صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4213 | الخميس 20 مارس 2014م الموافق 19 رمضان 1445هـ

صناعة الثقافة العربية رقمياً وهواجس الخصوصية والهوية

الكاتب: منبر الحرية - comments@alwasatnews.com

(بشرى زكاغ: كاتبة مغربية، والمقال ينشر بالاتفاق مع مشروع «منبر الحرية»)

كان للتطور التقني الصناعي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الأثر الكبير في تطوير مجالات الحياة، خصوصاً مجالات الاتصال والتواصل والتنافس، ما أدى إلى تنشيط حركة التفاعل داخل المجتمعات، وأفرز صراعاً بين الدول الصناعية على المستعمرات لتأمين المواد الأولية والعمالة والأسواق. أدى ذلك إلى حربين عالميتين طاحنتين، ثم الحرب الباردة التي احتدمت تجاذباتها خلال فترة الستينات والسبعينات، كل ذلك أدى إلى «ظهور آلات وأجهزة ذكية انتقلت من النظام الميكانيكي إلى الإلكتروني»، ولولا هذه الإلكترونيات لما أمكن لآلة صماء كالحاسوب، أن تتولى مهمة ذهنية تشبه في جزء كبير منها ذكاء الإنسان.

ومن ثم بدأ بزوغ عصر جديد قائم على العلوم والتكنولوجيات الحديثة، وكان من أهدافه بناء «مجتمع الإعلام والمعرفة»، ما طرح على بلدان العالم عدة أبعاد إستراتيجية، توجب أخذها بعين الاعتبار في مختلف الأجندات والمخططات التنموية، خصوصاً البعد الثقافي الذي ركز على ضرورة إطلاق الحريات ودعم المواهب والإبداعات والمبادرات الخلاقة، ونشر الوعي والثقافة بين أفراد المجتمع.

مع مطلع الألفية الجديدة، تغيرت الكثير من الأوضاع والأمور على مستوى القطاعين، تكنولوجيا المعلومات من جهة، والثقافة من جهة ثانية، فبعد أن ظهر للعيان ما فعله الاقتصاد في غيبة الثقافة بمسيرة التنمية المجتمعية، كان لابد للثقافة من أن تصبح محور التنمية، فاحتلت بذلك موقع القلب المحرك الذي تدور حوله عمليات التنمية القطاعية، ومن ثم ولأول مرة في التاريخ الحديث شكلت القدرة على تقديم أفكار وأشكال جديدة للتعبير، وليس الأصول المعدنية والزراعية والصناعية، قاعدة مصادر القيمة في المجتمع.

لقد وجدت الثقافة في تكنولوجيا المعلومات أداة جديدة ذات إمكانات غير مسبوقة في التنمية والانتشار، كما رأت التكنولوجيا في الثقافة فضاء رحباً وبكراً يسمح لها بتمدد غير مسبوق في نسيج المجتمعات الحديثة، الأمر الذي أفرز تحولات كبرى في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية.

هكذا إذن دخلت تكنولوجيا المعلومات عالم الثقافة من واسع أبوابها وأصبحت أهم تطبيقاتها، لكن ذلك لم يعنِ تجريد المنتجات الثقافية من سماتها الفنية والجمالية، فلايزال الإبداع والذوق والجمال جوهر الثقافة، غير أن هذه المنتجات في ظل المستجدات الحديثة أصبحت تحتاج إلى أفكار خلاقة وإبداعية تمتاز بالجدة وترقى إلى مستوى الابتكار والخلق من أجل نقلها إلى المستهلك، فقيمة السلعة اليوم لم تعد تقتصر على ما يدخل في تكوينها من مواد خام، أو ما يبذل في إنتاجها من مجهود، أو ما ينفق عليها من مال، وإنما في شكل المعرفة التي أدت إلى ابتكارها وإنتاجها ونشرها. هذه المعرفة اليوم صارت الذهب والنفط المحرك لاقتصاد المعلومات، هذا الأخير ما انفك يغلفها ويوزعها عبر الشبكات لتصل إلى عدد غير محدود من المستهلكين العالميين، الأمر الذي جعلها «سلعة رابحة» تحمل معها السيطرة السياسية والمكانة الاجتماعية والهيمنة الثقافية والاقتصادية على المجتمعات الأخرى.

وانتهى الأمر أن غدت الصناعات الثقافية نوعاً من القدرة على الفعل الثقافي، وعلى إنتاج وإعادة إنتاج الأفكار السائدة في المجتمع، ولكن بطريقة أكثر إبداعاً واجتذاباً، فالمنتجات الصناعية كلما كثر استهلاكها قلت قيمتها، كما أنها تخرج من الدورة الاقتصادية برمتها بنهاية استهلاكها، ويترتب عنها ضرورة تجديد قوة العمل من أجل تعويض ما تم استهلاكه؛ أما المنتجات الثقافية والإبداعية (الكتب، الأفلام والموسيقى..) على العكس من ذلك تماماً، كلما كثر الطلب عليها زادت قيمتها، كما لا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال نشاطاً تعويضياً لما تم استهلاكه، بل نشاطاً إبداعياً تراكمياً يسمح للفرد في كل مرة باكتساب معارف وخبرات جديدة تعمل على دمجه في محيطه الاجتماعي وعالمه النفسي، الوجداني والجمالي.

في هذا السياق ومن قلب الظاهرة الثقافية التقليدية انبثقت الثقافة الرقمية، ومن رحم ظاهرة التواصل الإنساني العامة وما شهدته من تطور انبثق التواصل الثقافي الرقمي كظاهرة فرعية، تستخدم ما أتاحته تكنولوجيا المعلومات من مزايا وإمكانات لتسهيل عملية إنتاج واستهلاك الثقافة عبر الإنترنت وشبكات المعلومات، ففروع الثقافة المختلفة من أدب وفنون وأغانٍ وأنغام وروايات ومسرحيات وكتب وصور وإبداعات عمرانية وتشكيلية جميعها إنتاج ذهني كان في مرحلته الأولى صوراً ورموزاً عقلية لامادية لدى المبدع، ومن ثم أمكن من جديد أن تتمظهر في صور رقمية رمزية لتنتقل عبر نظام الشبكات وأليافها الضوئية فيتم استهلاكها وإعادة إنتاجها.

وبذلك عززت الإنترنت قاعدة انتشار واستهلاك الثقافة رقمياً، إذ رفعت قيود النشر وحلت مشكلة الإمكانات والموارد والبنية التحتية، كما ساهمت في وصول الرسائل الثقافية كبيرة كانت أو صغيرة إلى المجتمع ككل، وصار بإمكان كل فرد أن يكون مستهلكاً للثقافة مثلما يكون منتجاً ومبدعاً لها، بل إن بعض الإبداعات والمواضيع صارت تُنشر ويُعاد نشرها في مئات المواقع، ما ساعد في عملية إشراك الجميع في صناعة الثقافة واستهلاكها، ومن ثم لعبت الإنترنت دور مهادٍ فسيح تهادى فوقه التواصل الثقافي بكل سهولة ويسر، محققاً فضاءً ثقافياً موازياً للفضاء الثقافي الواقعي.

الأمر الذي يبشر بانبعاث ثقافتنا العربية التي ظلت تعاني قروناً طويلة من الضمور والعزلة، فالتفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية، في مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل بل النظرة إلى العالم. هذا العالم القديم الجديد الذي أصبح يتجه حثيثاً نحو الرغبة في استهلاك الثقافة وتذوّقها بمختلف أنماطها وأصولها.

ولا ينمو أي شكل من أشكال الفكر والثقافة إلا بتزايد الطلب عليه وعلى منتجاته وخدماته، وتكنولوجيا المعلومات اليوم تقدم لنا فرصة من ذهب من أجل تنمية الطلب والاستهلاك الفكري، الثقافي والمعلوماتي، ما يجعلنا وأكثر من أي وقت مضى في أمس الحاجة إلى تنمية ثقافية سريعة وعميقة، تساعد على مواجهة تحديات الاستهلاك، والشغف المجتمعي للمنتوج الثقافي المعروض على الشبكات. هذا المنتوج الذي سيتميّز أكثر فأكثر بالانتقال من الفضاء الواقعي والسند المادي، إلى الفضاء الرمزي والسند الخائلي، ومن الفطري إلى المكتسب، ومن البسيط إلى المعقد، ومن التقليد إلى التجديد. كما سوف تترسخ تدريجياً ثقافة الفكر الثقافي النقدي الذي لا يسلّم بأية قضية إلا إذا اقتنع بعقلانيتها، وسيتم كل ذلك في ظل تراجع الثقافة المكتوبة لصالح شيوع الثقافة الرقمية، فمستقبل الثقافة لم يعد مرهوناً بثقافة الرسم والخط والورق فقط، وإنّما ببتات رقمَيْ الصفر والواحد أيضاً.

والحال أنه أمامنا خياران لا ثالث لهما، إما أن ننتج ثقافتنا في حلة رقمية متميزة وجذابة تلائم متطلبات العصر واهتماماته، وإما أن نستوردها جاهزة، بعد أن ينوب عنا غيرنا في صناعتها، مع استبطانها بما لا نرغبه ونشتهيه، فيستقر وينمو في لاوعينا منفلتاً من كل رقابة أو سلطة، ومن ثم ننتسب أكثر فأكثر لثقافة الآخر، ونزيد في أرباح ميزانه الثقافي في مقابل ذلك ننسلخ أكثر فأكثر عن ثقافة بيئتنا، ما سيزيد من اختلال ميزان مدفوعاتنا إن مادياً أو ثقافياً.

ولا خوف على ثقافتنا وهي تسير نحو الرقمية من هواجس الخصوصية والأصالة والهوية، ويخطىء من يعتقد مع ثورة تكنولوجيا المعلومات والولوج إلى مجتمعات الموجة الثالثة، أن حماية الذات الثقافية تكمن في عزلها عن العالم الخارجي وحمايتها من مؤثرات الثقافة الكونية. ذلك أن الثقافة المطلوب حمايتها اليوم من الاغتراب هي ثقافة الإبداع وليس الاستهلاك؛ ثقافة التغيير الشامل وليس ثقافة الجمود والاحتماء؛ ثقافة الوحدة والتكتل بأفقها الإنساني الحضاري، لا ثقافة التشظي والانعزال. فكل ثقافة اليوم ومهما أغرقت في تفردها وأصالتها، ستظل ثقافة منقحة، وحصيلة تلاقح وتفاعل مع الآخر، أكثر مما هي نتاج عبقرية خالصة وصافية.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/868333.html