صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5319 | الخميس 30 مارس 2017م الموافق 19 رمضان 1445هـ

بشأن مفهومي الجغرافيا والتاريخ

الكاتب: يوسف مكي - comments@alwasatnews.com

لم تتعرض منطقة في العالم بأسره، إلى منازعات وحروب، وتدخلات خارجية بسبب موقعها الجغرافي، كما تعرضت الأمة العربية. فقد شاءت حقائق الجغرافيا أن تكون هذه المنطقة معبراً للقارات القديمة، آسيا وإفريقيا وأوروبا، وأن تضم المعابر والمضائق الرابطة براً وبحراً، بين هذه القارات. ولذلك كان التحكم فيها، والهيمنة عليها باستمرار، محط أنظار الطامعين، وهدفاً رئيسياً من أهدافهم.

ومن هنا بات من المستحيل قراءة تاريخ المنطقة، من دون وضع هذه القراءة في سياق الجغرافيا، في جدلها: جذبها وطردها، وحدتها وتنافرها. ولأن الثبات والسكون أشياء نسبية، لأن هذا الكون هو في حركة دائبة وفوارة، ولأن الجدل هو علم قوانين الحركة، وجب أن يكون دليلاً مساعداً على فهم علاقة الجغرافيا بصنع الحادثة التاريخية، وتوجيهها. وأيضاً في وعي ثنائية التقدم والتراجع، بخاصة تلك التي كان لها دور رئيسي في سقوط حضارات وقيام أخرى جديدة.

الجغرافيا علم قديم ينسب الفضل في تأسيسه إلى الإغريق. وقد عرف في أول الأمر بأنه وصف الأرض. إلا أن هذا التعريف جعل منه علماً وصفياً، يفتقر للربط والتحليل. والواقع أن الجغرافيا القديمة كانت كذلك، إذ اكتفت بالوصف القائم على سرد الحقائق والمشاهدات. وكان هناك تصور بأن الجغرافي هو من يقوم برسم الخرائط بناء على رحلات يقوم بها بذاته إلى أرجاء المعمورة من سطح الأرض، يسجل خلالها مشاهداته المختلفة. وقد تطور هذا المفهوم لاحقاً خلال فترة الكشوف الجغرافية، حيث ربطت الجغرافيا باكتشاف الأجزاء المجهولة من سطح الأرض.

وفي القرن الثامن عشر، انتقل علم الجغرافيا إلى مرحلة جديدة، فأخذت دراساته تهتم بمعالجة العلاقات المتبادلة بين الظاهرات المختلفة، ومحاولة الربط بينها. وجرى توصيفه بأنه العلم الذي يدرس سطح الأرض، على اعتبار أنه ميدان الحياة البشرية، وما عليه من ظاهرات طبيعية وبشرية. ووفقاً لهذا التعريف أصبحت الجغرافيا علماً مركباً من ظواهر طبيعية، وأخرى بشرية.

وكانت المدرستان الأميركية والإنجليزية، ولفترة طويلة من الزمن، قد عرّفتا الجغرافيا على أنه العلم الذي يدرس العلاقة بين مختلف الظواهر الجغرافية الطبيعية. ثم تطور هذا التعريف لاحقاً ليشمل تناول الاختلافات الإقليمية في الظاهرة الواحدة إلى الظاهرات الجغرافية مجتمعة: أشكال سطح الأرض، المناخ، النبات.

أما المدارس المعاصرة فقد عرفت الجغرافيا بأنها التباين الأرضي، أي التعرف إلى الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض على مختلف المستويات. وقد أدى ذلك إلى الاهتمام بالعلاقات القائمة بين الظواهر الجغرافية.

ونؤثر هنا أن تنطلق من رؤية ديناميكية لمفهوم الجغرافيا. ولذلك نهتم بدوره في تحديد شخصية المكان، وتحوله من مجرد علم جامد إلى ريشة بيد فنان، ذلك لأن العلاقة بينه وبين الإنسان ليست ساكنة، أو أحادية الجانب، بل هي علاقة جدلية، بمعنى التبادل والتكافؤ. ولذلك نرى في الجغرافيا رابطاً بين العلوم الطبيعية ومختلف العلوم الاجتماعية.

في العصور القديمة، شهدت هذه المنطقة 3 فورات حضارية رئيسية، كان نصيب مصر منها الحضارة الفرعونية، ونصيب ما بين النهرين الحضارات السومرية والبابلية والفينيقية، وكان نصيب جزيرة العرب قيام الدولة العربية الإسلامية الكبرى التي بدأت في التحقق مع بزوغ الإسلام. ومن المؤكد أن ذلك لا يعني التقليل من أهمية حضارات أخرى برزت في هذا الجزء من العالم. لكن هذه الحضارات حملت في إنجازها وعطائها طابعاً عالمياً، من حيث تأثيرها المباشر في مجمل مسيرة التاريخ الإنساني.

فيما يتعلق بوادي النيل كإقليم، شاركت الجغرافيا والتاريخ، في صنع شخصيته، حيث يمكن القول بوجود نوعين من الوحدة فيه، إحداهما جغرافية وتتمثل في وجود خط في القلب يشق البلاد من الجنوب إلى الشمال هو النهر، وتليه الوديان الملاصقة لضفتيه، ومن ثم السهوب في الغرب، والمنطقة الساحلية إلى الشرق. أما الوحدة التاريخية، فقد تحققت من خلال استمرارية هذا القطر في بوتقة سياسية واحدة على مر العصور، حيث لا يسجل التاريخ عن مراحل الانقطاع إلا فترات قصيرة جداً. ولذلك يمكننا القول، إن الجغرافيا والتاريخ قد التقيا على تقرير وحدة هذا الإقليم.

أما في ما بين النهرين، فتصادفنا أكثر من مشكلة عند الحديث عنه كإقليم واحد، إذ لم تتحقق وحدته السياسية إلا بعد مجيء الإسلام. وحتى حين تحققت هذه الوحدة، مع بداية العصر الأموي، فإن هذا الإقليم كان جزءاً من الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى. كما أن هذا الإقليم يفتقر إلى الوحدة والتجانس الجغرافي، ولم تتوافر تسمية تشمل معظم أجزائه إلا في وقت متأخر، حين أطلق على المنطقة الممتدة من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط تسمية الهلال الخصيب. وفي الماضي، كان البعض يطلق على الجزء الغربي من هذا الإقليم بلاد الشام، وأحيانا سورية الكبرى، كما عرف الجزء الشرقي منه، الذي هو العراق بأرض السواد وباسم وادي الرافدين.

وحين نختار التسمية التاريخية له، فلأن فورة الحضارات التي قامت في هذا الجزء، من سومرية وبابلية وفينيقية قد حدثت في أوقات متقاربة جداً، وأثرت في بعضها بعضاً، ما أدى إلى تحقق تاريخ مشترك للإقليم بأسره. من جانب آخر، فإن مناطقها كانت ولاتزال، متداخلة جغرافياً، حيث لا يوجد حاجز فعلي بين المستوطنات البشرية، وهي تستقي من منابع مائية واحدة. وقد تحقق الفتح العربي الإسلامي لها في حقبة تاريخية واحدة، ومنذ ذلك الفتح احتضنت تراثاً واحداً ولغة واحدة شكلت هويتها، ووجهت حركتها. وعند نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، كان لهذه المنطقة الدور الريادي في انبثاق حركة اليقظة العربية. وقد تحملت مشتركة شرف قيادة النضال العربي للتخلص من الهيمنة التركية، والاستعمار الغربي لاحقاً. وبعد احتدام الصراع العربي-الصهيوني أصبح هذا الإقليم، في كل الحروب التي خاضها العرب دفاعاً عن أرضهم ووجودهم جبهة لمواجهة الكيان الصهيوني الغاصب. وتبقى هذه المقدمة قراءة أولية لوعي الجدل المحتدم والمستمر في علاقة الجغرافيا بالتاريخ.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1225588.html