صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 980 | الخميس 12 مايو 2005م الموافق 19 رمضان 1445هـ

المعري. .. الفلسفة شعرا "6"

رحلة المكان إلى الزمان

الكاتب: وليد نويهض - walid.noueihed@alwasatnews.com

لا تعرف المدة التي قضاها المعري في عزلته. إلا أن الترجيحات توافقت على فترة تراوحت بين 47 و50 سنة. قرابة نصف قرن قضاها المعري سجين نفسه يقرأ ويكتب وهو الضرير. لا يأكل اللحوم ويكتفي بأكل الحبوب "العدس" والفواكه "التين". زهد المعري بالدنيا واكتفى بالكفاف للعيش وحيدا مع نفسه ومنزويا يرفض الهدايا والهبات حتى تلك التي أرسلها إليه الحاكم الفاطمي المستنصر.

زهد المعري بالدنيا لا يعني انه كان زاهدا بالعلم والمعرفة. فعزلته كانت منتجة اذ أصبح يقصده طلبة العلم للاقتباس منه وبرز من تلامذته الخطيب التبريزي وابي القاسم التنوخي.

نصف قرن من العزلة كانت كافية لتخصيب الذاكرة وانعاش المخيلة واطلاقها من الأسر. فالمعري كان أسير المكان لكنه نجح في التحليق خارج المكان، والرحيل زمنيا إلى أمكنة لا يتصورها إلا صاحب مخيلة شاء الزمان ان يغذيها بالمعرفة تعويضا له عن ما خسره في طفولته حين اصيب بمرض الجدري وفقد بصره وهو في الثالثة من عمره.

عزلة المعري كانت آخر رحلة في حياته ولكن القدر شاء ان تكون طويلة مملة أحيانا وغنية أحيانا. ففي تلك السنوات الطوال وضع المعري اللزوميات وكتبه إلى ان جاءت رسالة وجهها إليه ابن القارح.

اشتملت رسالة ابن القارح على مجموعة أسئلة أثارت مخيلة المعري ودفعته للرد عليها في جواب طويل عرف لاحقا بـ "رسالة الغفران". رسالة المعري كانت جوابا على رسالة، وردودا على أسئلة... الا انها شكلت في مجموعها رواية متكاملة عن رحلة الانسان في حياته ومماته. فهي في النهاية تتحدث عن تعارضات البشر وتجانسهم، وتجانس الناس وتقلبهم بسبب ذاك القلق بين الدين والعقل والجنة والنار. فالرحلة نسجها المعري من مخيلته الخصبة ورسم فيها ملامح العالم الآخر بعد رحيل الإنسان عن دنياه.

مخيلة المعري لم تكن بعيدة عن القرآن. وبسبب وضعه الخاص "الشاعر الضرير" نجح في تشكيل تلك الصور التي يعجز عن تخيلها سوى ذاك الانسان الذي يعيش وضعه. ولذلك رأى المعري من عالمه المحكوم بالظلمة/ العزلة ما لا يستطيع غيره رؤيته. فالضرير عادة يملك مخيلة خاصة تسعفه على تصور الاشياء كما يريد لا كما يراها. والعزلة أيضا تعطي قدرة خاصة للعالم الداخلي ان يحلق بذاته خارج زمانه لا أزمنة لا يشاهدها.

لعبت المخيلة دورها في نسج الحكاية مستخدمة الصور التي يعجز الا الشعراء الكبار على توليدها وتصنيعها حتى تبدو الخيالات وكأنها وقائع تجري في رحلة زمنية. الا ان مخيلة المعري لم تكن كافية لصناعة الرحلة وتركيب تداعياتها الزمنية، فالمخيلة كانت بحاجة الى قوة دفع للانطلاق وهذا ما وجده المعري في سورة "الاسراء". اسعفت هذه السورة المكية الشاعر الضرير على التحليق عاليا خارج مكانه وزمانه فهي كانت الزاد الذي استقى منه تلك الصور التي نسجت الحكاية. ولولا سورة الاسراء لما كانت "رسالة الغفران". فالاسراء وسورة "المعارج" المكية ايضا وغيرها من سور قرآنية اسست قاعدة انطلاق لمخيلة المعري واسهمت كلها في تكوين تلك الرسومات التي تحدثت عن الآخرة وما يصيب الانسان في رحلته الزمنية.

قرأ المعري سور القرآن قراءة خاصة ومنها شحن ذاكرته بمخيلة لا يقوى غير الشعراء الكبار على امتلاك مفاتيحها السحرية ورؤية ما هو أبعد من الواقع. هذه الرحلة التي رفعت مخيلة المعري من الأرض إلى السماء نقلته لاحقا من المحلية إلى العالمية حين ترجمت "رسالة الغفران" إلى اللاتينية ولغات أوروبية. وباتت رحلة الزمان تلك محطة ألهمت مخيلة الكثير من الشعراء الذين قلدوها ونسجوا على منوالها. وأبرز هؤلاء كان دانتي الذي صاغ ملحمته الشعرية "الكوميديا الإلهية" وفق منهج المعري وفي ضوء شعاع مخيلته. فالشاعر دانتي قرأ "رسالة الغفران" مترجمة ومنها صاغ ملحمته الخاصة بعد نحو 265 سنة من رحلة المعري. وتحولت كوميديا دانتي إلى ملحمة شعرية ألهبت بدورها مخيلة الكثير من شعراء زمانه.

شكلت "رسالة الغفران" نقطة تحول في منهجية المعري الفكرية الا انها لم تخرج في النهاية على الخطوط العريضة لحياته العامة وقلقه الداخلي المغلف بإطار محكم بذاك الانسجام الدائم: الظلمة.

عاش المعري السنوات الطويلة يتنازع عمره بين ظلمتين: ظلمة النور وظلمة العزلة. وبينهما قرأ الكثير وكتب الكثير كان من آخرها "الفصول والغايات".

لم تكن سنوات العزلة سهلة كذلك عصره. فالعالم الذي اعتزله المعري شهد الكثير من الاضطرابات والتقلبات اتصلت به على رغم ابتعاده عنها. وبين قرار العزلة في العام 402هـ "1012م" ورحيله عن الدنيا في سنة 449هـ "1059م" شهدت الديار الاسلامية سلسلة حوادث متعارضة دفعتها يمنة ويسرة حتى استقرت قبل فترة وجيزة من وفاته. ففي مصر مثلا ظهر المذهب التوحيدي "الدرزي" في عهد الحاكم الفاطمي في العام 408هـ "1018م" وهو المذهب الذي اثار أسئلة ومشكلات وانتشر في بعض فروع قبيلة المعري التنوخية.

وفي الاندلس شهدت تلك الديار العامرة عصر الفتن والاضطرابات أيضا وانتهت بسقوط الدولة الأموية هناك في العام 422هـ "1031م". وفي بغداد تكرر مشهد الصراع على السلطة بين البويهيين والاتراك وانتهى في تلك الجولة بنجاح بني بويه في تجديد سيطرتهم على حكم العباسيين بعد وفاة الخليفة القادر بالله في سنة سقوط الدولة الأموية في الاندلس.

المشهد السياسي في آسيا لم يختلف عن تلك المشاهد التي تتالت في مصر والاندلس والمغرب والمشرق. ففي آسيا ظهرت دولة السلاجقة في وسطها ونجحت في القضاء على الدولة الغزنوية في العام 429هـ "1037م" أي في السنة التي توفي فيها الفيلسوف/ الطبيب ابن سينا.

المشهد الآسيوي كان الأكثر تأثيرا على المشرق والخلافة العباسية لأن انقلابه سينعكس على إدارة الخلافة في بغداد وسيكون بداية تحولات فكرية وخطوة على طريق نمو الحركة السلفية "الاصولية" وامتدادها في معظم الاقاليم الإسلامية. ففي تلك البقعة الاستراتيجية في آسيا الوسطى لعبت الدولة الغزنوية منذ لحظة قيامها بالقضاء على الدولة السامانية في العام 389هـ "999م" دورا مميزا في الفتوحات الإسلامية في الهند. فهذه الدولة "الغزنوية" كان لها الفضل في نشر الاسلام في آسيا "كشمير تحديدا" في العام 414هـ "1023م" وتثبيت مواقعه في تلك المناطق.

هذه النجاحات التي حققتها الدولة الغزنوية على مستوى الفتوحات ونشر الاسلام وتعزيز وجوده في الهند وآسيا الوسطى فشلت في حمايتها من الانهيار تحت ضربات السلاجقة. ومنذ تلك اللحظة شهدت آسيا نمو دولة قوية ذات طابع عسكري في تنظيمها الهرمي وتراتب علاقاتها الداخلية وهو أمر ساعدها لاحقا على الامتداد غربا نحو إيران والعراق. وفي أقل من عشرين سنة تطورت تلك الدولة وامتد نفوذها مستفيدة من ذاك الصراع الذي تجدد على إدارة السلطة في بغداد بين الخليفة العباسي القائم بأمر الله وأسرة بني بويه التي بدأت تخطط للتحالف مع دولة الفاطميين في مصر لقلب الخلافة العباسية. وبسبب مخاوف الخليفة من حصول ذاك التحالف البويهي - الفاطمي استعان بالسلاجقة لنجدته... وهذا ما حصل في سنة 447هـ "1057م" حين دخل السلاجقة بغداد بموافقة الخليفة القائم وقضوا على دولة بني بويه وبسطوا نفوذهم على عاصمة الخلافة الى فترة مديدة.

سقوط دولة بني بويه وصعود دولة السلاجقة في بغداد لم يكن مجرد حركة سياسية عادية في تاريخ الخلافة العباسية. فهذه الحركة احدثت هزة ثقافية "ايديولوجية" نقلت الدولة من ضفة فكرية إلى أخرى وأعادت تأسيس منظومة علاقات اقتصادية وشبكة مدارس اطلقت سلسلة تيارات أصولية "سلفية" اسهمت في توليد منهجية فقهية كلامية "شافعية - أشعرية" قادها لاحقا الامام الغزالي "أبوحامد" الذي اشتهر في قدرته الفائقة على مقارعة الفلاسفة وتقويض ما صاغوه وهندسوه من ابنية فكرية.

حدث الانقلاب السياسي/ الايديولوجي في بغداد قبل سنتين من رحيل المعري. فشاعر المعرة آنذاك مضى على عزلته قرابة 47 سنة وبلغ 85 سنة من عمره الطويل الذي قضى قرابة نصف قرن منه في عزلة فرضها على نفسه قال خلالها الفلسفة شعرا وردد الحكمة في قصائده من دون ان ينجح في تشكيل نسق فكري ومنهج فلسفي متجانس أو حتى متماسك في مواقفه المتقلبة. فحياته الفكرية كانت على عكس تلك العزلة التي أرادها انتقاما لحاله وعصره.

في العام 449هـ مرض المعري لمدة ثلاثة أيام وفي نهايتها رحل شاعر المعرة عن دنياه بعد رحلة "الغفران" التي كتبها ردا على أسئلة ابن القارح. وكانت تلك الرحلة قوة دفع من المخيلة أعطته فرصة للانتشار والتأثير على الأدب العالمي حين كانت أوروبا تبحث في الظلمة عن نور ينتشلها من عثرتها الزمنية


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/462629.html