صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 64 | الجمعة 08 نوفمبر 2002م الموافق 19 رمضان 1445هـ

تاريخ الإمارة العيونية... نزوع وصفي سردي

قد لا يكون القول الإشادي مستبعدا هنا! أو يجب ألا يكون كذلك. فمؤسسة عبدالعزيز البابطين ليست بحاجة اصلا إلى كثير من المدح والإطراء، فهي إحدى المؤسسات الثقافية العربية التي أسهمت عمليا في تشجيع الوعي الإبداعي العربي، وأعادت شيئا من الاعتبار إلى قمم ابداعية سقطت أو كادت تسقط في بقعة النسيان. ولذلك فإن سؤال الثقافة الناقد مع مؤسسة فاتحة كهذه، سيغدو سؤالا عسيرا ومسكونا بالظنون. ولكن يظل هذا الاحتفاء اعجز من أن يخفي ظواهر (المسخ) في الثقافة العربية المعاصرة وخضوعها المبتذل لآلة الاستهلاك اليومي والتكديس الاعلامي الشائن، وفي هذه الظروف ستتطلب مهمة إعادة الوعي بالثقافة جهودا أذكى من تلك التي تقترحها مؤسسات صاعدة كمؤسسة البابطين ومؤسسة الفكر العربي ومركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة.

خلال الفترة من 1 - 3 أكتوبر 2002 نظمت مؤسسة البابطين للابداع الشعري دورتها الثامنة في البحرين، وخصتها للشاعر علي بن المقرب العيوني (572 -631هـ)، وهو أحد أفراد الأسرة العيونية التي حكمت منطقة شاسعة من شبه الجزيرة العربية، ودام حكمها (168) عاما. وبالنظر إلى أهمية المرحلة التاريخية التي نهضت فيها الامارة العيونية في إقليم البحرين وما صاحبها من حوادث تاريخية، يجيء إصدار المؤسسة لكتاب عبدالرحمن بن عثمان آل ملا عن (تاريخ الامارة العيونية في شرق الجزيرة العربية)، ليلقي الضوء على مساحات مطمورة من تاريخ هذه المنطقة المتحركة.

يتألف الكتاب من قسمين رئيسيين، الأول يتناول ملامح الحياة الحضارية ومقوماتها. وهي تشمل الأحوال الطبيعية والتشكيل السكاني، واستقصاء مراكز الاستيطان الحضاري بالاضافة إلى استعراض الملامح المختلفة للأحوال الاقتصادية. ومن المعروف أن الدولة العيونية تشغل الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية وهو ما كان يعرف تاريخيا بأسماء كثيرة منها اسم البحرين. وبحسب الابحاث الأثرية فإن شرقي الجزيرة العربية كانت مأهولة بالسكان منذ خمسين ألف سنة، وقد كانت هذه المنطقة الموطن الأول للجنس السامي كالآراميين والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين. وتعد قبيلة عبدالقيس الأكثر تأثيرا في صنع التاريخ السياسي لهذه البلاد. وكان تأسيس الدولة العيونية أوج هذا التأثير. ونظرا لانحدار الشاعر ابن المقرب العيوني من هذه القبيلة العريقة فقد اهتمت مؤسسة البابطين باصدار دراسة تحقيقية حول شعراء عبدالقيس في العصر الجاهلي والعصرين الاسلامي والأموي وتولى مهمتها الدكتور عبدالحميد المعيني.

القسم الثاني من الكتاب انصب على استعراض التاريخ السياسي الذي توالى على هذه المنطقة وصولا إلى مرحلة الدولة العيونية. ويبدو واضحا أن هذه الجغرافيا كانت تعيش في سلسلة دائمة من الفتن والاضطرابات، كما تعرضت منذ فجر التاريخ لسيل من الغزوات والحملات الاستعمارية، مما جعلها تخضع لولاءات متعددة للنفوذ الاجنبي. ومع إشراقة الاسلام بادر أهالي هذه البلاد إلى الانضواء تحت راية الرسالة الجديدة، ولكن سرعان ما عادت دورة الفوضى في العصرين الأموي والعباسي حيث شهدت البحرين انتفاضات كثيرة لبني محارب إبان الحكم الأموي وانتفاضة مسعود بن أبي زينب سنة 86 هـ، وفي سنة 151 هـ انتفض سليمان الحكيم على أبي جعفر المنصور الذي أعد جيشا جرارا أخمد الانتفاضة وارتكب مجازر وحشية ضد الرجال والنساء والاطفال، مما ولد مخزونا من الثأر والانتقام في نفوس عبدالقيس. وفي سنة 249 هـ قامت حركة صاحب الزنج التي تعددت الروايات بشأن قائدها ونسبه.

يخصص المؤلف فصلا كاملا لحركة القرامطة التي نشأت على هامش التشظي الذي لحق بالدولة العباسية، وقد تبلورت هذه الحركة، كما يرى المؤلف، داخل الفكر الاسماعيلي القائم على الباطنية، واعتمدت التنظيم السري العسكري أسلوبا لتحقيق أهدافها. وقد بدأت حركة القرامطة في البحرين بوصول دعاة القرامطة إلى هذه البلاد، ومن بينهم (يحيى بن المهدي) و(أبو الفوارس) و(أبو سعيد الجنابي) وتم تأسيس الدولة الجنابية هناك. وعلى رغم ما مارسته حركة القرامطة من أعمال إرهابية وعسكرية على مدى 170 عاما فإن أهالي شرقي الجزيرة العربية وفي مقدمتهم عشاثر عبدالقيس استطاعوا عبر مقاومة مستمرة ومتعددة الاشكال القضاء عليها.

في الفصل السادس من القسم الثاني يبدأ المؤلف بدورة الامارة العيونية مستعرضا أبرز الأمراء العيونيين وسيرورة هذه الامارة من النهوض والازدهار إلى السقوط والانقسام، مستلهما المادة التاريخية لهذه الامارة من ديوان ابن المقرب العيوني وشروحه إلى جانب الابحاث والدراسات الاخرى.

إن مثل هذه الدراسات التاريخية تغطي جزءا من الحاجة إلى معرفة الجذور وفهم السياق التاريخي للحوادث التحولية التي مرت بهذه المنطقة، وكان بإمكان هذه الدراسة ومثيلاتها العربية أن تتقدم أكثر في هذا الغرض لو أنها اعتنت أكثر بمنهجيتها وأدواتها التحليلية، وتخلّت قليلا عن نوازعها الوصفية والسردية التي تستسلم لسطوح المواد والوثائق ولا تجري عليها المراجعة الأعمق. فالعواصف التي توالت على هذه المنطقة منذ زمن بعيد أدت إلى تشكيل ميزات تاريخية قارة لم تهدأ عن توليد توابعها حتى اللحظة، ومثل هذه الاستمرارية الغريبة في إنتاج السحنة الثقافية المحدبة يغري بالذهاب إلى الوثائق والسجلات القديمة والأثريات ومعرفة الشفهي والكتابي الذي كون حكاية هذه البلاد.

ومن المهم في هذا الإطار التوقف عند ظاهرة الانتفاضات والحركات المعارضة التي قادتها عبدالقيس في البحرين، فهي أخذت بعدا ثابتا في تركيبة الواقع التاريخي لهذه المنطقة، وجاءت على خلفية التردي المستمر للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلادهم. ويمكن استيعاب تحول الانتفاض إلى ظاهرة عند ملاحظة سياسة الاهمال التنموي المتبعة من قبل الدولة المركزية (الأموية والعباسية) من ناحية، وتحول أقاليم شبه الجزيرة العربية إلى أرض خصبة لنمو الأفكار والعقائد المتنوعة من ناحية أخرى. فهذان العاملان أسهما في إشعال الانتفاضات ضد سلطة الخلافة حتى انحسرت عن بلاد البحرين وتولت الزعامات المحلية من بني عبدالقيس زمام الأمور. إلا أن الانتشار الدائم للدعوات الجديدة المختلطة بالطموح السياسي لم يدع الاجواء هانئة لتلك الزعامات المحلية لينفتح الباب على مصراعيه لمسلسل دائم من التنافس والتحارب الذي أدمى طويلا خشبة المسرح السياسي لهذه البلاد. لم يكن تربع الدولة العيونية على الزعامة وترسخ أقدامها بمعزل عن هذه (الثيمة) الصراعية، وما نكبة شاعرنا ابن المقرب العيوني، التي تداخل فيها الذاتي والموضوعي، إلا استعادة لنكبة الوطن والقيم المتدهورة، نكبة الحضارة التي تحتضر وتعد أيامها الاخيرة بفعل القمع المضاد. يقول العيوني:

ويُقْعدني عمّا أحاولُ نكبةٌ

جرتْ وزمانٌ عاثرُ الجدِّ فاسدُ


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/166563.html