صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 2358 | الأربعاء 18 فبراير 2009م الموافق 19 رمضان 1445هـ

مومباي وقصة مدينة صاعدة

«الطفل المتشرد» يروي مأساة فقر... وحلم

نجح مخرج فيلم «المليونير المتشرد» الذي يعرض حاليا في سينما السيف في استخدام برنامج «من يريد أن يصبح مليونيرا» حين استطاع تحويله إلى إطار درامي يضبط قصة طفل هندي من مومباي عاش في حي فقير وقتلت والدته المسلمة بحادث هجوم طائفي أدى إلى احتراق الأكواخ الخشبية وتهدم البيوت وهروب ما تبقى من أسر وتشرد الأيتام في الأزقة وفرار بعضهم إلى مناطق ومدن أخرى بحثا عن لقمة عيش أو مؤسسة تأويهم.

قصة «سليم» و«جمال» تختزل قصة مدينة في تاريخ الهند المعاصر التي تشهد في جانب حركة تقدم وازدهار بينما الجانب الآخر يشير إلى استمرار حالات البؤس والشقاء والفقر المترافق مع جرائم منظمة تخططها عصابات طائفية وعنصرية تعمل أحيانا لمصلحة رجال أعمال وأصحاب أموال بقصد الاستيلاء على المناطق السكنية وذاك الشريط الموغل في القحط الذي يحيط بالمدينة أو يجاور الأحياء الغنية.

هناك لقطات في «المليونير المتشرد» لا تنسى من شدة ملامستها للواقع. فالمخرج أراد أن يقدم صورة عن عالم آخر لا يعرفه المشاهد الغربي من خلال ملاحقة قصة هذه العائلة المسلمة الفقيرة التي تعرضت للتفكك والمطاردة من دون سبب. وخلال عمليات الملاحقة والمطاردة تقوم الكاميرا بتصوير مشاهد بيوت التنك (الصفيح) وتلك الأحياء الفقيرة والمتداخلة والبائسة. كذلك يحاول المخرج من خلال رصده لسيرة الأخوين (سليم وجمال) أن يكشف علاقة الفقر بالجريمة والسرقة والدعارة. فالجوع يدفع الناس إلى استخدام كل الوسائل حتى لو كانت غير شريفة لتلبية الحد الأدنى من الحاجات. كذلك يشجع الجوع على قبول التحدي ويشحذ الذاكرة ويساعدها على الحفظ بقصد الحماية أو الاستخدام.

مشاهد البؤس في الشريط السينمائي مثيرة للشفقة ولكنها أيضا ملفتة في بعض زواياها الإنسانية والبسيطة. فالمخرج أراد أن يؤكد على أن الجوانب الظريفة ليست غائبة عن الأحياء الفقيرة. فالفقراء ظرفاء وأقوياء ويتنافسون على الكسب ويخترعون الكثير من الوسائل والطرق لتأمين الحياة والمعاش.

سيناريو الفيلم قوي في تلك اللقطات إلا أن نجاح المخرج في الربط بين قصة الأخوين والبرنامج التلفزيوني شكّل نقطة قوة أعطت الحوار جاذبية خاصة، ما ساهم في شد أنظار المشاهدين إلى الشاشة.

قوة الفيلم تكمن في ذاك السرد المتقطع بين الطفل/ الشاب الذي دخل للتنافس في البرنامج التلفزيوني «من يربح المليون» وبين قصته من الطفولة إلى الشباب. وتبدأ اللقطة الأولى بمشهد تعرض «البطل» التلفزيوني إلى تعذيب من الشرطة بقصد أن تتعرف على الوسيلة التي اعتمدها لتسريب الأجوبة له. والشاب الذي تحمل قساوة التعذيب لأنه جاء أصلا من بيئة معذبة أكد أن معرفته بسيطة حصدها من حياته البسيطة التي فرضت عليه أن يتعلم ويسمع وينظر ويفكر ويحفظ ويتلقن كل ما يشاهده أو يمر به. فالأجوبة ليست من الكتب وإنما من الحياة. ومن يتعرف على الحياة جيدا ويعيشها لحظة لحظة تعطيه من المعارف والمعلومات الكثير من الأشياء التي تمر يوميا على الإنسان من دون انتباه.

هنا بالضبط نجح المخرج في إقناع المشاهد بأن الحياة أفضل مدرسة والتجربة الشخصية تعتبر كافية لتقديم الكثير من الأجوبة. وعلى هذه القاعدة يبني السيناريو درجاته التصاعدية خطوة خطوة كما هو حال المسلسل. فالبرنامج يعتمد أولا على أسئلة بسيطة في درجته الأولى ويختار المشارك جوابا من الإجابات الأربع. وإذا نجح ينتقل إلى الدرجة الثانية وبقدر ما يصعد سلم الإجابات تزداد الصعوبة المعطوفة على التوتر والضغط النفسي.

المخرج استخدم البرنامج واسطة لتقطيع السيناريو بين درجة ودرجة في حياة الطفل ومحطة ومحطة في شبابه. فالسيناريو يشبه البرنامج إذ يتطور من الحد الأدنى البسيط ويبدأ بالارتفاع خطوة خطوة في سياق سردي شيق للربط بين حياة الطفل/ الشاب منذ صغره في الحي الفقير ومقتل والدته وهربه مع شقيقه سليم ووقعهما ضحية عصابة تسرق الأطفال وتستخدمهم للتسول أو السرقة والنشل وصولا إلى الرذيلة والقتل. فالإيقاع واحد لكن الصورة متخالفة. في الحياة يصارع الطفل/ الشاب لسد قوته ويتخاصم مع شقيقته ويفقد حبيبته وصولا إلى مشاركته في مسابقة «من يربح المليون»... أما في البرنامج فالشاب يصارع المعرفة التي اكتسبها بالتجربة والإحساس والسمع والبصر ولكنه يتقدم من الصفر إلى المليون (20 مليون روبية).

تقطيع السيناريو من الأدنى إلى الأعلى في البرنامج/ المسابقة مقابل تقطيع القصة من الشباب إلى الطفولة والصعود مجددا بها إلى الاستيديو أعطى قوة درامية للفيلم ما جعله يترشح لنيل عشرة أوسكارات إضافة إلى فوز بجائزة أفضل الأشرطة السينمائية في العام 2008 في الكثير من الأندية والمسابقات.

اللقطات الأخيرة من الفيلم مثيرة لأن المخرج نقل الطفل/ الشاب الفقير والمتشرد والمجهول العنوان إلى بطل أسطوري لكل فقراء الهند والجماهير المسكينة التي وجدت في «جمال» ذاك الأمل. أما جمال الذي خرق القاعدة وكسر المعادلة وكسب الجولات واحدة بعد أخرى وربح في النهاية «المليون» لم يكن قصده من المشاركة في المباراة الربح وإنما إرسال إشارة لحبيبته الضائعة عن مكانه وعنوانه. الخاتمة كانت بريئة وقوية ما أعطى النهاية تلك اللمسة الإنسانية الطرية


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/38310.html