صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 2993 | الإثنين 15 نوفمبر 2010م الموافق 18 رمضان 1445هـ

لماذا تغيب المناظرات؟

الكاتب: محمد فاضل العبيدلي - .

في غمرة الرسائل النصية المنهمرة على هواتفنا كالمطر في موسم الانتخابات، استلم هاتفي النقال رسالة تدعو متلقيها لحضور مناظرة بين اثنين من المرشحين في الانتخابات في المحافظة الوسطى. سررت بهذا ودونت التاريخ والموعد في مفكرتي ممنياً نفسي بحضور مناظرة، لطالما اعتبرتها علامة على نضج سياسي ووعي أكبر بأدوات الديمقراطية. لكن رسالة نصية وصلتني في اليوم التالي مباشرة تعلن أن المناظرة ألغيت.

وما إن انتهى الموسم، تذكرت أن هذه الانتخابات لم تشهد مناظرة واحدة بين أيٍّ من المرشحين، لا مرشحي مجلس النواب ولا مرشحي المجالس البلدية. وعلى هذا، عاد السؤال القديم يلح في ذهني: كيف يحكم الناخبون على جدارة أي مرشح؟ أليست المناظرات وسيلة مثلى للتعرف على آراء المرشحين وبرامجهم والأهداف التي يسعون لتحقيقها؟

لكن هل هو الجمهور الذي يفرض على المرشحين أن يدخلوا في مناظرات أم هم المرشحون الذين يفترض فيهم المبادرة إلى إقامة المناظرات لتوفير أداة أفضل وأكثر موضوعية للحكم على جدارتهم؟

إذا كان الجمهور هو من سيفرض هذا، فهذا يدل على وعي انتخابي عال جداً لناخبين يملكون مقاييس صارمة وموضوعية للحكم على مَن سيختارون لتمثيلهم. وإذا كان المرشحون المتنافسون هم من يقترح الدخول في مناظرات فيما بينهم، فإن هذا مؤشر يمكن أن يطمئننا قليلاً إلى أن مَن يفكر في خوض غمار العمل العام وتمثيل الناخبين يريد الفوز بأصوات الناس بجدارة يثبتها. فالمناظرات أجدى للحكم على المرشح من الإنفاق ببذخ لإشباع بطون الناخبين أو إقامة مدينة ملاه صغيرة لأطفالهم، أو رشوتهم بأكياس الرز أو دفع فواتير الكهرباء؛ لأن هذا محض نفاق.

لكنني تذكرت أيضاً، أن الصحف خلت من أي مناظرات بين مرشحين، وإن عمد بعضها إلى شيء من التوازن في تغطياتها، فإنها خلت من أي مناظرة أيضاً بين أيٍّ من المرشحين. الصحف التي تمثل بالنسبة إلى الجمهور زاده اليومي لكل ما يجري في الانتخابات. فما يقرأه الجمهور في الصحف، يردده في اليوم نفسه أو بعده في الخيام الانتخابية ومقار المرشحين المجالس والديوانيات.

هكذا، تبدو المناظرات أداة مهمة من أدوات الديمقراطية مازالت غائبة. فالانتخابات الأخيرة، كانت الثالثة منذ العام 2002 لكننا لم نشهد وفي 3 انتخابات نيابية وبلدية إلا مناظرة واحدة، هي تلك التي جرت في انتخابات 2002 بين مرشحي الدائرة السابعة في المحرق.

حقاً، لماذا لا نشهد مناظرات بين المرشحين؟ ولماذا لا تعمد الصحف أو وسائل الإعلام لإجراء مثل هذه المناظرات بين المرشحين؟ ففي الولايات المتحدة، البلد الوحيد الذي يمكن أن تقرر فيه المناظرة مستقبل أي مرشح، كانت المبادرة الأولى تاريخياً في تنظيم المناظرات لوسائل الإعلام وليس للسياسيين.

يبدو هذا الغياب، ثمرة طبيعية لثقافة عامة لاتزال تعتمد على مقاييس ليس من بينها المناظرات إذا ما تعلق الأمر باختيار مَن يمثلنا. لكن أيّاً كانت هذه المقاييس، دينية أو قبلية أو عائلية أو طائفية ومهما فصلنا فيها، فإنها ليست مبرراً لغياب المناظرات. فالمناظرات هي الأسلوب الأمثل لاختبار المرشحين أيّاً كانت دوافعهم وخلفياتهم. إنها المقياس الأفضل للحكم على الأفكار والبرامج، بل وحتى على تلك المقاييس التي مازلنا نرى أنها تمثل عائقاً من نوع ما لنمو ثقافة سياسية وديمقراطية تملك شيئاً من السوية.

إن كان غياب المناظرات، قد يعد إحدى سلبيات الوعي الانتخابي، فإنه سيقودنا أيضاً إلى مستوى نقاشنا العام ونوعيته. وليس من عبارة رائجة (مقابل ملطف لمفردة مبتذلة) أكثر من «الرأي والرأي الآخر» لتُرينا، كيف أننا ترجمناها عملياً بفعل هذه الثقافة إلى جدال دون نتيجة. محض جدال يحركه العناد فحسب، أي «مْعَايَاهْ» مثلما نقول بعاميتنا اللطيفة. وثمة مختبر جيد لتلمس هذا السلوك الفعال في تحويل المناظرة (بما تعنيه من موضوعية في الجدل) بين رأي ورأي آخر إلى محض جدال سيخرج بعده الجمهور إما مستاءً وإما مبتسماً من تسلية اعتادها. فليس أفضل من ذلك النوع من المتداخلين من رواد المجالس والندوات ممن لا يجيدون سوى التداخل وكأنه واجب واستفزاز المتحدث وتأويل كلماته إلى وجهة بعيدة عن موضوع الحديث. تسلية اعتادها جمهور المجالس والندوات، لكنها في النهاية ستضيع أي قيمة للنقاش لأنها ستحوله إلى موضع آخر ووجهة أخرى.

هذا النوع من المتداخلين هو الذي سيذكرنا بالعداء الذي تكنه ثقافتنا العامة للمناظرات كأفضل أسلوب لتكوين الأحكام والتماس الحقائق عبر الجدل والنقاش الموضوعي. هذا النوع الذي سيردنا إلى عاميتنا اللطيفة من جديد وهي تصف أمثالهم بمفردة مضحكة: «ملاقبي».

فعندما كنا صغاراً، وكلما دخلنا في حديث للكبار مقاطعين أو مشاكسين بعيداً عن الموضوع، أو حتى إن حاججنا ونحن نستمع لتعليمات الكبار، يلتفت إلينا أحد الكبار موبِّخاً: «وراك ملاقبي يا ولد؟».

«الملاقبي» هو الاسم والنعت «ملقوب» لمن رسخت أقدامه في «الملاقب» والفعل «يلاقب». هو من يشوش على المتحدثين حديثهم ويقاطعهم عندما لا تجوز المقاطعة ويكثر من الحجَاج في كل صغيرة بدافع من معاندة لا أكثر. لا يميل للنقاش الموضوعي (لأنه لا يملك أدواته بالأصل) بل للتسفيه وافتعال الأزمات. تحركه العواطف والأحكام المسبقة أكثر من الحقائق. وكلما بدا الجمهور والنقاش يسير نحو العقل والمنطق، تدخل «الملاقبي» ليقوده نحو اليأس والعدم.

أي كل ما هو بعيد عن العقلانية والسوية، وثمة ما أضحكني أكثر ودفعني للتكهن بصلة عميقة بين عاميتنا وبين عامية شعب عربي آخر يبدو بعيداً عنا هو الشعب الليبي. فالليبيون يطلقون على العرَق المسكر والمقطّر من قلب النخلة اسم «لاقبي». ويبدو أن أجدادنا أضافوا حرف «الميم» لبيان اسم ونعت لمن يتعاطى «اللاقبي» الذي يُذهب العقل فأسموه «ملاقبي».

لمن سيقرأ هذه السطور ولمن لن يقرأها... كل عام وأنتم بألف خير.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/510340.html