صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 5369 | الجمعة 19 مايو 2017م الموافق 19 رمضان 1445هـ

«مقسم الكندوج» وصناعة الدبْس في فترة الدولة العيونية

تطرّقنا في الحلقات السابقة إلى عدد من المناطق التي ذُكرتْ في معاهدة الصلح التي عُقدت بين الأمير العيوني فضل بن محمد بن أحمد (1209 – 1219م) ومَلِكِ قيس غياث الدِّين شاه بن تاج الدين جمشيد، ومن المناطق الأخرى التي ورد ذكرها أيضاً: «ساحل مَنِي والمروزان»، «مقسم الكندوج» و «المقسم المعروف بسبْخة سامة والمقسم المعروف بالغرنفج ونوجرفت والدولات». وثلاثة من هذه الأسماء تقع على الساحل الشمالي، وبالتحديد إلى الشرق والغرب من موقع قلعة البحرين، وربما كانت بقية المناطق قريبة من الموقع نفسه. وهي مناطق ساحلية كانت غنية بالأسماك وفي الوقت نفسه مناطق زراعية وتنتج التمر، كما يصنع فيها الدبس.

مَنِي ومروَزان

مَنِي ومروزان، كلاهما كانتا قرى ساحلية، وأما في الوقت الراهن فقد أصبحتا جزءاً من قرية السنابس، وساحلهما هو ساحل السنابس، والذي دفن وأقيم عليه ضاحية السيف. وقد كان ساحل مَنِي ومروزان في السابق مليئاً بمصائد الأسماك وبمحاذاته عدد كبير من قطع الأراضي الزراعية، وكلا الأسماك والزراعة كانت تساهم بجزء كبير من اقتصاد الدولة العيونية. وقد ذكرت مصائد الأسماك على هذا الساحل في معاهدة الصلح سالفة الذكر حيث ذكر فيها أن لملك جزيرة قيس «جميع عشْر السمك بساحل مَنِي والمروزان».

أما الأراضي الزراعية (أو القطائع) في مروزان فقد ذكرها الشاعر ابن مقرّب العيوني في نونيته التي كان يتأسف فيها على ضياع أملاك العيونيين في جزيرة أوال، والتي قسّمها الأمير عزيز بن الحسن بن شكر على الذين تآمروا معه من بني عامر على الأمير محمد بن أحمد (الجنبي وآخرون 2012، ج5، ص 2858 – 2865) ويقول فيها:

وَأَمَضُّ شَيءٍ لِلقُلوبِ قَطائِع

بِالمَروَزانِ لَهُم وَكَرّزكانِ

هذا، وقد جاءت نتائج المسوحات الآثارية في هذه المناطق مطابقة للمعطيات التاريخية؛ حيث تشير نتائج تلك المسوحات إلى وجود لقى أثرية في شمال مروزان تدل على وجود استيطان بها وذلك في الفترة ما بين القرنين الثاني عشر والسابع عشر الميلاديين (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2).

نوجرفت

نوجرفت أو نورجرفت اسم بستان ومنه عرفت المنطقة المحيطة به بالاسم نفسه، وتقع المنطقة حالياً في أقصى شرق قرية جد الحاج، إلى الغرب من موقع قلعة البحرين، ويبدو أنها كانت من المناطق الساحلية والزراعية المهمة، وقد ذكرها التاجر في كتابه «عقد اللآل في تاريخ أوال» برسم «نواجرفت»، وقال عنها: «وفيها البساتين الغناء والحدائق الفيحاء الممتازة بالأترج والخوخ والمشمش والموز واللوز وغيرهما وأنهارها غزيرة وأهلها فلاحون» (1994، ص 37).

الكندوج أو مصانع الدبْس

الكندوج في الأصل بمعنى مخزن، جاء في معجم تاج العروس: «الكَنْدُوجُ، بالفتح شِبْهُ المَخْزَنِ. وفي المصباح: وضُمَّت الكافُ لأَنه قياسُ الأَبنية العربيّة.

وقد تطور معناها عند العامة في مناطق مختلفة في الخليج العربي، ففي مناطق في شرق المملكة العربية السعودية، كما في الأحساء، يطلق اسم الكندوج على مخازن خاصة للتمر (الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية، م 5، ص 485 – 486). وقد حُرّف اللفظ فيقال كندوج وكندود، ويلفظ الأخير فيقال چندود، كما في البحرين. يذكر أن عملية تخزين التمر تتزامن مع صناعة الدبْس، فأثناء رص التمر يسيل منه الدبْس الذي يجمع. أي أن مخزن التمر، هو نفسه مصنع الدبْس أو المدْبسة. وهكذا، فإن اسم الچندود، يطلق على مخزن التمر، ومن باب التعميم، يطلق أيضاً على مكان صناعة الدبْس، صغيراً كان أو كبيراً.

وأما المدْبسة فهي عبارة عن قنوات في أرضية «الچندود» يجري فيها الدبْس؛ حيث إنه بسبب جلال التمر على بعضها يبدأ الدبْس بالسيلان من تلك الجلال فيتجمع في أرضية المخزن. وتتكون المدْبسة من عدة قنوات متوازية، وجميع هذه القنوات تتصل في نهايتها بقناة واحدة جامعة، وتتصل هذه القناة بحفرة تسمى (جابية) يتجمع فيها الدبس وقد توضع في هذه الحفرة جرة كبير مصنوعة من الفخار لكي يجمع فيها الدبْس. ويتم تغطية القنوات بعازل وذلك لعزل التمر عن رطوبة الأرض، وغالباً ما يكون العازل عبارة عن دجاين وهو جمع دجينة وهو حصير مصنوع من جريد النخل ومربوط بالحبال.

يذكر، أن صناعة المدابس هي صنعة قديمة درج على ممارستها سكّان دلمون منذ فجر التاريخ (Hojlund 1990)، وعلى رغم تشابه الشكل العام في صناعة المدْبسة إلا أن هناك فروقاً طفيفة في صناعة المدْبسة؛ فهناك نوع من التدرّج في صناعتها، يبدأ من المدابس الأكثر بساطة إلى المدابس الأكثر تعقيداً. أما النمط الذي وصل إلينا، فلا نعلم بالتحديد متى بدأ تطويره، إلا أن أقدم مدْبسة عثر عليها في البحرين، من النمط الذي بقي حتى يومنا هذا، كان في القرية الإسلامية المبكّرة في عالي والتي يعود تاريخها إلى ما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين (Sasaki et. al. 2011)، (Carter 2005).

أما «مقسم الكندوج» الذي ورد ذكره في المعاهدة، فلا بد أن يكون مكاناً ذا أهمية اقتصادية وليس مخزناً صغيراً. يذكر أن في موقع قلعة البحرين يوجد قصر محصّن به تسع مدابس ضخمة، والتي تستوعب لقرابة 332000 كيلوغرام من التمر والذي ينتج قرابة 14900 كيلوغرام من الدبْس (Kervran et. al. 2005, p. 289, footnote 11). فهل هذا الحصن هو «مقسم الكندوج» أم أن هناك مصانع أخرى للدبْس في أوال في تلك الحقبة.

يذكر، أن البعثة الدنماركية ترجّح أن الحصن بني في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث إن أقدم فخار عثر عليه في الحصن يمكن أن يعود إلى القرن الحادي عشر/ الثاني عشر الميلادي (Frifelt 2001, p. 35). غير أن البعثة الفرنسية ترى أن الحصن بني في فترة ما قبل الإسلام (Kervran et. al. 2005)، فأي النظريتين أرجح؟ وما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نستخلصها من النظرية المرجّحة؟ هذا ما سنتطرّق له في الحلقات المقبلة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/1242113.html