صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 2463 | الخميس 04 يونيو 2009م الموافق 19 رمضان 1445هـ

خلال استضافته بأسرة الأدباء

الزنج - حبيب حيدر

حل الناقد السعودي والأستاذ الأكاديمي معجب الزهراني خلال الأشهر الماضية في أكثر من لقاء ضيفا على الشهد الثقافي في البحرين، متنقلا بين جمعية المنتدى وجامعة البحرين ثم أخيرا في أسرة الأدباء والكتاب، وفي كل لقاء كان يترك وراءه الكثير من الأسئلة المفتوحة عبر ما تثيره مقولاته المختزلة من استفهامات تظل عالقة تفتح الفكرة تلو الفكرة.

وفي أمسية أسرة الأدباء والكتاب تحدث الزهراني عن دلالات الرواية السعودية أو ما أسماه بالطفرة الروائية ومفارقاتها مؤكدا على أن الكتابة الروائية تمثل اليوم ظاهرة أدبية- ثقافية تلفت النظر وتثير التساؤل.

وفي البداية أشار الزهراني إلى ظاهرة تكاثر الروايات والتوجه نحو الاهتمام بها بقوله «إن سيرورة الإنتاج الروائي تتكاثر وأسماء الكتاب والكاتبات تطل من كل الجهات والأعمار لتوقع نصوصا تتوزع على عديد التوجهات الجمالية والتوجهات الفكرية. ومن زاوية التلقي لا يخفى أن المنتوج الجديد يوشك أن يحتل مركز الجدل في الوسط الثقافي عبر مقالات نقدية أو حوارات أو ندوات مختلفة، وأن رسائل وأطروحات جامعية أصبحت تفضل الحوار مع هذا الجنس الأدبي إما لأنه خطاب جديد جذاب في ذاته، أو لأنه غني كل الغنى بثيمات تتصل بقضايا إشكالية طالما صمتت عنها الخطابات السائدة لفرط محافظتها وحذرها. وقد بدأت المغامرات الروائية الأولى بثلاثة أعمال شكلت جزءا من خطاب إصلاحي وطني تمحور حول مقولات الحرية والعدالة والتقدم».

ثم تحدث الزهراني عن منطق التاريخ ومنطق التقنية فأشار إلى أن الأحداث... هي بمثابة الهزات العنيفة التي ما إن تتوالى حتى تلحق التصدعات بمجمل البنى السائدة، ومنها البنى الرمزية التي تتجلى في مستوى التصورات والأفكار والقيم والمعايير المعرفية والأخلاقية والجمالية. وتابع بأن الرواية هي جزء من خطاب معارض يطيب له أن يصاحب التاريخ ويشارك فيه لأنه سيرورة منفتحة تضمن له المزيد من المشروعية الرمزية والفاعلية العملية. لكن هذا الخطاب الأدبي يتميز بقدرته الاستثنائية على المشاركة في تجديد آفاق الخطابات الثقافية الحديثة كلها وذلك نظرا لكونه كتابة تشتغل دائما ضد التوهمات والأساطير التي عادة ما تنتشر في السرديات التقليدية كما لاحظه هيجل ولوكاش وإدوارد سعيد.

وحول قراءة الرواية كخطاب حديث أشار الزهراني إلى أنه بالرغم من أن الخطابات التقليدية التي تهيمن على مجمل المؤسسات الرسمية تبالغ في مديح الواقع وتمجيد الأسلاف. إلا أن الخطابات الحديثة حاضرة، وبقوة، في كل مجال، وهي تمكر وتراوغ لتباشر النقد الجاد أو الساخر لكل شيء يعيق تقدمها أو يشكك في مشروعيتها. وهي تؤمن هذا الدور لأن الحدث التاريخي الذي خلخل الوضعيات وغير العلاقات لم يأت وحده هذه المرة. فالتقنيات المعلوماتية والاتصالية اخترقت الحدود لتحضر في كل المجالات وتؤثر في كل العلاقات.

وحول دور وسائل الإعلام الحديثة في المشهد الروائي أضاف الزهراني «هاهي وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت تخبر وتوثق وتختلق وتصور وتلون وتبرز وتهمش وتكشف وتفضح وكأن مكرها يعلو على مكر التاريخ الذي لم يعد ممكنا تشكيله وصنعه من دونها،...» وخلاصة القول أن هذه كلها عوامل إبدال جديدة طرأت في العقود الثلاثة الأخيرة وغيرت معطيات المشهد دون أن تستأذن أحدا. وبعد أن تهدمت الحدود وحدثت التصدعات كان من المنطقي تماما أن يبرز الخطابات الروائي لأن الزمن زمنه، ولأنه لم يكن غائبا تماما عن المشهد من قبل بقدرما كان مهمشا أو مقموعا بكل بساطة.

ثم أشار الزهراني إلى مسألة بروز الوعي الفردي ومكره،... فهوية الإنسان الحديث لم تعد تتحدد بانتماءاته وهوياته القديمة، بل ربما على الضد منها، وهي تنحو هذا المنحى لأن معاني الاستقلال والتحرر لا يمكن أن تنفصل عما يقرره ويفعله الشخص ذاته كل يوم كذات تعي شروط حياتها وتحرص على كسب حقوقها بكل الوسائل المتاحة. تحقيق الذات بهذا المعنى هو إذن رهان يومي مفتوح بقدر ما هو قضية إشكالية حادة في مجتمعاتنا التي لا تزال تقليدية في عمومها... وهناك جيل جديد لم يعد يبالي كثيرا بصفات ونعوت من هذا النمط لأن ممثله النموذجي فرد متعلم أصبح يعيش في بيت خاص ويعمل في مؤسسة حديثة بمدينة كبيرة، وله شبكة علاقات واسعة ببشر من مختلف الأجناس والفئات، ولم يعد يعتمد كثيرا على الأقرباء لتأمين ضروريات حياته وهكذا. أما إذا كان الفرد مثقفا مبدعا فالمؤكد أن وعيه بذاته المختلفة المستقلة سيبدو له المكسب الأثمن من تلك التحولات وما حايثها من تصدعات. فحريته وغربته وجهان لعملة واحدة، وكتابته لا يمكن أن تترجم أحواله وتشخص هواجسه من دون أن تفضح شيئا من تلك الخطابات التي خرج عنها وتمرد عليها بوعي وقصد في مرحلة عمرية معينة. ثم إن مراجعته لحكايات نظرائه وأسلافه عادة ما تبين له أن جل المبدعين والمثقفين من قبله عارضوا سلطات ما وتعرضوا لأذاها، وهذا بالضبط ما حولهم، شخوصا ونصوصا، إلى رموز في السياق الأدبي وربما في السياق الثقافي برمته.

وتابع الزهراني بأن الوعي بالذات الفردية هو وعي تراجيدي في جوهره، والمبدعون في مجالات الفكر والعلم والفن كائنات بطولية شقية بامتياز حتى لكأن الوعي ينجز ولا يضمن السعادة لصاحبه. وليس غريبا أن المغامرات الروائية التي دشّنت السيرورة السردية الجديدة تنسب إلى أكاديميين بارزين محليا وجهويا وحتى عربيا ربما، وهما غازي القصيبي وتركي الحمد. فالوعي هنا مفهوم يسمي حالة متقدمة من فعل البحث المعرفي الطويل والمعمق من جهة أولى، ومن أفعال الحياة إذ تعاين كتجربة غنية بالمغامرات والمنجزات والخسارات من جهة ثانية. ثم إن البدء بروايات سير ذاتية محدودة كما في «شقة الحرية»، أو ممتدة كما في «ثلاثية الأزقة المهجورة» يعني فيما يعنيه أن الذات الكاتبة اختارت أن تحول تجربة حياتها ووعيها إلى موضوع للتأمل والحوار، ودونما كبير اعتبار لمنطق الرقابة. فالكتابة يراد لها أن تشخص الذات كآخر مختلف عسى أن تضع أمام القارئ نصا يكشف ملابسات الحياة التي خبرها كثيرون وإن لم يكتب عنها أحد بهذه النبرة الجريئة الواضحة من قبل. ومن يقرأ هذه النصوص سيلاحظ أن الوعي الإيديولوجي مثل الموضوع المركزي في الحكاية منظورا إليها في مستوى زمن السرد، بينما مثل الوعي الفكري الناقد للماضي وخطاباته حافز النص ودلالته الأهم من منظور زمن الكتابة. ونشير إلى هاتين التجربتين الرائدتين لأنهما حطمتا حاجز الخوف وكسرتا منطق الصمت والتردد لتعلنا أن أفقا جديدا قد تشكل ويمكن أن يوسعه آخرون ويثروه باستمرار. وهذا ما حصل بالفعل. فما إن حضرت، وبعد سنوات قليلة، أسماء من جيل الشباب الراهن حتى جاءت الكتابة عن الذات المثقفة أشد جرأة فكرية وأكثر تطورا جماليا. ومن يقرأ روايات محمد حسن علوان وليلى الجهني ونوره الغامدي وعبده خال ويوسف المحيميد ورجاء الصانع وصبا الحرز سيدرك جيدا ما أرمي إليه. فكتابة هذا الجيل قد تصدر عن وعي أقل عمقا، وقد تشخص تجارب حياة عادية أو مبتذلة، لكن المؤكد أنها أكثر تمثيلا لواقع معقد ملتبس لم يعد أمام أبطاله وضحاياه سوى التكيف معه والتعبير عنه بما أنه عالمهم الوحيد المتاح في عالم اليوم. لهذا السبب لم يعد القارئ يفاجأ حين يجد في نصوصهم شخصيات مذكرة أو مؤنثة تتحدث وتتصرف دونما اعتبار للقيم أوتهيب من الخوض في دوائر المحرم كلها. من هنا نطل على التساؤل الأهم في هذا المقام: هل يتعلق الأمر إذن بفساد نوايا الكتاب والكاتبات كما يشيعه النقد المحافظ، أم إن هؤلاء المبدعين المثقفين يشخصون واقعا متصدعا وثقافة تحتاج إلى مراجعة جذرية شاملة لتكون أكثر سوية وإنتاجية؟.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/8370.html