صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 3674 | الخميس 27 سبتمبر 2012م الموافق 19 رمضان 1445هـ

الأخلاق الطبية

الكاتب: نهاد نبيل الشيراوي - comments@alwasatnews.com

العلم والأخلاق مثل التوائم السيامية التي يستحيل فصلها دون التضحية بأحدها أو بجزء منها، لأنهما يشتركان في أكثر من عضو حيوي ومهم. يظن البعض أن العلم يجب أن يكون طائراً حراً بلا قيود ولا أغلال تحد من إبداعات العقل البشري واكتشافاته، بينما يرى البعض الاخر أن الضوابط الأخلاقية لابد منها ولا غنى عنها وإلا صار العلم انفلاتاً وتحولت المعرفة إلى نقمة وبغت فئة على فئة واستعبدتها وقامت باستغلال ضعفها ثم إبادتها.

إذا كان العلم والأخلاق توأمان، فالأخلاق هي روح الطب وقلبه النابض وشرايينه المغذية، رغم ان الكثير من فروع العلم تمس الإنسان بشكل أو بآخر، من قريب أو بعيد، إلا ان الطب هو أشدها قرباً وأكثرها التصاقاً بروح الإنسان وعقله وجسده. كل العلوم اخترعها الإنسان أو اكتشفها وجندها لصالحه ومن أجل خدمته وراحته وتطوره. لكن في حد ذاتها، تعتبر العلوم كافة مجرد كلمات على ورق أو نظريات مجردة حتى يأتي الإنسان فيمنحها معناها وينقلها من حيز الورق الجامد إلى فضاء التطبيق الفسيح. فلنأخذ اختراعا كالبارود مثلاً، وهو خليط من نترات البوتاسيوم بالإضافة إلى فحم وكبريت، وتاريخ اكتشافه قديم جداً يعود إلى قدماء الصينيين. على الورق، يعتبر البارود مجرد مواد كيميائية ومعادلات تنتج عنها تفاعلات محددة، من يحول هذا الاكتشاف إلى شيء جميل كالألعاب النارية، أو أمر مخيف كالبنادق والمدافع هو الإنسان. تتكون البذرة الأولى لأي فكرة في مخ الإنسان ثم تنمو وتتفرع وتخرج لحيز النور إما طيبة نافعة أو شريرة ضارة.

الطب هو أكثر العلوم قرباً منا واعتماداً علينا وفائدة أو ضرراً لنا.

في الجامعة، ندرس علوم التشريح ووظائف الأعضاء وعلم الأجنة وعلم الأدوية والعقاقير في السنوات الأولى، ثم نركز بعدها على العلوم الإكلينيكية كالطب الباطني والجراحة والأطفال والعظام وطب النساء والولادة. نقرأ وندرس المواد في الكتب لكننا نعتمد اعتماداً كبيراً على التدريب العملي في المشرحة والمختبر والمستشفى. نشّرح الجثث ونحفظ اسم ومكان كل عصب وعرق وعضلة، ونشاهد الخلايا والأنسجة ونتعرف على أنواع البكتيريا والفيروسات والطفيليات تحت المجهر، ثم نعاين المرضى ونلمس أجسادهم ونكشف عوراتهم لنكتشف أمراضهم ونشخص عللهم ونعرف علاجهم.

ما الذي يفرق عالما عن آخر وطبيبا عن غيره سوى اتساع الخيال وغزارة المعرفة ومهارة التطبيق؟ ما الذي يجعل عالما ما ناجحا واخر فاشلا؟ ما الذي يصّير طبيبا لامعاً مشهوراً وسواه مجهولاً مغموراً؟ لاشك ان ما يجعلنا نحترم عالما أو طبيبا ولا نقدر اخر هو شيء آخر تماماً غير العلم والمعرفة والمقدرة الطبية. إن احترامنا لشخص ما ينبع مما يتمتع به من أخلاق وما يلتزم به من ضوابط تجعله يوظف علمه وتدريبه في خدمة البشرية لا دمارها وفي نفعها لا ضررها.

يظن البعض ان علم الأخلاق الطبية وضوابط البحث العلمي هو شيء يأتي بالممارسة لا بالدرس، لكن الحقيقة هو مادة تدرّس في الجامعات وتمنح فيها شهادتا الماجستير والدكتوراه. لقد تنامى الوعي بحاجتنا لمثل هذه المادة مع تسارع وتيرة الاكتشافات العلمية والطبية التي بدأت تدخل مجالات كانت تبدو لنا منذ زمن غير بعيد مستحيلة، وصارت تلامس مناطق حساسة دينياً وأخلاقياً تتفق أو تتعارض مع مبادئ الشرائع السماوية. هناك أطفال الأنابيب والتلقيح الصناعي وحفظ الأجنة وتجميد البويضات والحيوانات المنوية وتأجير الأرحام وعمليات الاستنساخ وبنوك الأعضاء وعمليات نقلها وزراعتها وما يتبع ذلك من تجارة وبيع وشراء، وعمليات تغير الجنس أو تصحيحه وعمليات التجميل والتكبير والشفط والحقن والترقيع. اكتشافات علمية عديدة المفروض أن تصب جميعها في خدمة الإنسان وراحته وسعادته، لكن البعض قد استغلها لغرض الكسب أو التجارة أو السيطرة أو التلاعب أو إشباع غريزته ورغبته في التفوق والتسلط والهيمنة. من هنا تأتي أهمية وجود قوانين تحدد وتضبط عمليات البحث العلمي المتعلقة بالإنسان، وتعنى بالعلاقة بين الطبيب ومريضه من جهة، والطبيب وبقية العاملين في المجال الصحي من جهة أخرى.

في المقالات التالية، سوف أصحبكم معي في رحلة شيقة عن تاريخ الأخلاق والمبادئ الطبية وقوانينها وأهميتها للطبيب والمريض على حد سواء.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/704924.html