صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 2939 | الأربعاء 22 سبتمبر 2010م الموافق 19 رمضان 1445هـ

دمية الأوتوـ كيو

المرأة والحداثة والثقافة المرئية (2-2)

هل يمكننا الحديث عما يمكن أن نسميه «الحداثة» و«إبداع المرأة» في منطقة الخليج العربي، أيّاً يكن الحقل المعرفي الذي تنشط فيه المرأة من دون التوقف مليّاً عند الظروف الصعبة والخاصة جداً التي ترسم قدر المرأة الاجتماعي وتؤطر شكل حضورها التاريخي؟

وفي ظل التشييء والاستهلاك الذي تتعرض له «رمزية» المرأة في شتى القنوات الفضائية العربية والتي لا تبقي غالباً، من كينونتها إلا تلك «الصورة الفاقعة» للجمال الأنثوي، ثرثرة «شفاه تتكلم» حركة شفاه، ولا يهم ما الكلمات، فالعين أبلغ من الاذن في التقاط الصور المثيرة للخيال الدفين... فتيات الأوتو كيو... حوريات عربيات حطم الأوتو كيو آخر ما تبقى من فرق بينهن وبين الرجل في القدرة على الكلام. فالأوتو كيو هو الصفحة الضوئية التي تثبت أسفل الشاشة ومنها يقرأ الجميع نساء ورجالاً، ويظن المشاهد المستلقي في اريكته وأوهامه أن مذيعته ومذيعه يقول كل ما يقوله يخبر ويدلي برأي ويتفلسف من رأسه لكن الحقيقة ان الأوتو كيو هو الذي يتكلم... وما الشخص الذي ملأ الشاشة بعلمه ومعرفته ورخامة صوته سوى دمية تتكلم. إنها دمية الأوتو كيو، ناقلة كلمات المعد حرفاً بحرف... بما في ذلك الأخطاء اللغوية.

ومع أن الأوتو كيو، وهو مفردة حداثية بامتياز، وثمرة من ثمراتها، ليس حكراً على النساء المذيعات ونجمات البرامج الخفيفة والثقيلة وما بينهما، كما نلاحظ، إلا أنه صديق المرأة، أكثر، ومنصفها... فلم يعد هناك أحد أحسن من أحد، أو أبلغ منه، فالجنسان بليغان في القول والتعبير، والجميع بليغ. حتى الركاكة في عامياتها المنتشرة على المحطات التلفزيونية المتكاثرة كفطر الغابة، بليغة.

لقد سئلت مرة عن تقويمي الشخصي كإعلامية وأكاديمية لهذا الجيل الجديد من المعلّقين والمتكلّمين العرب في الفضائيات، بمن فيهم النساء اللواتي يطلب منهن الكلام كضيفات في البرامج الحوارية. وكان رأيي ولايزال أن هذا الجيل الجديد من المعلّقين جيل من «الورم الثقافي» أكثر منه جيل «عضلات ثقافيّة» حقيقية.. وليس خافياً على أحد أنه جيل يغرف مفرداته من نهر الإنترنت، ويتكلّم بلا حساب، ولا حسيب.. ومن دون أن يكون هناك من يردّ الكلام إلى مصادره.. لقد صار الكلام مباحاً.. نعم، ولكنه صار بلا أهل. فكل الكلام لكل الناس، ومن دون تمييز. وهذا الخلط للأوراق، هو في العمق منه ضد الثقافة، قبل أن نحدد الهوية الفكرية والجمالية لهذه الثقافة، ومدى حداثتها أو رجعيتها. وقد مكن هذا الوضع من حصول خلط كبير في القيم، خلط يساوي بين المهرّج والمفكّر، وبين مبتكر الكلمة ومستهلكها، وبين المثقّف الحقيقي والجاهل المقنّع بقناع المثقّف. وفي نظري أن التلفزيون أكفأ وسيلة لتزييف الثقافة، والترويج للزيف، ومن ثم تكريسه. وهو أيضاً أعظم وسيلة لنشر الثقافة، وهنا خطورة هذا الجهاز العصري.


انفجار فضائي

ما سلف يقودني إلى استعادة تعبير سبق لي أن استعملته وهو تعبير الانفجار، فبعد الحادي عشر من سبتمبر وقع انفجار فضائي عربي، وبدا أن العالم العربي استجاب، وإن بطريقة غير منظّمة، ولعلّها فوضوية، لنداء الحداثة على الصعيد الاعلامي. والطريف (وأنا اتحدث استناداً إلى تجربة شخصية) أن ما كافح من أجل تكريسه جيل من المذيعين والمذيعات التلفزيونيين الخليجيين من أمثالي، في السبعينيات والثمانينيات وبعض التسعينيات على صعيد توطين «الثقافة» بمفهومها الأدبي في التلفزيون، في ظروف غاية في الصعوبة، بدت أشبه بمن يمشي في حقل من الشوك، من دون أن يتمكّن هذا الجيل من زحزحة إدارة التلفزيون عن موقفها المعادي لـ «الفقرة الثقافيّة» الجادة، الطريف أن هذه الادارة نفسها، ظهرت عليها فجأة مع التطوّرات العالمية التي أشرت إليها سابقاً «عوارض ثقافيّة»، وباتت تتكلّم بمصطلحات الثقافة التلفزيونية الحديثة، بل إن بعضها سبق إلى الأمام وصار يتحدّث عن شيء اسمه «ثقافة التلفزيون» و»ثقافة الصورة»، وليس مجرّد علاقة التلفزيون بالثقافة، أو علاقة الفقرة الثقافيّة في التلفزيون. ومع إدارات من هذا النوع بتنا، نحن الاعلاميين الذين عشنا مراحل أساسية من الصراع بين الاعلامي المثقّف والادارة التلفزيونية المحافظة، في خضمّ جديد من التطلّعات الادارية التي اعتبرت التلفزيون نفسه «ثقافة» قائمة بذاتها، وربطت نفسها شكليّاً بالثقافة كحقل منتج للمعرفة، وراحت تتعامل مع الحياة الثقافية انطلاقاً من حاجات «الثقافة التلفزيونية القائمة بذاتها»، وهي في حقيقة الأمر، مستهلك رديء للمعارف. وليس منتجاً لها.


ثقافة النجوم

فهل مكن هذا الانفجار الحداثي في الفضائيات من نقل ثقافة عربية حديثة إلى الناس، والترويج للثقافة الحديثة. الواقع ان الذي حدث شيء آخر، فقد ظهرت الحاجة الى «الشاعر النجم» وليس الى الشاعر المبدع، وإلى الروائي ذائع الصيت وليس الى الروائي الجيّد، وإلى الكاتبة المشهورة بسبب «تجرّؤ» كتابتها على القيم، وليس الى الكاتبة الجريئة صاحبة الكتابة العالية، و»المفكّر المنتشر» وليس المفكّر العميق صاحب الأفكار المضيئة، و»الداعية السطحي» اللاعب بالكلام وليس الداعية الورع والنزيه، و»الموسيقي الاستعراضي المتثاقف» وليس الموسيقي الملهم والمبدع، فالتلفزيون يحب «النجوم»، «نجوم الأدب والثقافة والفكر»، ويختارهم مما يطفو على السطح، بحق وبغير حق، ليضاهي بهم (وليكونوا على قدم المساواة) مع المطربة الكبيرة «منفوخة الشفتين» المشهورة رغم محدوديّة صوتها، والمغنّي الكبير الذي راج اسمه بسبب أغنية يتيمة، والممثّل التلفزيوني المشهور، والممثّلة التلفزيونية المشهورة، وهكذا.. فالقياس هو الشهرة ومتطلّباتها و»مستوى» الناس واهتماماتهم. وهذان يحتاجان إلى بحث ودرس عميقين، فليس كل بسيط ويسير وتافه مما تقدّمه الفضائيات للناس باسم «مستوى» الناس و»اهتمامات» الناس، هو ما يريده الناس فعلاً. فمن تجاربنا كتلفزيونيين نعرف أن هناك إداريين في محطّات الفضائيات يفرضون اليسير والبسيط والتافه على مشاهدي التلفزيون، بحجّة أن «الجمهور عايز كده» بينما هو، في واقع الأمر، ما يريدونه هم، بل ما يطابق تصوّرهم الشخصي للأشياء ليس إلا.


ثقافة الشائع

والآن ما الذي يحمله في الجوهر منه هذا السلوك في رؤية كل شيء «نجومي» و»نجمي،» استقبال النجوم وتوديع النجوم والانشغال بالنجوم، هذا السلوك التلفزيوني «المائع»؟ ببساطة هو يحمل في جوهره وعرضه معاً تكريساً لثقافة «الشائع» و»الشيوع» و»الشائعة»، للسطحي والمسطّح، للموجود ولا فضل لك بوجوده، بينما الثقافة طبقات فوق طبقات وليست مجرّد قشرة على السطح ننشغل بها ونعرض عن سواها، حارمين التلفزيون، هو وجمهوره، من الغنى الكبير الذي تزخر به الثقافة تحت طبقة السطح. هذا إذا بقي فينا شيء من الحكمة القائلة بأن اللآلئ تطلب من الأعماق.

على أنني أحبّذ هنا أن أكون موضوعيّة، وأفرّق بين التجربة الشخصية للاعلاميين الجادّين، في كفاحهم على أكثر من جبهة لتحقيق ولو جزء من تطلّعاتهم، وبين الواقع الموضوعي وما يسمح به. لقد ولّى الزمن الرومانسي في النظر إلى الأشياء.. بتنا أكثر براغماتية وأكثر واقعية في النظر إلى الأشياء. وانطلاقاً من الواقعية في التفكير، يقتضي الحال أن نطرح الأسئلة حول ما نريد وما لا نريد، انطلاقاً مما يمكن أن نحقّقه وما لا يمكن تحقيقه.

لكن ذلك لا يمنعنا من الحلم، ومن التمرّد على المألوف، وطرح أسئلة شاغلة، أسئلة لا تلتزم بسقف المطروح من الأسئلة حول علاقة التلفزيون ببيئته المجتمعيّة منتجاً للثقافة، ومستهلكاً للثقافة.


أسئلة حارقة

ويعني لي، هنا، أسأل المعنيين بعلاقة التلفزيون بالثقافة، أسال أسئلتي وأسئلة غيري: هل التلفزيون جهاز منشّط للوعي ومحفّز للجمال، وملهم للخيال والفكر؟ أم هو جهاز مخدّر؟ وهل يمكن خلق توازن بين ما يسمّى «الثقافة التلفزيونية» و»الحياة الثقافيّة» و»ثقافة المجتمع»، بمعنى آخر هل يمكن الموازنة في برامج التلفزيون بين ما هو إمتاع ومؤانسة، وبين ما هو فكر وثقافة وقضايا توصف بأنها جادة؟ ولأكونَ أكثر تحديداً وأسأل، كيف يمكن إصلاح الخلل الفادح في «ثقافة التلفزيون»، التي تميل بصورة فاجعة لمصلحة «الطرب اليومي» و»حديث النجوم» المحشو بالسخف والخالي من كل طرافة، وهذا يدور بعد، أو قبل نشرة أخبار مبلولة بالدم، وفي ظلّ ظروف عربية أقلّ ما يقال فيها إنها فاجعة؟

وعند هذه النقطة يجعلني قلقي من الحال التلفزيونية العربية أسأل نفسي وكذلك محيطي من الاعلاميين: هل أتيحت لنا الفرصة، وجرّبنا وفشلنا في دورنا كإعلاميين في ربط الناس بالثقافة، وربط الثقافة بحياة الناس اليومية؟ وهل أتيح لنا، ولم نتمكّن من تقديم ثقافة إنسانية الطابع، منشغلة بالإنسان في حاجياته الروحية المختلفة وعالمية الفحوى، منفتحة على الآخر القريب والآخر البعيد في ظلّ محيط عالمي متموّج بالأفكار والأعمال والتطلّعات؟

مثل هذه الأسئلة التي طالما شغلتني تقودني في كل مرة إلى أسئلة أخرى محبطة للآمال، من قبيل: من يملك التلفزيون العربي اليوم.. الدول؟ العائلات الحاكمة؟ الأحزاب والجماعات السياسية؟ أم الشركات الاقتصادية؟ أم غيرها..؟ وما علاقة أولويات هذه المرجعيات بالناس وثقافتهم؟ ولمن تشتغل لمصلحتها أم مصلحتهم؟

إن الجواب عن هذه الاسئلة الجوهرية، (التي وصفتها بأنها محبطة)، يحدد مضمون مجمل الأسئلة السابقة لها واللاحقة عليها.

سأتظاهر بأنني متفائلة، وأطرح مزيداً من الاسئلة الشاغلة من قبيل: ترى، هل يمكن أن ينشأ نقاش منتج حول المادة الثقافيّة التلفزيونية وأولوياتها ومستواها الابداعي جمالياً وفكريّاً، وهل يمكن أن تتحدّد جرعات المادة الثقافيّة ودرجتها وكثافتها وتوجّهاتها، استناداً إلى دراسة حقيقية لما تزخر به الحياة الثقافيّة العربية؟

ما هي حقيقة الأزمة في علاقة القنوات الفضائية بالمادة الثقافيّة: هل هي أزمة معلن وممول، أم أزمة مقدّمي برامج من ذوي الكفاءات العالية؟ أم هي أزمة سياسة وتوجّه أعلى من المشرفين على العمل التلفزيوني؟

هل يطّلع القائمون على العمل التلفزيوني العربي على البرامج الثقافيّة والمعرفية الجادّة جداً في المحطات العالمية: الفرنسية والإنجليزية والألمانية خصوصاً؟ هل هم على اطّلاع كيف يجري تمويل هذه البرامج مثلاً؟

هل تنتبه إدارات الفضائيات العربية إلى أن السياسة التي تنتهجها في اختيار الضيوف والموضوعات والقضايا، أدّت إلى غربة التلفزيون عن المبدعين والمثقّفين وهم جسم كبير جداً؟

هل يمكن خلخلة الصيغة القائمة بين التلفزيون وحركة الثقافة لمصلحة جدل وحوار حقيقيين حول مختلف القضايا وفق أجندة جديدة وتعاقد جديد بين التلفزيون وأوسع فئات ممكنة من المبدعين والمفكّرين، بما يخدم الثقافة والمجتمع ويجعل من الفضائيات نوافذ حقيقية مشرّعة على كلّ الجهات؟


ثقافة الحوار

أنا أعتبر أن حواراً كهذا يجب أن يكون ممكناً، ليساعد المجتمع على تبنّي ثقافة الحوار والقبول بالآخر على قاعدة الاحترام المتبادل بين الأنا والآخر بما يكبح مثلاً ثقافة العنف ورفض الآخر، انطلاقاً من أيديولوجيات غاضبة، ولكي يجعل الأطراف المختلفة تعبّر عن نفسها، وعن حاجاتها الثقافيّة والروحية. لكن المشكلة أن هناك من بين المشرفين على الفضائيات من لا تبتعد ثقافته عن (أو تزيد على) ثقافة العموم، وبالتالي فأنا لا أخاطب هنا هذا البعض، لكنني أخاطب أهل القرار الذين قالوا لنا إن هذا او ذاك هو الشخص الذي سنستأمنه على ثقافة المجتمع والأجيال الجديدة... ما دامت الأجيال الجديدة هي النسبة الأكبر في مستهلكي البث التلفزيوني.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/475931.html