها هي أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة إذا استطاعت التنبؤ بدقة بأنواع القمع الذي ستواجهه ومستوياته؛ وبدوره، أي التقييم؛ يتيح لها إعداد نفسها من خلال العمل على تطوير خطط للطوارئ؛ وتكتيكات لمواجهة الحركات المقابلة والمضادة لها.

في حين لا حركة اجتماعية لديها معلومات متكاملة بشأن ما سيعمله منتسبو الدولة ووكلاؤها؛ تمكّن المجموعات؛ قلّت أم كثرت، أن تعيد بنجاح تقييم القمع الحكومي الذي يمكن له أن يُمارس ضدها. وهذا يشير إلى أن الحركات الاجتماعية (التحررية) ستكون أكثر فرص بقائها على قيد الحياة أكبر إذا استعد نشطاؤها للإحاطة في صورة أشمل بذخيرة الدولة؛ أي الإمكانات التي ستكون أدوات في المواجهة؛ بما في ذلك أشكال تلك الإمكانات؛ سواء العلنية أو السرية.

إعادة التقييم

الحركات الاجتماعية التي لا تنخرط في إعادة تقييم ناجحة من المرجَّح أن تنهار تجربة الثقة لديها، ما يستدرجها إلى التراجع. وعندما يحدث ذلك، يرى دافنبورت أنها من المرجّح أن تمر بطور الانشقاق و/ أو الانهيار.

ولا يحدث ذلك إلا إذا فشل أعضاء الحركة في الشعور بالحماية، وأنهم في مأمن؛ إذ يشتبه النشطاء في كون أحدهم إما أن يكون مُتسللاً إلى المجموعة أو أن يكون أحد المخبرين الذين تم تجنيده واجتذابه لتفكيك بنية المجموعة من الداخل عبر كشف كل تفاصيل تحركها؛ ومستويات التفكير والتخطيط التي بلغتها.

بعض قطاعات في الحركة سيتم استبعاده؛ فيما تصبح القيادة أكثر شكوكاً؛ وتحيط نفسها بجدار من السرية. الجمع بين هذا، وفشل حركة في الوفاء بوعودها الطموحة، وانشقاق المنخرطين هو قائم ومرجّح؛ في الوقت الذي يصل فيه الاقتتال بين القادة وانشقاقهم درجة لا يحتاج إلى كبير جهد لتحديد حقيقته، والنهايات التي ستفضي به. في نهاية المطاف، عمدت جمهورية إفريقيا الجديدة إلى إلغاء وجودها ذاتياً، عن طريق:

أ- عدم القدرة على الوفاء بأهدافها.

ب - فشلها في التنبؤ بشكل صحيح بأنواع القمع التي من الممكن أن يتم سنّها ضدها. وفي كلا الديناميتين؛ تم خفض الثقة داخل جمهورية إفريقيا الجديدة؛ ما جعلها عرضة للتحزب والتعرض إلى مزيد من موجات القمع الإضافي.

أنواع القمع نفسها التي تواجه الحركات الاجتماعية (التحررية) تتعرض لمثل تلك الإشكالات أيضاً. واحد من أسباب انهيار جمهورية إفريقيا الجديدة؛ هو في عدم استعدادها للقمع السري، وتحول اهتمام الحركة غير المتوائم مع الإعدادات التي ستواجهها من خلال منهجة في القبضة الحديدية. وعلى رغم توقع جمهورية إفريقيا الجديدة، القمع العلني الذي ستتعرض له؛ إلا أنها لم تكن قادرة على التعافي من الاعتقالات الجماعية والمكلفة، والمحاكمات الطويلة ضد أعضائها.

وكما قال باركان (1985)، القمع الذي يتم تقنينه، يظل فاعلاً بسبب أن الحركات تلك غالباً ما تفتقر إلى القدرات بتحقيق نصر ومكاسب في مرحلة المحاكمات. على هذا النحو، قد تكون إعادة التقييم لكل ذلك؛ تزيد من احتمال أن تبقى الحركات على قيد الحياة، ولكن عليها ألاّ تعمد إلى فصل كل ذلك عن التكاليف التي يمكن أن تدفع في أية لحظة.

توضح الدراسة في ختامها؛ كيفية الجمع بين أنواع مختلفة من المصادر النوعية بشكل مناسب؛ واستخدام أساليب تتبّع عملية لتحديد الأسباب المعقدة والآثار التي قامت على مر الزمن. كثيرون لن يجادلوا الرأي القائل بأن الباحثين يجب عليهم تحليل العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء؛ بالنسبة لتلك الحركات من أجل فهم ديناميات التعبئة.

والسؤال هو: كيف نفعل ذلك، والجواب هو من الصعب تحقيقه. يحتاج مثل ذلك الإجراء إلى الكثير من البيانات الجيدة، يضاف إليها الكثير من العمل. ولكن كما يظهر دافنبورت، فإن النتائج غنية من الناحية النظرية، ورائعة من الناحية التاريخية، وتوليدية من الناحية النظرية للدراسات المستقبلية.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1223425.html