صحيفة الوسط البحرينية

العدد : 4406 | الإثنين 29 سبتمبر 2014م الموافق 19 رمضان 1445هـ

المردي قبل 42 عاماً في مقال «نعم سأرشِّح نفسي»...

إرادة الفرد العربي هي آخر ما تمثله البرلمانات العربية

التقليب في أرشيف مرَّ عليه أكثر من 4 عقود، لا يرمي سوى إلى قياس منسوب الوعي وقتها. وعي النخبة، ووعي المستقبِلين لخطابها. من المفترض أن الوعي لابد أن يكون تراكمياً. للزمن دوره في طبيعته وأثره وفاعليته. القضايا التي تستجدّ وتبرز على السطح هي الأخرى لها دورها في توجيه ذلك الخطاب وجهةً محددة.

في 10 أغسطس/ آب 1972؛ أي قبل بدء أول انتخابات لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي في تاريخ البحرين، كتب الصحافي والناشر الراحل محمود المردي في صحيفة “الأضواء” مقالين، حمل الأول عنوان “نعم سأرشح نفسي”، والثاني “تقييم القانون” ونشر في الصحيفة نفسها بتاريخ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974؛ أي بعد انتهاء انتخابات “التأسيسي” وحل المجلس الوطني في العام 1973، مع محاولة تمرير قانون أمن الدولة.

في المقال الأول كتب فيما كتب “إن جميع هذه الأساليب قد تكشفت، ولم يعد المواطن العربي يُغرُّ بزائف الوعود، وبهرج العهود. فمنذ أن عرفت البلاد العربية التمثيل البرلماني من أيام طيب الذكر، سعد زغلول، حتى أيام الاتحاد الاشتراكي في العصر الحديث، والبرلمانات ومجالس الأمة في البلدان العربية الأخرى، فإن إرادة الفرد العربي هي آخر ما تمثله هذه البرلمانات والمجالس”.

مقال المردي وعنوانه يتعلقان بالمجلس التأسيسي الذي سيضع أول دستور للبلاد، واستعداد فعاليات ونخب للتقدم بترشيحاتهم للمجلس.

سيأخذ استعراض المقال الأول مساحة أكبر لما حواه من تشخيص، ربما لم يلامس الحالة أو التجربة البحرينية وقتها. أعني تجربة أول انتخابات للمجلس الوطني في تاريخ البلاد بعد رحيل الانتداب البريطاني، وإعلان استقلال البحرين، بعد الاستفتاء الشهير الذي انحاز فيه الشعب البحريني باختلاف مكوناته إلى ذلك الخيار، بعد ادّعاءات إيران زمن الشاه بتبعية البحرين لها. وإن كان يقرأ شيئاً من المستقبل بنظرتين، متفائلة وأخرى متشائمة.

لم يلامس المقالان الحالة البحرينية لأنهما كُتِبا قبل موعد الاقتراع؛ اقتراع المجلس التأسيسي وبعدها بأقل من عام سيقترع البحرينيون العام 1973 لاختيار أعضاء المجلس بأغلبية وصلت إلى 74 في المئة تقريباً، باعتبارهم نواباً للشعب منتخبين، في حين سيمثل الأعضاء المعينون بحكم مناصبهم - الوزراء - بنسبة 26 في المئة من أعضاء المجلس.

المردي في مقاله “نعم سأرشِّح نفسي” في “الأضواء”، وللتذكير، بتاريخ 10 أغسطس 1972، يتناول الحالة العربية عموماً، تلك التي تبدأ للوصول إلى التمثيل النيابي، وخصوصاً من قبل المعنيين المباشرين بالترشّح، وما تكتظ به مقالاتهم وبرامجهم الانتخابية من بيع السمك في البحر، والذهاب إلى المستحيلات في وعود تبعث على الضحك مرة، والتندّر مرة ثانية، واستغفال الناس مرة ثالثة. لنبدأ بمطلع المقال لندخل في تفاصيل لن نجد فيها كبير فرق، على رغم الفارق الزمني بين التجربة الأولى التي لم يكتب لها الاستمرار، لتعود الحالة نفسها بالصيغ والأساليب والوعود، وحتى الاستغفال مع استئناف الحياة البرلمانية في العام 2002.

“نعم سأرشح نفسي... وهذه ليست دعاية انتخابية، ولا بنوداً إنشائية لدغدغة عواطف الناخبين، ولا قصوراً في الهواء لزعزعة آمال المحرومين، ليست كل هذا، لأن مثل هذه الأساليب لم تعد تجدي اليوم بعد أن تكشفت جميع الأساليب الدعائية، لا على مستوى الانتخابات النيابية، ولكن على مستوى المجابهة المصيرية في القضية العربية وعلى جميع الجبهات”.

وقتها كانت الأجواء مرشحة وتنذر بمواجهة مع العدو الصهيوني؛ أي بعد عام إلا قليلاً، ببدء حرب أكتوبر/ تشرين الأول في العام 1973. تلك هي الجزئية التي قفز إليها المردي وأراد إضاءتها، من دون أن يشت كثيراً ليعود إلى النقطة التي بدأ منها، في مقارنة بين التجربة البريطانية والبلدان الأوروبية، وتلك التي تم تهجينها وتفصيلها في العالم العربي، وخصوصاً الدول حديثة الاستقلال.

يقول المردي في الفقرة الثانية من المقال: “ليس القصور طبعاً في النظام الديمقراطي، فنفس هذا النظام تتبعه بريطانيا والبلدان الأوروبية؛ ولكن الفرق بيننا وبين تلك البلدان هو أنها تفرض حكومة عن طريق الإرادة الشعبية المتمثلة في البرلمان، بينما في مجتمعاتنا العربية تجيء حكوماتنا لتفرض البرلمان. هناك عندهم تُفصَّل الحكومة التي تتناسق مع الإرادة الشعبية، وعندنا - وعندكم الخير - تُفصَّل البرلمانات لتتناسق مع الحكومات. لذا فقلَّ أن تجد بين برلماناتنا برلماناً استطاع أن يكون ذا عطاء خاص متميز يضيف إلى الحياة أو المفاهيم السياسية العامة شيئاً ذا قيمة”.

يظل التوجس من التجربة الأولى (المجلس التأسيسي) حاضراً ومهيمناً. ما ذهبت إليه المقالة في توصيفها لا يمكن أن يمتد ويشمل كل الذين يقدمون أنفسهم كممثلين للأمة. هنالك من يجد من دون شك مثل ذلك التمثيل فرصة لوجاهة ومركز اجتماعي، وطريقاً سهلاً للإثراء أو على تقدير، إحداث نقلة في ما هو عليه من عوز وضيق ذات اليد؛ لكن في المقابل هنالك من يتصدى لذلك الدور بعقلانية ما يمكن أن يتعاطى معه من ملفات؛ وخصوصاً أن الدولة لا تخوض التجربتين، الانتخابات التأسيسية والنيابية للمرة الأولى فحسب؛ إذا يكفي أنها نالت استقلالها للتو؛ ويظل نصب عين المترشحين؛ الصادق منهم؛ وذلك الذي يجد في الأمر فرصة، هو ملف الخدمات بالدرجة الأولى؛ لتتبعها ملفات هي طبعاً في الأهمية ذاتها؛ إن لم تكن أهم، تلك المتعلقة بالحقوق والقانون وما يتفرع عنهما.

ترْك هذا الواجب كفْر

“ولكن ما لنا وكل هذا، ونحن الآن على عتبات سنِّ دستور للبلاد يضع الأمور في نصابها؟ أتُرى أن ما ساقني إلى هذا الحديث هو خوفي من أن نكون نحن خبزاً من نفس العجين كما يقولون؟”.

يتحدث المردي في فقرة بعدها عن النفعيين والمستغلين والمحنّطين. يتحدث عن كفر لا يدانيه كفر بالتخلف عن دور وواجب سيرسم مستقبل أجيال سيظل متوقفاً مصيرها عليه.

“من هذا المنطلق، منطق التفاؤل والأمل والاستبشار، سأرشح نفسي لانتخابات المجلس التأسيسي. سأرشحها لا طمعاً في مركز، أو مغنم، أو جاه، وإنما إيماناً مني بأني إن عزفت بنفسي عن الترشيح فسأترك العضوية نهباً للنفعيين والمستغلين والمحنّطين من مخلفات التاريخ. وطالما أن هذا المجلس يناقش الأسس التي ستقرر مستقبلي ومستقبل أولادي، وجميع المواطنين، فإن التخلف عن أداء الواجب فيه كفر لا يدانيه كفر، واستهتار لا يجاريه استهتار بمقدرات هذا الوطن وأبنائه”.

برنامج العمل

من حق أي مترشح أن يضع برنامج عمله لناخبيه. ولأن الاقتراع سيكون على اختيار أعضاء المجلس التأسيسي الذي سيوكل إليه وضع الدستور؛ لن يكون البرنامج مرتبطاً بالخدمات؛ تلك التي يهتم إليها الناس لأنهم محرومون منها؛ وليس دور عضو المجلس التأسيسي في برنامجه الانتخابي وضع مثل تلك العناوين في برنامجه. هنالك عناوين عامة ستكون متضمنة بنود الدستور الذي سيتم التوافق عليه بين أعضاء المجلس. تلك العناوين سترد بتفصيل في الدستور تبعاً بموضوعها وتصنيفها. لذا لم يبتعد معظم المترشحين عن: الحرية والعدل والمساواة. النخبة كانت أكثر التفاتاً لاختزال برامجهم في العناصر الثلاثة.

في الفقرة الأخيرة من المقال يوجز المردي ذلك في الآتي: “برنامجي يتلخص في ثلاث كلمات: الحرية... والعدل... والمساواة. الحرية في أن يقول المواطن ما يراه ويؤمن به، قولاً، أو كتابة، أو عملاً، شريطة أن لا يكون في هذه الحرية استعداء على حريات الآخرين (...) والعدل في أن يكون المواطنون سواسية أمام القانون (...) والمساواة في الحقوق والواجبات. هذه الرقعة من الأرض ملك لمن يرتبط بها لغة وآمالاً وآلاماً...”.

بعد حل المجلس الوطني

إلى فترة الثمانينات والتسعينات، وصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة، وخلو البلاد من مشروع صحافي مستقل يمثل وجهات النظر جميعاً؛ ويتعاطى مع الملفات في حدود المتاح، كان التطرق إلى موضوع حل المجلس الوطني في العام 1973، ضرباً من التهور والانتحار لأن الحل كان ملازماً لمحاولة تمرير قانون أمن الدولة سيئ الصيت وما حدث بعد ذلك من إجراءات. لكن في العام 1974، وبعد كل القراءات المتعلقة بمستقبل المجالس البرلمانية والرؤية التي طرحها المردي؛ خرج المردي في صحيفة الأضواء نفسها بمقال مباشر في كثير من مساحته. كان ذلك بتاريخ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1974. المقال حمل عنوان “تقييم قانون”، وكان العنوان نفسه لم يخْلُ من ذكاء لتمرير مضمونه. الذين عاصروا تلك الفترة ربما يستذكرون السطوة التي تضاعفت للأجهزة الأمنية في ظل فراغ تشريعي، وحل المجلس.

المقال يبدأ بنفي أن يكون مرتكزه شجب قانون أمن الدولة الجديد، في الوقت الذي هو ليس دفاعاً عنه “وإنما محاولة لتقييم أبعاده وشرح الظروف التي أدّت إلى سنِّه والملابسات التي اكتنفت ظهوره وما له وما عليه”.

بعد أن يتناول الراحل المردي حق أي دولة في الاحتياط لأمنها بالقوانين التي تحفظ أمن المجتمع باعتباره واجباً مقدساً “حتى لا يتيه المجتمع في دوامات الفوضى السياسية وحتى لا تنفك عرى استقراره وسلامته”.

يصل الراحل المردي في المقال بعد الفقرة الثالثة إلى تساؤلات تعبّر عن تخوّف لم يخْلُ من الجرأة قياساً بطبيعة المرحلة وقتها.

“إن القول بأن القانون (قانون أمن الدولة) لن يطبق إلا على من يقوم بممارسة فعلية للإخلال بأمن الدولة، قول مردود عليه بأن القانون لا يحدد الأفعال أو الأقوال التي يمكن اعتبارها في نطاق ذلك الإخلال، بل إن القانون بتعميماته الحالية يمكن أن يعطي للسلطة حق (التفسير) لمعنى الإخلال بالأمن، وهو تفسير يمكن أن يخضع للكثير من عوامل الاستلطاف والنفور التي تتنازع النفس البشرية بشكل عام، فكيف بالمسئولين الذين تعرضهم طبيعة اتصالاتهم بالعاملين في النشاط السياسي إلى شتى التأثيرات من هذه العوامل؟”.

ويختم الراحل المردي المقال نفسه بـ “إننا نؤيد صدور قانون لأمن الدولة، شريطة أن يحدد طبيعة المحاذير الأمنية، ويطرق أبوابها بكل وضوح وجلاء، لا أن يجعلها بهذه الصورة التعميمية التي تتيح للسلْطة أن تسيء استعماله في غيبة التحديد والوضوح”.

مرة أخرى، التقليب في الأرشيف لا يرمي سوى إلى قياس منسوب الوعي وقتها. وعي النخبة، ووعي المستقبِلين لخطابها. التعاطي مع اللحظات المفصلية ببشرها مرصود بذلك الأرشيف. لا أحد بمنأى عن التاريخ.

الذين يسجلون موقفاً لا مواربة فيه سيحتلون مكانهم من ذلك التاريخ والذاكرة. والذين يلعبون على المتناقضات والمصالح أيضاً سيكونون تحت رصـد ذلك التاريخ وتلك الذاكرة.


المصدر: صحيفة الوسط البحرينية

تم حفظ الصفحة من الرابط: http://alwasatnews.com/news/924831.html