صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 1804 | الثلثاء 14 أغسطس 2007م الموافق 19 رمضان 1445هـ

غابات القرم وجولة في غابات الأمازون

الكاتب: خولة المهندي - comments@alwasatnews.com

عندما لا أكتب مقالي الأسبوعي أكون في الغالب مشغولة جدا أو غاضبة جدا أو محبطة جدا أو الثلاثة معا، وثلاثتها مضرة للعمل البيئي الإيجابي وثلاثتها لامفر منها وسط واقع حياتنا وبيئتنا التي تسير أحوالها من سيئ إلى أسوأ كل يوم!

كنا مع مراسل من البي بي سي (BBC) وأخذناه في جولة في خليج توبلي. حرص زملائي في التكتل البيئي على أن يرى ذلك المراسل منطقة مكب مياه الصرف الصحي وأراد هو أن يصور المناطق المردومة من الخليج (في الوقت الذي كنا نكرر له من دون جدوى... على مهلك جميع الأراضي من حولك مدفونة... كلها كانت جزءا من الخليج)، وحرصت أنا على أن يزور محمية رأس سند ويبحر بين غابات أشجار القرم.

كنت أعلم أنه سينبهر وكنت أعلم أنه سيشكرني على إصراري على القدوم إلى هذه البقعة بالذات وكنت آمل أن يغفر لي الأطفال من أعضاء لجنة ريم أن أخذتهم معي إلى البحر في هذا الجو الحار المشبع بالرطوبة، لكن الذي لم أتوقعه كان ردة فعل زملاء الرحلة من الكبار من ممثلي وزارة الإعلام ومن زملائي في التكتل البيئي. غازي المرباطي (الناشط البيئي الجريء الذي نفخر أنه أحد ثلاثة أركان رئيسية للتكتل) بدأ يتحدث من دون توقف عن الجنة المخبأة وكيف أنه ما كان ليصدق أنها موجودة لو لم يشاهدها اليوم، وكيف أن آخر ما يخطر ببال من يعرف تلوث خليج توبلي ومشكلاته أن به هذه الجنة. وعلق ممثل الإعلام: «لو رأيتها في التلفزيون لظننتها غابات الأمازون» ليواصل غازي مستدركا: «هل يعقل أن تدمر أشجار القرم يوما ما؟ لا هذا مستحيل! ستكون جريمة كبرى لو وقع ذلك».

كنت أراقبهم وأسمع منهم عبارات قالها قبلهم كل بحريني (تقريبا) ممن سنحت لهم الفرصة لزيارة أشجار القرم (من البحر لا من البر)، فأخبرهم أننا عندما بدأنا بعرض أفلام الفيديو والصور الملتقطة من داخل رأس سند، لطلاب المدارس وسألناهم: «أين التقطت هذه الصور؟» كانت ردود فعل معظمهم تتجه نحو الأمازون، تركيا، إيران، وغيرها من دون أن تتوقع البحرين! أشجار كثيفة خضراء جميلة حول ممر مائي؟ لا بد أنه نهر ولابد أنها غابات حول ضفتي النهر... لا توجد أنهار في البحرين ولاتوجد غابات في البحرين، فكيف تكون تلك الصور من البحرين؟ هكذا كان يفكر أطفال المدارس ويضحكون عندما أقول لهم في النهاية... إجاباتكم كلها خاطئة هذه صور من البيئة الثرية الخلابة في وطنكم... بلد الخلود... يستغرق الأمر شرحا وإيضاحا وينتهي في الغالب بإلحاح شديد من الطلاب أن نأخذهم لرؤية ذلك المكان الخيالي الذي هو جزء من بلدهم لكنهم لا يعرفونه. نعجز طبعا عن تلبية رجاء معظمهم وننجح في أخذ القليلين جدا منهم لا لقلة رغبتنا في ذلك ولكن لقلة حيلتنا وإمكاناتنا المادية واللوجستية...

مراسل الـ «بي بي سي» انبهر وغير مسار موضوعه وتعاطف أكثر مع مفهوم السياحة البيئية. أطفال لجنة ريم لم يكثرثوا للحر ولم يشتكوا من الرطوبة ولم يتحدثوا عن الرائحة الأسنة والمناظر الكريهة ولم يكونوا محبطين أو غاضبين كآخر مرة رأوا فيها الخليج (حين كان البحر»ثبر» فلم أستطع أن أصل بهم إلى أعماق أشجار القرم)، هذه المرة كل شيء اختلف لديهم، كانوا فرحين مفعمين بالحيوية والنشاط يتحدثون بحب عن الخليج ويستذكرون ماعلمناهم إياه من معلومات عن نبتة القرم بفهم أكبر. تركي لم يتوقف عن التصوير والهتاف، غادة وسهير قالتا إنهما تريدان الذهاب مرة أخرى إلى هناك، هاشم وسلمان لم يتوقفا عن الحديث عما شاهداه كل منهما من طيور ولم يره الآخر وعن شعورهما والقارب الصغير يدخلهما في ممرات بحرية ضيقة باتجاه المجهول. غابات من أشجار القرم على امتداد البصر كما لو أنه لاتوجد نهاية لها!

ما لا أريد أن يفوتني ذكره (في زحمة الكثير من الأفكار والخواطر) أن اللحظة التي كنا فيها داخل أشجار القرم تغير الجو كلية وسرت فينا موجة جميلة من الانتعاش وشعرنا ببرودة خفيفة وتعطرت أنوفنا برائحة زكية... رائحة الخضرة والشجر... الطيور من حولنا كانت بلابل بحرينية جميلة وطيور البلشون البيضاء والرمادية الرشيقة التي نعلم من أبحاث سابقة أنها تعشش في خليج توبلي وفي جزر حوار (أرضا رامسار في البحرين) وأن أشجار القرم كانت في الأصل على امتداد الخليج ابتداء من نقطة التقاء خليج توبلي بعذاري إلى نهاية الخليج جنوبا، بل إن بعض كبار السن أخبرونا أن أشجار القرم كانت تصل إلى عسكر . مررنا في طريقنا بقارب صيادين وكانت حصيلتهم نحو الكيلو جرام والنصف من الروبيان. أول ما خطر ببالنا كان ما إذا كان هذا الروبيان أو أية أسماك تصطاد في خليج توبلي ملوثة!

سألت المغني عن مدى الدمار والخسائر في الثروة السمكية حسب تقييمه كرئيس لنقابة الصيادين. سألته السؤال الذي سألتني إياه إحدى الإعلاميات النشطات في البحرين: «هل حقا 75 في المئة من الثروة السمكية معرض للانقراض؟ ماذا تقول في هذا الرقم؟ وما هو أساسه؟»

أجاب المغني بابتسامته اللطيفة الساخرة: «75 في المئة من ماذا؟... لا أعرف من أين يأتي البعض بأرقام كهذه... مالذي تبقى من الثروة السمكية أصلا؟ معظم أسماكنا البحرينية غير متوافر للصيد... لايوجد في البحرين مايصاد الآن سوى الصافي والروبيان وقناديل البحر والقباقب! هذه هي الأنواع الوحيدة التي مازالت تقاوم»

ويواصل المغني وهو يسرح بخياله بعيدا: «أين ذهب الحيسوم والصافي الصنيفي والحاسوم والبرطام والخبور والشقر والربيب والحامر والباسج وأسماك القرش؟

أما السبيطي والشعري والجواف والميد واللخم والسلاحف فقريبا لن يستطيع أحد رؤيتها» المدير العام للإدارة العامة للثروة البحرية سبق له وأن صرح في أكثر من مناسبة أن اليوم الذي تفقد فيه البحرين كل أسماكها قادم وليس ببعيد!

نحن إذا لا نتحدث عن توقعات مستقبلية محتملة، بل نتحدث إذا عن آثار بيئية سيئة جدا قد وقعت بالفعل! عن خسائر نحصد ثمارها الآن... أتذكر المرات تلو المرات التي سئلنا فيها عن أدلتنا العلمية على أن الحفر والردم يضر البيئة البحرية أو أن البيئية البحرية متضررة أصلا... أو ما إذا كنا نبالغ ونغالي ونضخم الأمور...

«هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (البقرة:111)

وأذكر المرة تلو الأخرى التي يهز فيها صيادو البحرين رؤوسهم يمنة ويسرة قائلين :»تعالوا معانا البحر وشوفوا»

العبارة التي لم تلق صدى إلا أخيرا، على الأخص عندما ارتفعت الأصوات بشأن غلاء الأسماك وبشأن موت الأسماك وبشأن تلوث الأسماك... وعندما تم التأسيس لعمل أهلي بيئي منظم قوي وموحد عبر إعلان التكتل البيئي ليرتفع بناؤه على الأساس الذي بنته الجمعيات المكونة للتكتل عبر السنوات.

سألني مراسل «البي بي سي» عن أهمية أشجار القرم وسألني عن علاقة الروبيان بأشجار القرم وسألني عن المشكلات التي تواجه خليج توبلي. لكن أكثر ماتحدثت عنه كان عن إمكان إقامة سياحة بيئية في خليج توبلي... سياحة عائلية للبحرينيين وسياحة إقليمية وعالمية لو استطعنا التعريف بها كما يجب، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بعد إنقاذ الخليج المحتضر وحمايته ووقف الأخطار التي تتهدده، وفق استراتيجية مدروسة تشارك فيها خبرات البحرين من جهات حكومية وخاصة وقطاع أهلي. ولايمكن أن ترى النور إلا بإعلان أن زمن التخبط والحلول الترقيعية يجب أن ينتهي إلى غير رجعة إذا كنا نريد أن يبحر أبناؤنا في قوارب بحرينية صغيرة بين أحضان أشجار القرم البديعة ليشعروا بفخر أنهم يمتلكون طبيعة خلابة وسحرا من الجمال اختصت به بلدهم.

هل يأتي اليوم الذي يتم التسويق فيه لغابات قرم خليج توبلي عبر المحطات العالمية كما يسوق لغابات الأمازون؟ سيكون بحق إنجازا وطنيا ضخما... من يا ترى سيحقق هذا الإنجاز للبحرين والبحرينيين؟


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/247326.html